الدبلوماسية السورية الفائضة
هل هو تأثير النظام الدولي الراهن وما تفرضه موازين القوى من اتجاهات؟

مصطفى عبد الوهاب العيسى – العربي القديم
أثارت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الكرملين، ولقاؤه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين حفيظة العديد من مؤيديه ومناصريه – فضلاً عن بعض أنصار الثورة السورية – بدعوى أن موسكو وقفت إلى جانب النظام السابق، وهذا الموقف لا ينسجم مع طبيعة الثنائيات في العلاقات الدولية، ولا مع الواقعية السياسية التي تبتعد عن المثالية التي تتغنى بها الدول والأحزاب، وقد استغلت وسائل الإعلام، ومعها بعض الإعلاميين المهتمين بنظريات المؤامرة هذه الزيارة لتأويلها على نحو يخدم تصوراتهم ومواقفهم المسبقة.
شِئنا أم أبينا، وحتى لو اعتبرنا ذلك محاولةً لإعادة تعويم نظام الأسد، فإن أستانة روسيا وسوتشي كانا أكثر فاعلية من مسار جنيف – رغم فشل جميع المسارات في تحقيق تسوية نهائية – وحين عجز النظام السابق عن استثمار فرص النجاة وقُبل الحياة التي مُنحت له أكثر من مرة خلال العامين الماضيين، ومع توافر الظروف التي فرضت حتمية سقوطه، لم تتمسك به روسيا وتخلت عنه، وكان ذلك كما هو معلوم السبب الرئيسي في سقوطه دون خسائر فادحة للسوريين أو معارك طويلة الأمد.
عقلية الثورة كانت مطالبة بالمثالية السياسية خلال سنواتها الأولى، غير أن معظم الفصائل الثورية وأطراف المعارضة لم تنجح في تحقيق تلك المثالية، وهذا ما يدفعنا اليوم إلى التساؤل: هل من المنطقي أن تكون عقلية النظام الجديد في دولة منهارة كسوريا مطالبة بمثالية سياسية على نهج كانط أو روسو في بناء الدولة؟
أختلف كليَّاً — كما يختلف كثير من السوريين — مع محاولات شيطنة روسيا على حساب تبرئة الولايات المتحدة وغيرها في الملف السوري وسائر ملفات المنطقة، فالنهج الذي اتبعته روسيا في علاقاتها الخارجية يُعد طبيعياً إذا ما نظرنا إليه من زاوية سياسية بعيدة عن العاطفة كدولة عظمى تسعى وفق استراتيجياتها إلى بناء المحاور، والبحث عن الفرص الممكنة لتثبيت مصالحها، وفرض نفوذها في الشرق الأوسط.
إن مناقشة الملف الاقتصادي السوري ليست بالأمر البسيط، والحكم على السياسات المالية والنقدية التي بدأت تتضح ملامحها لا يمكن أن يكون موضوعياً في ظل توازن دقيق بين فرص النجاح والفشل في المرحلة الراهنة، ولكن ما يلمسه عامة السوريين من ارتفاع في الأسعار، وتراجع في فرص العمل، وضعف في الأجور، إضافة إلى غياب بيئة آمنة بالقدر المطلوب يعكس بوضوح ما يفرضه الواقع الاقتصادي المتردي على ما يمكن تسميته مجازاً “الدبلوماسية السورية الفائضة”.
إن إنهاء الحرب مع أوكرانيا سيفتح أمام روسيا آفاقاً جديدة، ويمنحها مساحةً أوسع للتحرر والتحرك نحو مشاريع أخرى – سواء كانت متوقفة أو حديثة – ومن المتوقع أن يعود الحضور الروسي في الشرق الأوسط، وإن لم يكن بالزخم ذاته كما في السابق، لكنه سيكون بأسلوبٍ مختلف وأكثر واقعية.
صحيح أن روسيا قد لا تكون صاحبة الأثر الواضح في مجالات المساعدات وإعادة الإعمار، لكن إقامة علاقات متينة معها ستُسهم في تعزيز التعاون الصناعي والعسكري، وهذا فضلاً عن إيجاد حلول مرضية لملف الديون والاتفاقيات التي تُعد سوريا ملزمة بمعالجتها بما يضمن مصالح الطرفين.
قدَّر البنك الدولي قبل أيام كلفة إعادة الإعمار في سوريا بنحو 216 مليار دولار، وهو رقم أراه مسيَّساً إلى حدٍّ ما ، إذ يتجاهل عشرات المليارات المرتبطة بقضايا تمس السوريين، وربما يراها البراغماتيون في البنك نوعاً من “الرفاهية” لا أولوية لها.
إن كل ما من شأنه أن يدفع بالاستقرار الأمني ويحقق الحد الأدنى من النمو الاقتصادي المنشود، فإننا سنكون إلى جانبه، ومن هذا المنطلق فإن ما يمكن تسميته “الدبلوماسية السورية الفائضة” تجاه روسيا يُعبر عن رغبة الكثير من السوريين في بناء دولة كما يحلمون بها، وحبذا لو امتد هذا النهج الدبلوماسي النشط ليشمل العملاق الصيني أيضاً.
بعيداً عن روسيا، والتي أُؤيِّد – سياسياً – انتهاج دبلوماسية فائضة تجاهها، فإن تطبيق هذا النهج مع أطراف أخرى قد لا يكون مُبرراً سياسياً من منظور المصلحة الوطنية السورية، ولا من حيث خدمته للاستقرار أو الاقتصاد، بقدر ما يبدو مبرراً لمصالح شخصية لبعض الجهات ورجال الأعمال المرتبطين بسلطة دمشق اليوم، إذ إن مصالح هؤلاء، ومعهم الدول الراعية لهم تدفع باتجاه واقعية سياسية مفرطة تجاوزت في بعض الأحيان حدود الميكافيلية والهوبزية، وهو ما لن يقبله السوريون في ملفات حساسة مثل العدالة الانتقالية أو إعادة تدوير شخصيات من الصف الأول في النظام السابق.
إن ما يدفع سوريا إلى هذه الدبلوماسية الفائضة ليس الاقتصاد بالدرجة الأولى، ولا موجة مبادرات وعمليات السلام التي تشهدها المنطقة، بل هو تأثير النظام الدولي الراهن وما تفرضه موازين القوى من اتجاهات لا يمكن لسوريا تجاهلها.
في الختام…
وحتى تسير الدبلوماسية السورية في المسار الذي ينهض بالبلاد ويُرضي أنصار الواقعية السياسية من دون إقصاء دعاة المثالية ، فإنه لا بُدَّ من إصلاح شامل للبعثات الدبلوماسية السورية في الخارج، بل ويمكن القول في بعض الحالات بضرورة تحريرها من الفاسدين والمتنفذين، كما ينبغي أن تنعكس هذه الدبلوماسية الفائضة خارجياً في شكل دبلوماسية متقدمة داخلياً تُسهم في حل جميع القضايا العالقة مع الأطراف المتحاورة أو المختلفة مع دمشق، وبشكل يُسهم فعلياً في المستقبل القريب بتأسيس نظام وطني وديمقراطي يضمن دستوراً جديداً ومشاركة سياسية حقيقية لجميع السوريين.