الرأي العام

المصباح | قضية لا تحتمل براغماتيتها

العربي القديم – همام البني

في كتابه الوجود والعدم، الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر كتب عن مشكلة يعتقد بأنها طاعون الحياة العصرية أسماها: الاعتقاد السيئ “Mauvaise Foi”، يحدث الاعتقاد السيئ عندما نكذب على أنفسنا من أجل تجنيبها الألم على المدى القصير، لكننا سنعاني من خياراتنا تلك على المدى الطويل، نرغم أنفسنا على الاعتقاد بشي نحن غير مقتنعين به لأنه سهل!

 يعتقد سارتر أن ما نكذبه باستمرار على أنفسنا هو اعتقادنا أننا لا نملك خيارات أخرى، والثمن من ذلك هو إغلاق الفرصة بوجه التغيير في نمط التفكير. سارتر يقول إن الإنسان كائنٌ يسبق الجوهر “Being precedes essence” هذه هي طبيعتنا لا يمكن حصرنا باتجاه واحد، في الاعتقاد السيء نحن نغلق الإحتمالات ونقول لأنفسنا إن هذا هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن نكونه، بالتالي يقوم الاعتقاد السيء بغلق خيارات الحرية.

تُجبر الشعوب والأفراد، على الذهاب في طرق الاعتقادات السيئة، خاصة، في أوقات الكوارث والأزمات الوجودية. طريق، ظاهره معبد بالورود والوعود، لكن نهاية مآلاته وعرة. السوريون، بالتجربة والبراهين، دفعوا ثمن الاعتقادات الخاطئة، بكل شبر بوطنهم وخارجه.

في الخطاب الأول المنتظر، لحسن نصر الله أمين عام حزب الله اللبناني، بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة، مرر عبارة خاطفة، قال إن “فلسطين هي المعركة العادلة التي لا خلاف عليها، هي معركة الإنسانية مئة بالمئة”؛ إذن الخلاف ببلدان ثانية قائم وكبير، حيث المعارك غير الإنسانية وغير العادلة التي خاضها مقاتلو الحزب، أو بالمعنى الأدق، هناك تاريخ معاصر محفور في أرشيف العقول: جرائم، قتل وتهجير لا يسقطان بالتقادم أو بالتلميح.

للشعوب، عكس الأفراد، ذاكرة جمعيّة بطيئة لا تَنسى, كان خطأ حزب الله الإستراتيجي، لحظة قراره منع تلك الشعوب من نيل حريتها والتفكير بقضاياها العادلة. انتصر الحزب تكتيكاً وهزم نفسه تاريخياً وإستراتيجياً، فقد الحزب قاعدته غير “الطائفية”، بالإعلان عن نفسه كحزب “طائفي”، يُقاد من طهران.

اليوم، علينا النقاش مجدداً، في معركة فلسفية قديمة، من يخوض معارك ضد ثورات التحرر، لا يمكن أن يحرر أوطانا، الحزب اللبناني هو من اختار الذهاب باتجاهاته الضيقة، محاولات سحبه إلى الأفق الواسع، تصنف خارج نطاق المنطق الإنساني السليم، إذا كانت بنيات صادقة، هي خطأ يُرتكب من زوايا مُعتمة، لا رؤية بها، القول للضحايا “سامحوه”، قتلكم لكن ها هو يرفع سلاحه على قاتل آخر، وقد يتحرك يوماً ما، ربما، لمنع تهجير إخوانكم، هي رسالة، غرور مبطّن، الأفضل أن تقال الحقائق كما في القلوب، لقد صدعتم رؤوسنا أيها السوريون والعراقيون واليمنيون واللبنانيون، كأنه لم يُقتل بالتاريخ غيركم، اصمتوا الآن.

يختار الإنسان، كالأحزاب والدول الجانب الذي يريد؛ التاريخ وحده الحكم.

عالَم الأخلاق، عالم آني، لا يَغفُر بأثر رجعي، ولا يعنيه كونك مناصر سابق للعدل والإنسانية، استخدام البراغماتية السياسية لتبنّي موقف لحظي غير أخلاقي، تعطي الآخر الحق باستخدام هذه السياسة بموقف مشابه. تَفقد بعدها الإنسانية والشعوب قواسمها المشتركة. الواجب الأخلاقي يصبح على ميزان المصالح.

الأمر ليس شديد التعقيد، كما يحاول له البعض أن يجعله؛ هو بسيط لدرجة أنني لا يمكن أن أكون مجرماً في مكان وإنساناً صالحاً في آخر، أو تحت طَلب مُشغل في مكان ثالث.

“الذين يصيبون، هم الذين ينصتون ويغيرون آراءهم ومواقفهم” هناك دائماً خيط رفيع يفصل بين التطور والجمود، هو العناد. تتعايش الأفكار مع خلايا العقل، تصبح جزءاً منه، يتبناها، يكتب عنها ولها، يدافع عن جدواها وعقلانيتها، لا يتخلى الإنسان عن ماضيه وأجزاء عقله بتلك السهولة والموضوعية؛ يتحول حيناً لواعظ يرشد البشرية إلى طريق الحق المطلق، أحياناً إلى مدع عام يرافع ضد مجرمي الآراء المختلفة، أو باحث عن مجد شخصي في متاهات الإعلام الجديد.

النقطة العمياء تكمن في لحظة تحويل مسار الأفكار إلى الجماهير، هنا تُشكل، الأفكار، الوعي العام “كأخطاء إستراتيجية”، وحده الباحث الشجاع، يمتلك مقاربات التفكير النقدي، ويصحح المسارات. تحدّث لوبون كثيراً في كتابه الشهير “سيكولوجيا الجماهير” عمّا سمّاه العاطفة الدّينية، العاطفة التي أشعلت الانتفاضات الكبرى وأدّت إلى تغييرات صادمة، العقائد ليست فقط دينية، بل قد تكون فكرة سياسية تسيطر على الجماهير. فكرة تملك قوّة مخيفة تجعل الجماهير تخضع لها خضوعاً أعمى، فتمضي بعزم لحماية تلك العاطفة كما تعتبر كلّ من يرفضها عدوّا، الحديث عن “تطرف سني” و”تطرف شيعي” في فلسطين كارثة اليوم… في زمن تتحول معه الشعوب الحرة لفهم أكثر عمقاً عن قضية فلسطين التاريخية، زمن تُرفع به المحاكمات ضد دولة الاحتلال من قبل دول التحرر العالمي؛ كل شيء محسوب، في هذا الزمن، تحديداً، خطورة الأفكار غير المترابطة، مضاعفة.

يتحرك عالمنا بين مجموعة من الأقطاب، تَحكُمها، القوة والضعف، المصالح والقيم، التشابك بينها معقد، لكن الخسارات الكبرى، بوصِلتُها، تضخم الأنانيات الفردانية في قضايا التفكير الجماعي الإنساني.

في روايته الأشهر “كائن لا تحتمل خفته” ميلان كونديرا يأتي قطبا، الخفة والثقل في المركز، ويدور حولهما كل شيء؛ ويصل في النهاية للتساؤل: ما الأفضل، حياة نعيشها متخففين من كل ثقل وشعور بالآخر ومعنى وجوده ومشاعره، أم أخرى ترتسم فيها خطواتنا وفقاً لجاذبية المعاني والثوابت الإنسانية الثقيلة؟

فلسطين وعمليات التحرر الوطني مُثل عليا تشكل ثوابت إنسانية ثقيلة، قضايا نضال طويل ضد الهزيمة، قضايا لا تَحتمل وتُحتمل برغماتيتها.

زر الذهاب إلى الأعلى