مقامات أمريكية | الشرخ السوري الجديد
ثمة شرخ بين المغتربين وبين من بقوا في البلد فهل يجب علينا ردم هذا الشرخ؟

د. حسام عتال – العربي القديم
سألني أحد الأصدقاء، بعد عودتي من زيارتي للوطن، وهو أستاذ جامعي، عن حال ال LGBTQ COMMUNITY في سوريا. لم أدر كيف أجيبه، فاكتفيت بالحركات الثلاث التي أتقنها والتي تدل على جهلي التام: رفعت كتفيّ، ومططت شفتي، وبسطت راحتيْ يدي. هذا، بالطبع، مثال مبالغ فيه لكنه يدل على حالة اجتماعية تفاقمت مؤخراً، حتى أصبحت شرخاً واضحا في المجتمع السوري، يتعمق باضطراد، ويتسع يوماً بعد يوم.
بدأ الشرخ تدريجياً مع بداية الثورة السورية، وبعد التهجير القسري لملايين السوريين (ما يقارب نصف السكان) إما ليعيشوا في مخيمات اللاجئين في دول الجوار، أو إن كانوا محظوظين، أن يجدوا سبيلاً للسفر إلى والإقامة في بلاد الخليج أو أوروبا أو شمال أمريكا وغيرها. وعندما أقول “محظوظين” فأنا هنا أغض النظر عن تفاصيل كثيرة من رحلاتهم في القوارب الصغيرة عبر البحار، أو المشي لأيام في غابات البلقان، أو دفع المبالغ العالية (مدخرات حياتهم بالفعل) للحصول على أوراق اعتمادية أو جواز سفر، ناهيك عن تعرضهم لاستغلال عصابات التهريب، واحتمالات السرقة أو القتل من مجرمي قطاع الطرق. ولكني أفعل ذلك لأنهم في النهاية، وجدوا مخرجا لهم سمح بتحسين حالتهم المادية والمعيشية. فكثيرون منهم استطاعوا الاندماج والعيش بتوافق في مجتمعاتهم الجديدة، وأثبتوا جدارة في الدراسة والعمل والتجارة والإنتاج، مبرهنين أن حالتهم السابقة لم تكن بسبب الكسل او التقاعس، بل بسبب نظام فاسد منعهم من إدراك مقدراتهم وتحقيق أحلامهم وطموحاتهم.
على عكس هذا القوس المتصاعد الذي مر به المهاجرون، نجد أن معظم الذين بقوا في سوريا قد عانوا من وطأة قوس باتجاه آخر، فهو هابط سببه أساساً تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية. وهذا للأسف، لم يتغير بشكل ملحوظ بعد تحرير سوريا، وأنا مدرك لقصر الوقت منذ ذلك الحين، لكن الحالة الاقتصادية ما زالت راكدة بسبب التسريحات الشاملة، وتوقيف صرف المعاشات، وجفاف السيولة النقدية من البنوك، والاستيراد الجنوني للسيارات، والانفتاح غير مدروس لاستيراد البضائع (خاصة التركية)، والتداول غير المنضبط للعملة الصعبة في بسطات الشوارع، ومن صناديق السيارات الخلفية.
ورغم أننا نأمل خيراً بالوزارة الانتقالية الجديدة بطاقمها ذي الكفاءة، لكن لا يمكننا تجاهل أن المواطنين حتى الآن ما زالوا يعانون من شدة الفقر وغلاء لمعيشة وارتفاع أسعار الحاجات الأساسية كالخبز والوقود (رغم توفرها). ورغم الإيجابيات العديدة كإتاحة حرية التعبير، والتنقل داخل البلد، والسفر خارجها، وزوال كابوس الخدمة العسكرية، وتراجع الفساد والرشوة الملحوظين، وإطلاق سراح المعتقلين، لكن هذه رغم أهميتها، لا تطعم خبزا ولا تدفئ الأوصال من البرد، ولا تملأ خزان السيارة بالوقود.
وقد انعكس اتجاه القوسين المتعاكس إلى تناقض في مجالات القضايا والمجالات التي اهتمّ بها كلا الطرفين، الذين رابطوا باقين في الوطن، والذين هجّروا قسراً أو غامروا بالخروج من البلد فأصبحوا من المغتربين. فبينما أصبح تأمين حاجات العيش الأساسية، وتوفير الأمن هي شغل الناس الشاغل داخل سوريا، اتجه المغتربون لقضايا تنظيرية تعكس تأثرهم بقضايا العالم الأول: مواد الدستور، وشكل الحكم، والديمقراطية، والتعددية، والتشاركية، والمحاصصة، والحوار الوطني، والثقافة (أو الثقافوية كما يسمونها)، ونقاش حالة الداعين للإسلام في القصّاع، ومتابعة من صافح وزير العدل، والتدقيق في نص التنبيه الذي أصدره موظف مغمور في مديرية بإحدى البلديات، والانصات بحساسية مفرطة لتغير “النبرة” في مجلس الأمن، وما إلى ذلك… ينظر الناس في سوريا لهذه التنظيرات والمهاترات والفلسفات و التحليلات التي يلتهي بها المغتربين ويتعجبون: هل هم على دراية عملية بحال السوريين الواقعي، هل يقدّرون ما يعانوا به يوما بعد يوم… ويجدون حالهم كحالي عندما استفسر الأستاذ الجامعي عن أمر يهمه بينما هو جاهل بحقيقة الواقع على الأرض. أو كحال صديقة كتبت عند زيارتها لسوريا بكل عفوية وصدق:
“بحس هالبلد متل واحد مسطوح عالارض والدم عم ينزل منه وعم يأكل قتل ورفس وخبط من شلة زعران حواليه… ونحنا واقفين عم نتفرج عليه ونفصفص بزر ونقول: بالله ليش جراباتك خضر مو زرق… ليش الزر مقطوع… ليش القميص مو مكوي.”
ولكي لا نظلم المغتربين فيجب تقدير أن كثيرا منهم قد ضحى بالغلي والرخيص كي يصل إلى وضعية الرفاهية والحرية والكرامة، وضعية تسمح له بالترف أن يتفكر في أمور تتجاوز الحاجات الأساسية في الحياة. ومما لا شك فيه أن جزءاً جيداً من المغتربين قد قضوا سنوات طويلة في بؤس المخيمات قبل أن يتمكنوا من الهجرة، وعانوا من العنصرية، وسوء المعاملة، وغياب الرعاية الصحية، وحتى أبسط الحقوق الإنسانية في التعليم والتنقل، وخسروا سنوات من العمل، ناهيك عن التفتت الاجتماعي والعائلي الذي لم يجدوا طريقة لتفاديه. فرحلتهم لم تكن مفروشة بالورود كما يعتقد بعض المرابطين في البلد. وفوق ذلك علينا الإقرار بأن تبرعات الجالية السورية من المغتربين كانت إحدى أهم مصادر الدخل في سوريا خلال الحرب وبعدها. وهذه ليست منّة، إنما هي واجب قام به بإخلاص كل سوري قادر.
ومن المنطقي أن السؤال الذي يطرح نفسه مباشرة الآن هو: كيف نردم هذا الشرخ بين ما هو مهم للمرابطين في الداخل وبين شطحات المغتربين في الخارج؟ قبل التسرع في إيجاد الإجابة، سأطرح سؤالاً آخر أعتقد أنه الأهم وهو: هل يجب علينا ردم هذا الشرخ؟
أنا أعتقد أنه يجب عدم ردمه لعدة أسباب: أبسطها أنه أمر طبيعي، ولو أنه لم يحصل لكان الأمر شاذاً: كيف يمكن أن نتوقع من الشخص الذي انتقل من بيئة لأخرى (خاصة وأنها مغايرة لبيئته الأصلية) ألا ينمو نفسياً، ويتأقلم اجتماعياً، ويتعلم مهارات جديدة، وأن يفكر بشكل مختلف، ويتخلى عن عادات ويكتسب أخرى، ويتمثل أعرافاً لم تخطر له في السابق؟ لو لم يفعل ذلك لكان أحمقاً أو أعمى وأصم. لكن أهمها هو أننا فعلاً بحاجة لهذا التفاوت في الرأي والمقاربة والتجارب. ففي الوقت الذي تخرج فيه سوريا من عزلة فكرية وفاقة معرفية سببتها سلطة خادعة، ألغت كل ما هو مغاير أو مختلف، وأنكرت أبسط قوانين الحياة الطبيعية؛ في هذا الوقت نحن بأشد الحاجة لمواجهة بعضنا البعض بصدق وصراحة وندّية. هذا سينتج بعض الاضطراب والتشويش والفوضى، وقد لا يكون مريحاً للجميع وفي كل الأوقات، لكنه ضروري كي ننتقل من مرحلة الاعتماد على فرد واحد يتخذ كل القرارات، إلى مجتمع حي قادر على مواجهة الاختلاف، وتحمل التوتر، والقبول بحرية الآخرين، بما يتضمن حرية الشكوى والاحتجاج والفلسفة والتنظير، وحتى حرية الطائفية والكراهية، طالما أنها ضمن القانون ولا تضر بالمصلحة العامة. من هذا المنطلق، قد يكون هذا الشرخ هو المحفز الذي يجلب طاقة الانقلاب والتغيير والتجديد التي طالما حلمنا بها، فلنحتفل به لأننا بحاجة ماسة للاحتفال بشيء ما بعد سنوات البؤس والشقاء الذين خيمت علينا لأمد طويل.