مِن أَنْسَنَةِ الحيوان إلى حَيْونَة الإنسان... خمسة وعشرون ألف سنة من تاريخ البشريَّة
بقلم: مهنَّا بلال الرَّشيد
يشير مفهوم الأنْسَنَةِ إلى دلالات متعدِّدة، ويدلُّ أبرزها على محاورة الحيوانات ومخاطبة الطُّيور والجمادات والمخلوقات الأخرى بعبارات مجازيَّة وجُملٍ أدبيَّة وأقوال فلسفيَّة؛ فتبدو هذه الأشياء كأنَّها بشر يسمعون، ويفهمون، ويُحاورون؛ وأنتج تطوُّر هذا النَوع من الأنسنة نصوصًا أدبيَّة عالميَّة شامخة مثل ملاحم جلجامش والإلياذة والأوديسة، وأسهب امرؤ القيس وعَنترة العبسيِّ في حوار فرسَيْهما، وكان شعرهما نموذجًا جميلًا من نماذج الأنسنة. وكذلك أسهمت الأنسنة في تطوُّر الفكر البشريِّ حين راح قُدماء الفلاسفة يتأمَّلون في أصل هذا الوجود (التُراب، والماء، والهواء، والنَّار)، ويبحثون عن أصله وخالقه، وراح كلُّ واحد منهم يحاور الأشياء، ويناجي ربَّه، الَّذي يؤمن به وفقًا لخياله وتصوُّراته، وللأنسنة معنى آخر يرتبط بتدجين بعض الحيوانات أو تربيتها أو الأُنسِ بها للاستفادة منها، وإن أسهمت الأنسنة بوصفها تشخيصًا أو خيالاً أدبيًّا في نموُّ الذَّائقة الفنِّيَّة وتطوُّرها فقد أسهمت الأنسنة-كذلك-بوصفها نوعًا من أنواع تربية الحيوانات وتدجينها في تطوُّر حياة البشر ذاتها عندما استفاد الإنسان من حليب الحيوانات المدجَّنة أو من صوف الحيوانات المؤنسنة، كما حملت هذه الحيوانات المدجَّنة أثقال البشر وبضائعهم، وعبرت القوافل من مكان إلى آخر، كما تغذَّى البشر على لحومها، واستفادوا من عِظامها وجلودها، وقبل الحديث عن أقدم الحيوانات، الَّتي أنسنها البشر أو دجَّنوها سنتكلَّم على:
القوارب النَّهريَّة أقدم وسائط النَّقل:
لا يحتفظ تاريخ البشريَّة إلَّا بحدثين مهمَّين قبل اختراع القوارب؛ هما: اكتشاف النَّار وتوظيفها قبل حوالي (300000) سنة، ثمَّ تعارف البشر وتزاوج الأقوام المتباعدة وظهور الطَّفرة الوراثيَّة لدى إنسان الكلام أو الإنسان العاقل قبل (35000) سنة من وقتنا الرَّاهن تقريبًا. أمَّا اختراع القوارب النَّهريَّة فتشير الدَّلائل إلى ظهوره قبل حوالي (20000) ألف سنة من وقتنا الرَّاهن على وجه التَّقريب، وقد يتفاجأ المرء إذا عرف أنَّ وسائط النَّقل البحريَّ والنَّقل النَّهريَّ ظهرت قبل وسائط النَّقل البرِّيِّ بآلاف السِّنين برغم هيمنة وسائط النَّقل البرِّيِّ وانتشارها على نطاق واسع في وقتنا الرَّاهن؛ فالإنسان يتنقَّل بالعربات والسَّيَّارات والدَّرَّاجات والخيول مئات المرَّات، وقد لا يسافر إلَّا مرَّة واحدة أو مرَّتين بالطَّائرة أو السَّفينة على مدار العام، والحقُّ إنَّه لمن الطَّبيعيِّ جدًّا أن يسبق ظهور وسائط النَّقل النَّهريَّة والبحريَّة ظهور وسائط النَّقل البرِّيَّة؛ لأنَّ ظهور الإنسان الأوَّل أو خلقه الأوَّل كان في جزيرة، لأنَّ الماء والجليد كانا يغطِّيان سطح الأرض، وعندما ذاب الجليد، وانقشع الماء، وتشكَّل الطِّين؛ ظهر البشر والمخلوقات الأخرى بأمر الله في هذه الجزيرة؛ فوجدوا أنفسهم محاطين بالماء من كلِّ جانب، وعندما تصحَّرت هذه الجزر، وفقدت خصوبتها، استوطنوا بجوار الأنهار؛ ليشربوا من مائها، ويأكلوا من ثمار الأشجار والنَّباتات على ضِفافها، وتتغذَّى حيواناتهم على الأعشاب في السُّهول الواسعة على ضِفاف الأنهار.
مدَّ البشر جذوع الأشجار بين ضفَّتي النَّهر، وصنعوا جسورًا ليعبروا فوقها من ضفَّة إلى أخرى، واكتشفوا قانون طفوِّ الأخشاب فوق الماء؛ فحوَّلوا جذوع الأشجار إلى قوارب وزوارق راحوا يركبونها لصيد الأسماك والتَّنقُّل من مكان إلى آخر، وهذا ما يفسِّر وجود أقدم الحضارات البشريَّة في الشَّرق القديم على ضفاف نهر النِّيل وفي سهول ميزوبوتاميا أو بلاد الرَّافدين أو بلاد ما بين النَّهرين (دجلة والفرات)، ولأنَّ الأجداد استوطنوا على ضفاف الأنهار تشكَّلت المستوطنات على ضفافها، وانتشرت أقدم الطُّرق البرّيَّة بجوارها للرَّبط بين سُكَّان هذه المستوطنات البشريَّة الأولى؛ وهنا نكتشف الأسباب الَّتي دفعت إبراهيم-عليه السَّلام-لاختيار طريق طويل حين رحل من (أور وبابل) جنوب العراق إلى مكَّة المكرَّمة؛ فلم يعبر-عليه السَّلام-طريقًا قصيرًا يمتدُّ من بادية الشَّام أو صحراء الرُّبع الخالي إلى مكَّة المكرَّمة، بل صعد عبر نهر الفرات والطُّرق البرِّيَّة الموازية له من بابل إلى الميادين ودير الزُّور ثمَّ الرَّقَّة وأورفا ثمّ نزل إلى (مسكنة/إيمار) و(حلب/يمحاض/Aleppo) و(إدلب EBLA)، ثمَّ نزل إلى حماة فحمص فمدينة الخليل في فلسطين ثمّ عبر غزَّة إلى مصر، واستوطن أخيرًا في وادٍ غير ذي زرع في مكَّة المكرَّمة، وقد اختار هذا الطَّريق الطَّويل لسبب واضح جدًّا لدينا؛ ولم يكن ذلك إلَّا لوجود الطُّرق البرِّيَّة الَّتي توازي الطُّرق النَّهريَّة الرَّابطة بين مستوطنات أجداد إبراهيم-عليه السَّلام-من الأموريِّين المنتشرين في سهول بلاد ما بين النَّهرين وعلى ضفاف العاصي واليرموك والأنهار الأخرى.
تدجين الكلب صديق الإنسان المخلص الوفيِّ:
كان الإنسان بدويّاً صائداً جامعاً، يرحل صيفاً بسبب القحط والجفاف من اليمن والجزيرة العربيَّة إلى منابع دجلة والفرات في الجزيرة الفراتيَّة العليا، وينزل شتاء بسبب البرد إلى اليمن والجزيرة العربيَّة، ويسلك طرقاً تجاريَّة مشهورة أثناء رحلتي الشِّتاء والصَّيف، وكانت مدينتا (إدلب EBLA) شمالًا وغزَّة جنوبًا تقعان على تقاطع طرق الهجرة والتِّجارة الغربيَّة، وتقع مدينتا تدمر وماري على تقاطع طرق الهجرة والتِّجارة الشَّرقيَّة؛ ومن هنا أتت أهمِّيَّة هذه المدن والحضارات القديمة فيها؛ وبسبب كثرة الهجرة والحلِّ والتِّرحال كان البكاء على أطلال البيوت المهجورة والحديث عن رحلة الظَّعائن من أشهر مواضيع الشِّعر العربيِّ القديم؛ وذلك لأنَّ الأدب والأديب ابن بيئته ومرآة واقعه حتَّى وإن حلَّق في نصِّه الفنِّيِّ بخياله الأدبيِّ المجنَّح إلى آفاق بعيدة.
عثر البشر بجوار خيامهم على جِراء صغيرة من أبناء الذِّئاب، تركتها حين كانت تبحث عن بعض العِظام بجوار الخيام البشريَّة في سنوات القحط والجفاف، فأخذ البشر هذه الجِراء، وأطعموها، وربُّوها حتَّى كبرت؛ فكانت وفيَّة أكثر من بعض البشر، أخلصت لِمن رعاها وربَّاها؛ فراحت تحرس خيامه، وعندما درَّبها البشر على الصَّيد راحت تعدو خلف الطَّرائد، وتكسب القوت لها ولأصحابها في خيامهم، وقد احتفظ لنا مِخيال الشَّاعر العربيِّ بنصوص شعريَّة مذهلة تلخِّص قصَّة الإنسان مع الذِّئب وأبنائه من الكلاب الَّتي دجَّنها البشر أو أنسنوها، وتعايشوا معها؛ فها هو الفرزدق يقول في وصف صداقته مع ذئب اقترب من ناره في الصَّحراء، وراح يلتمس منه بعض الشِّواء؛ فقال:
وأطلسَ عسَّال وما كان صاحبًا دعوتُ بناري موهنًا فأتاني
فلمَّا دنا قلتُ: ادنُ دونَكَ إنَّني وإيَّاك في زادي لمشتركانِ
فبتُّ أقدُّ الزَّادَ بيني وبينه على ضوءِ نارٍ مرَّة ودخانٍ
فقلتُ له لما تكشَّر ضاحكًا وقائم سيفي من يدي بمكانِ
تعشَّ فإن واثقتني لا تخونُني نكن مثل مَن يا ذئب يصطحبان
والحقُّ لم يكن الفرزدق يخشى من صفة الغدرِ عند الذِّئب لأنَّها صفة تربويَّة أو أنانيَّة مكتسبة بقدر ما كان يخشاها لأنَّها نزوع أنثروبولوجيٌّ أو صفة وراثيَّة؛ ولهذا قالت امرأة بدويَّة عربيَّة في ذئب أكل نعجتها عندما جاع، بعد أن ربَّته بجوار خيمتها زمنًا طويلًا:
أكلتَ شويهتي وفجعت قلبي وأنتَ لشاتنا ولدٌ ربيبُ
غُذيتَ بِدَرِّها وربيتَ فينا فمن أنباك أنَّ أباكَ ذيبُ؟
إذا كان الطِّباعُ طباعُ سوءٍ فلا أدبٌ يفيدُ ولا حليبُ!
بين أنسنة الحيوان وحيونة الإنسان:
نعم، الكلبُ وراثيّاً وأنثروبولوجيّاً ابن الذِّئب؛ حيوانٌ جميلٌ مخلصٌ ووفيٌّ، لا يغدرُ بأهله إلَّا إذا هدَّده الجوع الشَّديد بالموت، وأجبره على التَّكشير عن أنيابه وإظهار شراسته وغريزته الحيوانيَّة، هو حيوانٌ واضح وصريح وفيٌّ حدَّ الموت، بعكس بعض البشر الانتهازيِّين، الَّذين يضحكون بوجوهنا، وينصبون المكائد والفِخاخ ويحفرون لنا الحفر والأنفاق من خلف ظهورنا، وكم كانت اللُّغة العربيَّة جميلة حين سمَّت المنافق بهذا الاسم انطلاقًا من تشبيهه بالجربوع المنافق الَّي يحفر الأنفاق تحت الأرض للهرب والخداع!
والحقُّ إنَّ مواجهة الذِّئب الشَّرس مواجهة علنيَّة واضحة أشرف بكثير من مواجهة الإنسان المخادع المنافق المحتال، الَّذي تَحَيْوَنَ، وصار ثعلباً مراوِغاً، أو جربوعاً منافقاً، أو صار حماراً غبيّاً لا يقدر على تمييز صديقه الَّذي يرعاه أو يدرِّبه، ويعلِّمه، وينشر عنده بعض الوعي، من عدوِّه الذَّي يدغدغ مشاعره، وينصب له الفخاخ؛ ليستعبده دهراً، ثمَّ يرميه للحيوانات المفترسة، وبمثل هذا العداء لأيِّ فكرة تنويريَّة إصلاحيَّة يتعاطف بعض البشر مع مَن يلعب على مشاعرهم، ويعادون من يكشف لهم حقيقة غبائهم، وبعضهم يشبه الحمار، الَّذي يرفس صاحبه إذا لسعته ذبابة على أنفه، مع أنَّ صاحبه هو الَّذي ينظِّفه في اسطبله، ويقدِّم له الماء والطَّعام، وبمثل هذه الطَّريقة تَحَيوَن بعض البشر، وصاروا أشراراً، وأنا أعتمد ههنا على عنوانين مشرقين لجورج أوريل: (مزرعة الحيوان) وممدوح عدوان: (حيونة الإنسان)؛ نعم، تحيون الإنسان، وتأنسنت بعض الحيوانات مثل الكلب، الَّذي ظلَّ وفيّاً لصاحبه، وراح يصيد له، ويقاتل الثَّور البرِّيِّ في معركة شرسة؛ ليكسب لصاحبه (الكلَّاب – مربِّي الكلاب) قوت يومه، وقد صوَّر النَّابغة الذُّبيانيُّ مشهدًّا مذهلًا لكلبين من كلاب الصَّيد، وهما يقاتلان ثوراً برِّيّاً من أجل صيده لصاحبهما الكلَّاب؛ فقال في الكلبين وهما يصيدان ثوراً وحشيّاً من ثيران وادي وَجْرَة:
مِن وحشِ وجرة موشيٍّ أكارعه طاوي المصير كسيف الصَّيقلِ الفَرِدِ
فارتاع من صوتِ كلَّابٍ فبات له طوع الشَّوامت من خَوفٍ ومِن صَرَدِ
وكان ضُمرانُ منه حيث يوزعه طَعنَ المُعارِكِ عند المَحجَرِ النَّجُدِ
شكَّ الفريصة بالمِدْرى فأنفذها طَعنَ المبيطرِ إذ يَشفي من العَضَدِ
الكلاب والذِّئاب والأسود والحيوانات الأسطوريَّة حرَّاس المعابد والبوَّابات:
حرس الكلبُ الوفيُّ خيمة صاحبه، وميَّز رائحته من رائحة كلِّ شخصٍ غريب أو عدوٍّ يداهم الخيمة؛ ولذلك كان هذا الكلب أقدم (كاميرا مراقبة أو آلة تصوير استعان بها الإنسان للمراقبة)، وعندما بسط الكلب ذراعيه بالنَّوم أمام خيمة البدويِّ أو أمام كهف أهل الكهف شعر أهله وأصحابه بالأمن والأمان؛ لأنَّ من يحرسهم مخلوق وفيٌّ، وبمثل هذا شعر فنَّانو (كوبكلي تبَّه) في حرَّان وأورفا عندما نحتوا صور العقارب والأسود والأفاعي على مداخل هذه القرية الزِّراعيَّة الأولى، شعروا بأنَّ هذه المنحوتات سوف تُخيف الأعداء والحيوانات المفترسة؛ سوف يشعرون بوجود من يَحرس هذه البوَّابة؛ ولهذا نحت البابليُّون الثَّور الآشوريَّ المجنَّح (لاماسو) على بوَّابات ممالكهم، ولمثل هذا الغرض تقريباً نحت الفراعنة تمثال أبي الهول، ولشيء من جلال الأنثروبولوجيا وجمالها نفهم بعض أسباب سعادتنا، ونحن نسمع الرَّحابنة، وهم يغنُّون:
باب البوّابي ببَّابين قفولي ومفاتيح جداد
وعالبوَّابي في عبدين اللَّيل وعنتر بن شدَّاد
تدجَّنت الكلاب، وتأنسنت، ونبحت على الأعداء، وظهرت كناية جميلة من كنايات الشِّعر العربيِّ، تشير بشكل مباشر أو غير مباشر إلى بخل صاحب الكلب النَّبَّاح؛ فهذا الكلب لا ينبح كثيراً إلَّا لأنَّ صاحبه لم يعتد على استقبال الضُّيوف في خيمته، ولم يعتد كلبه على شمِّ روائح الأشخاص الغرباء، وهم يقدمون إلى خيمة البخيل؛ لذلك عدَّ النُّقَّاد قول حسَّان بن ثابت واحدًا من أعلى أشكال المدح، حين كشف عن كَرَمِ ممدوحه، وقال: إنَّ كلب هذا الرَّجل اعتاد على كثرة الضُّيوف وروائح الأشخاص الغرباء، والدَّليل على ذلك أنَّ كلبه لا ينبح على الغرباء، أمَّا كلب البخيل الَّذي لم يعتد على شمِّ روائح غير روائح أصحابه في الخيمة، فهو ينبح كلَّما شمَّ رائحة شخص غريب؛ فقال:
يُغشَون حتَّى ما تهرُّ كلابهم لا يسألون عن السَّوادِ المقبلِ
أمَّا صحيفة ليبيرو الإيطاليَّة فقد أشارت إلى بُخْل نتنياهو ونُباح حسن نصر الله؛ كلب الحراسة على بوَّابته الشِّماليَّة حين كتبت عنواناً عريضاً على صفحاتها، وقالت بعدما قصف نصر الله عموداً من أعمدة إسرائيل: (نصر الله ينبح ولا يعضُّ).
في الختام رأينا كيف اخترع الإنسان الزَّورق أو القارب قبل (20000) ألف سنة من وقتنا الرَّاهن، واكتشفنا أنَّ النَّقل البحريَّ أقدم من النَّقل البرِّيِّ بوقت طويل، وعرفنا أنَّ الإنسان دجَّن الكلب قبل حوالي (15000) سنة من وقتنا الرَّاهن، وخلال هذه المرحلة الطَّويلة بين (35000-10000) قبل الميلاد؛ أي خلا (25000) سنة بعد ظهور إنسان الكلام، اخترع الإنسان القارب، ودجَّن الكلب، واخترع بعض السُّيوف والرِّماح والحِراب وأدوات الصَّيد؛ لكنَّ أعظم ثورة في تاريخ الحضارة سوف تحدث حوالي (10000) قبل الميلاد، وسوف نتحدَّث عنها في المقال القادم.