الرأي العام

أحد عشر سورياً في مكتبة

الصراع والتناحر يبدوان وكأنهما صناعة آخذة في النمو في عالم اليوم

عبد الرزاق دحنون – العربي القديم

أحد عشر سورياً جمعتهم لحظة تاريخية فارقة -من الفِراق- في أوائل شتاء عام 2014، وكأنّ الزمن توقّف بهم كما لو أنهم في صورة فوتوغرافية بالأسود والأبيض، معلّقة، تستأنس بالجدار، أو يستأنس الجدار بها. تصادف أنّهم تفرّقوا في أصقاع الأرض بعد زمن يسير من ذلك الاجتماع. أحد عشر صديقاً اجتمعوا في مكتبة -بالكاد اتسعت لهم- في زقاق المسيحيين في مدينة إدلب. كلهم رحلوا عن ديارهم ولم يشبعوا من الحياة بعد، لم يسافروا كثيراً، لكن القوارب كانت تمخرُ أحلامهم، تزوج بعضهم، ولم يتزوج كلهم. وتعال فتّش عن طريقة تجمعهم من جديد في المكان والزمان عينه، يا ليت، ما جمعهم هي عين المصوّر الذي صوّرهم. 

ما يجعل هذه الصورة الفوتوغرافية نادرة تحكي تلك اللحظة التاريخية المميزة تنوع أطياف من في الصورة من أصدقاء. أحد عشر صديقاً من شمال بلاد الشام، من كل الملل والنحل. فيهم: العربي، والكردي، والشركسي، والتركماني، والآشوري، والكلداني، والسرياني، والأرمني. وأما عن مشاربهم السياسة والدينية فحدّث ولا حرج. سوريون اجتمعوا في هذه المكتبة الصغيرة وقوفاً، حيث لا مكان للجلوس، واستمر الجدل ساعات في البحث عن صيغة تعايش في وطن مساحته فقط 185 ألف من الكيلو مترات المربعة، تضمّ هذه الحشد المؤتلف من الملل والنحل إلى بعضا كحبات المسبحة. فهل وصلنا إلى ذلك الخيط المتين الذي يجمعهم معاً، لأن الخيط إذا انقطع “فرطت” حبات المسبحة على قارعة الطريق، وتعال لمها من جديد إن كنت تستطيع؟ ساعات من جدلٍ أظهر ما فيه الخلاف، اختلفوا حتى في أبسط تفصيل، اختلفوا في كتابة الاسم هل هو سوريا أم سورية. أحد عشر صديقاً في مكتبة بالكاد اتسع لهم، والنتيجة النهائية كلّ واحد منهم له وجهة نظره الخاصة في هذه المسألة التي استعصت على الحل.

 أتذكّر أنّه في ثاني لقاء له قال “كوفي عنان” مبعوث الامم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى سورية يوم السبت 11مارس/آذار 2012: قمتُ في حديثي بحثّ الرئيس على العمل بالمثل الافريقي الذي يقول: لا يمكنك تغيير اتجاه الريح ولذا غير اتجاه الشراع. وأضفتُ: البلد بحاجة الى اجراء تغيير وإصلاح سيدي الرئيس.

هل استجاب رئيس البلد لهذه النصيحة؟ كلا، لم يستجب. ماذا لو استجاب تلك الأيام هل كُنّا نصل إلى بر الأمان؟ هل أستطيع رواية حكاية؟ تفضل، وماذا نفعل غير رواية القصص والحكايات؟ هات أسمعنا: قرأتُ في أحد الكتب بأن المدير الياباني يشجع على إقامة تمثال من المطاط لشخصه الكريم حيث يوضع في مكان ظاهر في الشركة، ويستطيع أي موظف حانق من أوامر المدير وتعليماته توجيه القدر الذي يريده من اللكمات إلى وجه مديره. وبذلك يُنفّس عمّا في داخله من غضب، ويشعر بالسعادة والمرح. هذه طريقة يابانية صادقة وجيدة، والتي يمكن من خلالها معالجة الاختلافات التي تنشأ بين الناس، فهذا المدير يريد من العاملين في شركته أن يقوموا بواجبهم، وأن يحترموا قوانين الشركة، ويريد أن يصل معهم إلى حل تفاوضي مريح للجميع، لا إلى حرب مستمرة مريرة. وما ينطبق على حالة المدير ينطبق على كافة سياقات الحياة. والسؤال المطروح كيف نصل إلى اتفاق بعد حرب أو نزاع مرير؟

الصراع والتناحر يبدوان وكأنهما صناعة آخذة في النمو في عالم اليوم، فالأطراف المتناحرة ترفض أن تُملى عليها القرارات والخطوات الواجب اتخاذها لفض النزاعات، ولكن الطرق التقليدية التي اعتاد الناس على انتهاجها وتوظيفها في تفاوضهم في كافة شؤون الحياة عادة ما تؤدي إلى الوصول إلى حالات من عدم الرضا واستنزاف الطاقات بلا طائل. وفي حالة أي نزاع سواء كان نزاعاً عائلياً، أو خلافاً تجارياً، أو على اتفاقية سلام، أو صراعاً اجتماعياً سياسياً، أو على حصة نهر مشترك بين الدول، أو حتى حرباً ملعونة، أهلية كانت أو طائفية أو عالمية، فإنه ليس من الصالح أن يقوم كل طرف بتبرير موقفه واستحضار الحجج والبراهين لإثبات مشروعية موقفه فقط.

من المتعين على كل طرف أن يتجنب تبني موقف مفاده: أنا المصيب على طول الخط، وأنت المخطئ على طول الخط، فمثل هذا الأداء التفاوضي لن يؤدي عادة إلى حل النزاع بل سيزيد من تفاقمه، ومن ثم فلا بد أن تنتقل الأطراف من هذا الوضع إلى معالجة القضايا بقدر من النزاهة والعدالة وحرص على وجود جسور للتفاهم، فكلما دافعت عن موقفك لمجرد الدفاع عنه أصبحت عرضة للتورط في الدفاع عن أوضاع خاطئة وغير نزيهة.

في هذه الحال علينا أن نتجنب المباراة الصفرية وهي التي تصل فيها درجة الصراع إلى تبني منطق تعامل مفاده: لا بد أن أجعل الطرف الأخر يخسر كل شيء، وأن أكسب أنا كل شيء، أي أن الأمر ينبغي أن يكون إما رفضاً مطلقاً، أو قبولاً مطلقاً، قاتلاً أو مقتولاً، ويمثل قرار الدخول في مثل هذه النوعية الصفرية من التفاوض النقيض التام لأي محاولة إيجابية لإدارة الحوار التفاوضي اجتماعياً وسياسياً، فمفهوم المنافسة والمسابقة  طبقاً لهذه النوعية من المباريات لا يكون عادة من خلال الاستعداد والارتفاع بقدرات ومهارات الأداء التفاعلي، وبذل الجهد المطلوب لتحقيق الهدف بطريقة شرعية وإنسانية، بل إن الفوز عادة ما يتحقق طبقاً لتلك المباراة الصفرية من خلال تدمير وتشويه الآخر, أي أنها مباريات قد تصل في تصاعدها إلى النقطة التي يتحول فيها الحوار إلى مباريات (ثقافة القتل) والتي تُستبدل فيها عادة  لغة  الحوار بلغة الرصاص.

زر الذهاب إلى الأعلى