حيدر حيدر وأدبه: هل الروائي بريء من نصوصه؟
العربي القديم – إياس يوسف
مقولة رولان بارت التي أعلن فيها موت المؤلف التي كتبها منذ أكثر من نصف قرن لتبرئة الكاتب من أقلام بعص النقاد وانتصارا للغة وللبنيوية التي كان أحد منظريها، باتت مقولته تطل علينا كلما أراد واحد من النقاد الدفاع عن كاتب ما وتبرئته من رؤئ سياسية ودينية وحتى طائفية بثها في نصوصه عبر حوارات بين شخصياته الروائية خلقها لتؤدي دورها وتوصل ما يريد إيصاله للقارئ من تلك الأفكار والرؤى ليموت بعدها وتنقطع صلته بنصه كما رأى بارت.
ولكن هل الروائي بريء حقا من آرائه ودلالاته المتعددة في نصوصه التي كتبها؟ وأن من يتحمل المسؤولية هي شخصياته المتخيلة ولغته؟
الناقد أحمد عزيز الحسين دافع عن حيدر حيدر من خلال مقالة له بعنوان (آلية تلقي حيدر حيدر في الفضاء الثقافي العربي) نشرها في القدس العربي بتاريخ 26/1/2024 وحاول تبرئة الروائي الراحل حيدر حيدر من أفكار شخصياته ورسائل نصوصه، انطلاقا من مقولة رولان بارت حول “موت المؤلف” استخدمها كحجة دامغة على دحض آراء تنظيمات إسلامية (كالأخوان المسلمين) ومؤسسات دينينة (كالأزهر) وإن كنا لانتفق معهم فيما أفتوه وقالوه بحق حيدر من تكفير وتأليب العامة عليه، وذلك بسبب سبه للذات الإلهية على لسان بطل رواية (وليمة لأعشاب البحر). فاتهمهم مع النقاد الذين توقفوا عند مقولات حيدر في نصوصه الروائية وجمعهم في سلة واحدة بقوله عنهم:
” معظم الذين قرؤوا حيدر لم يتجاوزا القراءة المغلقة للنص الأدبي، وأن المعطيات المنهجية وآليات التلقي تغيرت عن ذي قبل” وواصفا الجميع بالدوغمائيين، وهو وصف مفهوم بالنسبة لحماسه الدفاعي الواضح الذي يستدعي التعامل مع الرأي الآخر على هذا النحو، من خلال تفسيره وإيضاحه المبسط جدا بأن مهدي جواد بطل (وليمة لأعشاب البحر) ليس الكاتب حيدر حيدر أو ناطقا باسمه، وإنما هو شخصية فنية متخيلة تحمل الفكر الشيوعي وأن ما نطقت به ينسجم مع ذلك الفكر، وكذلك رأى أن ذات الآلية الأخوانية والأزهرية استمرت حين قرأ بعض النقاد روايته (مفقود) 2016 “إذ حرصوا على تلمس المذهب الديني لصاحب شموس الغجر…. ولم يروا في هذه النصوص جميعا سوى أن صاحبها علوي المذهب”، ويرى أن الناقد محمد منصور دمغ رواية (الزمن الموحش) بوصمة الطائفية من خلال ماورد في افتتاحية الرواية، رغم أن العبارة ترد على لسان الشخصية الروائية لا على لسان حيدرنفسه، إذ وصفه الناقد منصور بأنه الروائي الأكثر طائفية ووضوحا بين كتاب طائفته. (من خلال منشور كتبه على صفحته الشخصية على صفحته يوم وفاة حيدر).
وتوقف أحمد عزيز الحسين المدافع عن حيدر عند مقولات للناقد مراد كاسوحة في كتابه (المنفى السياسي في الرواية العربية) حين ساوى بين الرؤية الإيديولوجية المسبقة التي تحكم رؤية الكاتب والرؤية المشكلة في نصه معتبرا أن كل نص ينبغي أن يجسد الدلالة التي ابتغاها صاحبها منه، وأن هذا قد تجاوزه النقد منذ خمسين عاما ونيف بعد مقولة بارت.
نعم… لا أحد ضد حرية الرأي كما أننا يجب أن لانظلم الآخرين حين ندافع عن كاتب ونفند آراءه في أدبه . ولكن أن يضع الناقد أحمد عزيز الحسين آراء الأخوان والأزهر المتطرفة بحق حيدر ورأي محمد منصور وغيره من النقاد بسلة بواحدة لهو ظلم بحق الأخير، سيما أن رأيه السلبي إن صح التعبير لم يكن الوحيد بأدب حيدرحيدر، فهاهو كاتب آخر هو منصور منصور يقول عن رواية وليمة لأعشاب البحر: “هي رواية لغة ….لدرجة أنهايمكن أنت تكون قصيدة شعر…ورغم قوة السرد فيها تفيض بالتجديف والافتراء على اﻹسلام والاعتداء على عقائد” كما عدّه من الروائيين الريفيين الذين كرسوا جل أعمالهم للانتقام من المدينة ومثل لذلك برواية (الزمن الموحش) التي تحدثت عن دمشق (كتبت عام 1973)، وأشار إلى أن من الذين نقدوا رواية (وليمة لأعشاب البحر) أيضا الكاتب العلماني الراحل ميشيل كيلو إذا قال عنها باستنكار: “ماذا يوجد في وليمة لأعشاب البحر غير السب على الإسلام”
وهكذا نرى أن جميع من نقد أدب حيدر حيدر من النقاد ممن لاينتسبون إلى الأخوان أو الأزهر قد أجمعوا على مسألة هامة وهي طائفية حيدر وتهجمه على الدين والمدينة رغم ثناءهم على الجوانب الفنية لأعماله، ولكن ذلك لم يمنعهم من قراءة مقولاته الواردة في تلك النصوص قراءة تأويلية أدانته فيها، أو بعبارة أخرى بينت للقارئ حقيقة رأيه في المعتقدات الدينية وبالمدينة وسكانها.
وأرى هنا أن حجة ودليل أحمد عزيز الحسين لتبرئة الكاتب من نصوصه والدفاع عنه، استنادا إلى مقولة رولان بارت حول “موت المؤلف” التي تم نقدها منذ سنوات طويلة، ولم يعد أحد يتذكرها إلا في سياق التأريخ للنقد ورواده في القرن الماضي حجة واهية، فالناقد المصري د.غلاب الأبنودي رأى “أن الكتابة بحد ذاتها تجربة ذاتية، بل هي حالة وجودية يعيشها المؤلف تتجلى في النص الذي يؤلفه، إذ يعبر فيه عن آرائه وأفكاره…. وبالتالي يعد النص أداة يستخدمها الكاتب لينقل ما يدور في عقله إلى القارئ…”
كما يرى الروائي فواز حداد ي مقال له بعنوان (مات المؤلف.. عاش المؤلف) نشره في الزميلة العربي الجديد: “إن موت الكاتب أو حتى تهميشه لا يحله من المسؤولية عن نصه…”
أكثر من ذلك… الروائي حيدر حيدر لم ينف في حوار منشور له في مجلة (الأهرام العربي) عام 2001، أن بعض شخصيات الروايات قد تحمل بعض الأطياف والملامح من حياة المؤلف. فحين سئل عن الفاصل بين الكاتب وشخصياته الروائية قال:
“ليست الشخصية الروائة انعكاسا للمؤلف، لكن من الممكن أن تكون هناك بعض الأطياف أو بعض الملامح من حياة المؤلف تنعكس على بعض الشخصيات”
والمعروف للجميع ان رواية (الزمن الموحش) بالذات هي كما يجري التعريف بها في ويكبيديا “نشر روايته الأولى الزمن الموحش عن تجربته في دمشق خلال سبعة أعوام، وانخراطه في المناخ الثقافي والسياسي. صدرت عن دار العودة في لبنان في العام 1973.”.
ومن الواضح أن هذه المعلومة لا يمكن أن تصدر إلا عن مصدر متابع لسيرة حياة وإبداع حيدر حيدر، أما منظرو النقد الثقافي فقد رأوا أنه يجب عدم فصل الذات عن النص والظروف الاجتماعية والسياسية الذي تولد في ظلها مما ينفي فكرة موت المؤلف.
كل ذلك يؤيد ويؤكد على تأويلات النقاد لنصوص الراحل حيدر ولاسيما الدينية والطائفية والسياسية ولايبرؤه من نصه، وعلينا أن لا نسلبهم حقهم في آرائهم في النصوص الأدبية ولانقيد حرية الكاتب الروائي ببث ما يؤمن به من أفكار ورؤى أيضا.
أما المدافعين عن حيدر حيدر بنظرية “موت المؤلف” فلهم حرية الدفاع عنه ولكن بمقولات ونظريات حية لم تمت.
إن أي مبدع في أي من الفنون لايمكن أن ينفصل عن ذاته حين يخلق فنه مهماحاول…وأوضح دليل على ذلك مقولة الروائي الفرنسي الشهيرفلوبير (حاولت كثيرا أن لا أضع شيئا من ذاتي في كتاباتي ومع هذا فقد وضعت الكثير.)