الرأي العام

بصمات | تدويل قضية الساحل

التضامن مع الضحايا واجب أخلاقي وإنساني؛ لكن هذا لا يمنع من التذكير بالمجرمين الذين أثاروا موجة السعير الطائفي المجنونة تلك، وفضحهم

د. علي حافظ – العربي القديم

“حين أراد الذّئب تعليمَ صغيرِه دروسًا في الحياة وفنّ العيش، ذهبَ به إلى قطيع الأغنام وقال له: لحوم هذه لذيذة، ثُمّ أشار إلى راعي الأغنام، وقال له مُحذِّرًا: عصا هذا الرّجل مؤلمة؛ فانتبه أن تَمَسَّك!

ولمّا رأى الذّئب الصّغيرُ كلبًا يقف بجوار الأغنام قال: هذا يشبهنا يا أبي، فأجاب الأب: اهرُبْ حين ترى هذا الكائن؛ لأنّ كُلَّ ما عانيْنَاه في حياتنا كان سببه أولئك الذين يُشبهوننا ولا ينتمون إلينا”.

قصة من الأدب الصيني

أجل، هناك تمرد عسكري من بقايا فلول النظام الأسدي السابق، يقوم أصحابه حتى اللحظة بعمليات القتل ونصب الكمائن والخطف والترويع… الهدف من هذا الأمر تدويل قضية الساحل لا أقل ولا أكثر؛ ومن ثم لبننة أو عرقنة أو صوملة سورية.

لقد شُنت بروباغندا ضخمة من قبل أبواق الدول الراعية للتمرد، كإيران وروسيا والعراق ولبنان، من أجل تضخيم أعداد القتلى وكمية الانتهاكات بشكل كبير جدًا؛ وبالتالي جر سورية إلى أتون حرب أهلية تحرق الجميع في نارها المستعرة بحطب الطوائف المتعسكرة!

تناسب ذلك التمرد ايضًا مع ما يجري من تغيير للعالم على يد الثنائي دونالد ترامب وإيلون ماسك؛ حيث يعاد تدوير روسيا وتبييض صفحتها من أجل إفساح المجال لها للمشاركة في بعض مناطق النزاع غير المستقرة.. قد يكون الساحل السوري البوابة الجديدة لخروج روسيا من المستنقع الأوكراني الذي غرقت في غياهب دمه المظلمة خلال السنوات السابقة؟

هنا تخطر على البال بعض الأسئلة التي لا بد من الإجابة عليها لفهم ما بعد الفكرة وتنشيط ما شُل من الذاكرة:

ماذا تريدون منا أن نفعل تجاه هذا التمرد؟
أن نواجهه بالورد والزغاريد؟ أن نترك أصحابه يتابعون مسيرة قتلهم وتدميرهم التي استمرت زهاء 54 عامًا؟ هل تريدونهم أن يعودوا ليحكمونا بالحديد والنار والكبتاغون من جديد؟

هل تذكرون من رمى علينا البراميل والصواريخ والقذائف في الليل والنهار؟ من حاصر مدننا وجعلنا نأكل الخبز اليابس وندخن التبن؟ من كان يسجننا على أي كلمة ناقدة ويعذبنا ويصفينا متى يحلوا له ذلك؟

نسيتم من جلب الإيرانيين والأفغان والعراقيين واللبنانيين والباكستانيين والحوثيين والأرمن والروس للقتال إلى جانبه؟

هل هم فحسب من لديهم أمهات وأباء وأخوات وإخوة وأصدقاء وأحباء ووو… ونحن لم يكن لدينا أمهات وأباء وأخوات وإخوة وأصدقاء وأحباء ووو… وطن؟

إن التضامن مع الضحايا واجب أخلاقي وإنساني؛ لكن هذا لا يمنع من التذكير بالمجرمين الذين أثاروا موجة السعير الطائفي المجنونة تلك، وفضحهم قبل كل شيء؛ ومن ثم محاسبتهم دون أي تأخير أو انتظار..

هذه الحركة الساحلية التي قام مجموعة من الشبيحة المارقين دفعت الطائفة العلوية لطلب الحماية الدولية حسب المخطط؛ لاسيما بعد إدخال مجموعة منها إلى “قاعدة حميميم” الروسية. لكن، في الوقت نفسه، دفعت غالبية الشعب السوري للتكاتف والتوحد خلف القيادة الجديدة؛ رغم عدم رضا فئات واسعة منها على عملها وتصرفاتها واختياراتها، لاسيما التساهل والتباطئ والغموض في التعامل مع عصابات الأسد المخابراتية والعسكرية والإعلامية، وعدم محاسبة المجرمين، والعفو عنهم هكذا دون تقديمهم إلى المحاكم من أجل تحقيق العدالة الانتقالية.

وهنا، لا يسعني إلا أن أذّكر بأن جُل الناس في سورية، لاسيما من شارك في الثورة والقتال سابقًا، قد انتظروا تلك اللحظة التاريخية؛ واعتبروها استكمالًا لـ “معركة الساحل” التي أُوقفت من قبل جهات خارجية ولم تنته؛ وقد حان الوقت اليوم لاستكمالها نهائيًا. لأن من سينتصر هو الذي” يعرف متى يقاتل ومتى لا يقاتل” – حسبما يؤكد الفيلسوف الصيني صن تزو!

لقد تم الإفراج عن المجرمين من خلال تسويات خلبية مخزية وغير منطقية، وذلك بحجة إعطاء الوقت والفرص ليفكروا ويراجعوا أنفسهم، ليندموا على ما فعلوه من أمور منحطة وشائنة؛ ويعتذروا عما ارتكبوه من جرائم فظيعة. لكن لم يخرج منهم أي شخص ويفعل ذلك؛ بل على العكس راحوا يتجمعون وينسقون فيما بينهم منتظرين الدعم والمساندة الأجنبية، لنرى ما رأيناه خلال الأيام الماضية!

لقد شغلت سورية تحت حكم الأسد مكانًا مهمًا في الاستراتيجية الإيرانية، ولعبت دورًا رئيسًا في مد ممرها البري الحيوي الواصل إلى البحر الأبيض المتوسط. وكان هذا الممر ضروريًا لبقاء نفوذها الإقليمي، حيث شكّل العمود الفقري اللوجستي لشبكاتها الميليشياوية. لكن بسقوط الأسد انتهى الحلم الإيراني؛ وانتهت تلك الأيام التي حافظ فيها الأسد الأب والابن على سلطتهما على حساب دعم الطائفة له ووقوفها معه، وبالتالي لم يعد من الممكن الاعتماد على الدعم والمساعدة الخارجيتين؛ إن كان هذا باسم القومية العربية، أو باسم الاشتراكية السوفييتية، أو باسم الطائفية العلوشيعية… 

هناك فرق شاسع بين العيش بهدوء وسلام والعيش بحرية.. يمكن للعبد أن يعيش بهدوء وسلام عندما ينفذ كل ما يطلب منه بخضوع واستسلام..

قد تكون “الجماهير ليست دائمًا منسقة ومنضبطة، وعفوية النضالات تشكل نقطة البداية لوعيها الطبقي” حسبما ترى روزا لوكسمبورغ؛ وقد لا تكون سورية جميلة ووردية وافلاطونية؛ ولكن مع ذلك، يجب التأكيد بأنه لا يوجد وطن بدون مواطنين يؤمنون بأن الوطن ليس حكرًا لهم فحسب، وإنما هو للجميع؛ ويبنى على أساس القانون والمساواة والعدالة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى