تأملات في تاريخ إيران المرهق: من الشاه إلى الخميني... كيف أتت "الثورة الإسلامية" بالأسوأ!
صخر بعث – العربي القديم
(إنّ المدجنة الحقيقية التي تفرّخ الجماعات الإسلامية المتطرّفة هي الأنظمة العسكرية والمستبدّة، الأنظمة التي خنقت روح الشعب وأغرقته بالشعارات والرُعب، وفاقمت مشكلاته بالتبعية والنهب، هي من دفعت هذه الأجيال الممزّقة والمهمّشة إلى البحث عن حلول طوباوية وإلى ردود فعل يائسة، وحين يُخيّر إنسان مقموع منهوب بين إله أرضي يفرض عليه عبادته وبين إله ديني يعده بالخلاص، فمن الطبيعي أن يفرّ من زنازين الأرض إلى فضاء السموات)[1]
هكذا تولد العصبية ويمضي التطرّف حتّى الإرهاب، في كلّ مكان من العالَم وفي أيّ زمان، فالظلم قاسٍ، وبصبر وفارغ صبر ينتظر المظلوم الفرصة للنجاة واستعادة الحقّ، بل والانتقام، لكنّما ليست قاعدةً أبداً أن يصبح المظلوم عادلاً منتظماً ومحقّاً، لا!.
سقط “شاه إيران” بل من أسمى نفسه “شاهنشاه” أي ملك الملوك “محمّد رضا بهلوي” في 16 كانون الثاني 1979 حينما قرّر ترك “إيران” بعد ثمانية وثلاثين عاماً قضاها في الحُكم[2]، وبعد ألفين وخمسمائة عام منذ تأسيس “الإمبراطورية الفارسية” على يد “كورش”[3]، التي احتفل سليلُها “ملك الملوك” في تشرين الأوّل 1971 لذكرى تأسيسها بإقامة احتفال أسطوري لم يعرف العالم له مثيلاً، ولكم أثّر هذا الاحتفال على الأوضاع الداخلية في “إيران”، وكم صُدِمَ الشعب الإيراني بتكلفته الباهظة في ظلّ أوضاع اقتصادية متردّية، حتّى أمكن القول أنّه كان شعلةً لبداية الثورة ضدّ “الشاه البهلوي” بسبب القمع والفساد والاستبداد[4].
تحوّلات اجتماعية وسياسية واقتصادية عميقة شهدتها “إيران” منذ تلك الحادثة وحتّى نجاح “الخميني” في العودة إلى “طهران” قائداً وآيةً لله، بل وروحاً له كما أُطلِق عليه!، لكنّ حدثاً بعينه جرى قبل ذلك بسنوات، كان سبباً في صعوده وانتشار خطابه المعارض لدى الإيرانيين، فلقد دفع “الشاه البهلوي” في آذار سنة 1963 قوّاته الأمنية إلى مهاجمة مدينة “قُم” وبالتحديد “المدرسة الفيضية” فيها بعد أن أذاع ونشر “الخميني” على الملأ أنّ “البهلوي” عميل لأمريكا وإسرائيل[5]، وإثر ذلك تمّ اعتقال “الخميني” وإرساله مكبّلاً إلى “طهران”، ثمّ تمّ إطلاق سراحه بعد عشر شهور، تحت ضغط الرأي العامّ واعتراض الإيرانيين بأطيافهم[6]، وكانت تلك الخطوة الأولى لصعوده ولتزعّمه بعد ذلك “الثورة الإسلامية الإيرانية”.
كانتِ الأسباب التي أدّت لحدوث هذه الثورة بطابعها الشعبي والقومي والإسلامي -أو لربّما الديني- ردود أفعال الجماهير الإيرانية ضدّ علمانية “الشاه” المدعومة من الغرب، خاصّةً مع ارتفاع ناتج عائدات النفط الذي رافقه انكماش حادّ في اقتصاد الدولة، لكنّما كان لرجال الدين “الشيعة” دور أساسي في حدوثها[7].
كان هذا سبباً رئيساً لصعود “الخميني” إلى السُلطة، دعم رجال الدين السائد في “إيران”، البلد التي فرض فيها “الشاه” الحرّيات فرضاً، لكنّه أغرقها في الفقر والفوضى والفساد، فلقد انتقل الإيرانيون إثر “الثورة” طوعاً أو غصباً من حالة الحرّية الوهمية والعلمانية والسطوة الأمنية والعنف إلى السطوة الأمنية والعنف وغياب الحرّيات الحقيقية، سوى حرّية التعبير عن الغضب من “أمريكا” و”إسرائيل”، ومن “العرب” بطبيعة الحال![8].
عانت “إيران” منذ سبعينيات القرن الماضي من مشكلات اقتصادية وأزمات داخلية، الفساد، التفاوت الطبقي، الطائفية والعرقية، لكنّ أسوأ المشكلات كانت في جهاز الشرطة السرّية “السافاك” أو ما عُرِف في “إيران” وقتها بمنظّمة المخابرات والأمن القومي (سازمان اطّلاعات وأمنيت كشور)، المؤسّسة الأكثر كراهيةً والأكثر إثارة للرعب لدى الشعب الإيراني، بسبب ممارساتها الإجرامية في الاعتقال والتعذيب والإعدام، كانت “سافاك” سبباً آخر رئيسياً لسقوط “الشاه”[9].
منذ بداية السنة السابقة لنجاح “الثورة الإسلامية” في إيران، كانتِ الاحتجاجات والإضرابات والمظاهرات في أوجها، ولقد قوبلت بعنف شديد من قوّات الأمن التي فتحت النار على المتظاهرين في “طهران”، ما أسفر عن مقتل وإصابة المئات من الإيرانيين، وكان لحادث “الجمعة السوداء” في 8 أيلول 1978 أكبر الأثر في تسريع سقوط ملك الملوك “محمّد رضا بهلوي” الذي غادر “إيران” إلى “مصر” في 16 كانون الثاني 1979 قائلاً قبل صعوده الطائرة: (أشعر بالتعب، وأنا بحاجة إلى الراحة) [10]. يبدو أنّ المجتمع الإيراني كان مثل أو كما المجتمع السوري، بعيداً عن “العُقد الدينية والإثنية”، وكانتِ الحياة الاجتماعية والخيارات الشخصية متاحةً لكنّما دون تعرّض للسلطة، و”إيران” التي كان من الممكن لشعوبها -وليس شعبها- فليس فيها شعب واحد، كان من الممكن أن تستثمر ثرواتها من “الكافيار” إلى النفط في سبيل إسعاد أهلها، كما كان ينبغي لكلّ دولة غنيّة بمواردها البشرية والطبيعية أن تفعل، لكنّ ما حدث أنِ انتقلت “إيران” من القمع باسم العلمانية إلى القمع باسم الدين!
الفقر والبطالة وغياب سياسات الحكم الرشيد، أسباب أكيدة وطبيعية لاندلاع الثورات، القمع والاستبداد، تقييد الحرّيات، التعذيب، المحاسبة خارج القانون، تجاوزه تماماً، كلّها أسباب ستدفع حتماً نحو نهاية الطغيان، فالشعوب في النهاية ستثور، لأنّها مهمّشة مظلومة وفقيرة.
مشكلة المشاكل أن تُنتج الثورات أوضاعاً أسوأ للناس، هكذا قيل في “إيران” وفي “سوريا” وفي “رواندا” و”تشيلي” وفي كلّ مكان قامت فيه ثورة، والحقيقة الخالصة أنّ الثورات الحقيقية لا تنتج سوى حقيقةً واحدةً وهي “الحرّية”، وكلّ سوء تعانيه الشعوب هو سوء الأنظمة الغاشمة بكلّ أشكالها الإيديولوجية المزعومة والمهزومة أصلاً، الأنظمة التي تؤدّي وتودي إلى الطغيان، كما فعل “شاة سوريا” و “شاه إيران”.
الهوامش:
[1] سعد الله ونوس، الثقافة الوطنية والوعي التاريخي، قضايا وشهادات -١- خريف ١٩٩٠، دار عيبال.
[2] موقع الجزيرة نت، “الموسوعة”، محمّد رضا بهلوي، مقال، 6 كانون الأوّل 2014، محمد رضا بهلوي | الموسوعة | الجزيرة نت (aljazeera.net)
[3] أول ملوك فارس حكم من529-550 ق.م، يعرف بقورش الكبير أيضاً، وبإنجازاته في مجال حقوق الإنسان والسياسة والاستراتيجية العسكرية، فضلاً عن تأثيره على الحضارتين الشرقية والغربية، Cyrus cylinder, world’s oldest human rights charter The Guardian, صحيفة الغارديان، مقال، منذ أكثر من ثمان سنوات، Cyrus cylinder, world’s oldest human rights charter, returns to Iran on loan | World news | The Guardian (archive.org)
[4] د. أسماء عبد العزيز سيّد عبد الرحيم، مجلّة قطاع الدراسات الإنسانية، إيران وحفل القرن الأسطوري، بحث، https://jsh.journals.ekb.eg/article_189442_d16fb390ee1cb50434bc90524bd7fbc5.pdf.
[5] ذكرى أحداث مدرسة الفيضية، شرارة الثورة الإسلامية في إيران، مقال، 22 آذار 2021، مركز الإسلام الأصيل للثقافة والإعلام، ذكرى احداث مدرسة الفيضية.. شرارة الثورة الاسلامية في ايران – إسلام أصيل (islamasil.com).
[6] لمحة من حياة الإمام الخميني، موقع الإمام الخميني، مقال، 9 شباط 2013، الامام الخمینی – لمحة من حياة الامام الخميني (imam-khomeini.ir).
[7] ISLAMIC VALUES AND WORLD ISLAMIC VALUES AND WORLD VIEWK، AMERICAN VALUES PROJECTED ABROAD A SERIES FUNDED BY THE EXXON EDUCATION FOUNDATION، https://web.archive.org/web/20090326213807/http://webstorage1.mcpa.virginia.edu/library/mc/forums/published/americanvalues13.pdf.
[8] جمال عبيدي، العداء الفارسي للعرب أساس تشكّل الدولة الإيرانية، مقال، موقع العربية، العداء الفارسي للعرب أساس تشكل الدولة الإيرانية (alarabiya.net).
[9] حسين عبد الحسن حسين، السافاك ونشاطه في إيران، رسالة ماجستير، 2013، السافاك في ايران – حسين عبدالحسن حسين : Maktbah : Free Download, Borrow, and Streaming : Internet Archive.
[10] Black Friday Massacre – Iran (Sep. 8, 1978، https://web.archive.org/web/20151030124928/https://www.youtube.com/watch?v=r5755xzFSbY، آخر مشاهدة 29 أيّار 2024.