الذات التي لا تُكتب في السيرة الذاتية: ألقاب براقة وأرواح منهكة
السكون يعني مواجهة الذات المجردة، العارية من أي لقب أو إنجاز، وهذا ما يخشاه الكثيرون أكثر من أي فشل خارجي

براء الجمعة * – العربي القديم
في فضاء الوجود الإنساني المعاصر، حيث تُسلَّط أضواء خادعة على خشبة الإنجاز المتلألئة، تتوارى الأسئلة الكبرى في عتمة الكواليس. سؤال خافت، قديم كوعي الإنسان، لكنه عنيد كأزلية الروح: هل نحن حقاً ما نُنجز، أم أن بين الكينونة والمهنة هوة سحيقة لا يردمها لقبٌ براق ولا شهادة تُعلَّق على الجدار؟
نعيش في عالم يُصرّ على إعادة تعريف الإنسان ببطاقة مهنية صماء، ويُفتش عن جوهره العميق في حروف وظيفته التي لا تُشبع الروح. تتضاءل المساحات التي تُتاح فيها للذات أن تُعرّف نفسها بحرية، دون أقنعة، دون تلك الواجهات الزائفة التي تُقدمنا للعالم. فحين تتسرب من شفاهنا عبارة: “أنا طبيب”، أو “أنا مهندس”، أو “أنا محامٍ”… ألا يُشبه ذلك تقديم الذات كما تُقدَّم الحقيبة في مطار مزدحم؟ ملصق خارجي لامع، أنيق، يحمل عنوانًا ومحتوىً ظاهريًا، لكنه لا يشي بما يختبئ في أعماقها، بما فيها من فوضى منظمة، أو هدوء عاصف، أو ربما… فراغ مزلزل.
لكن، ماذا لو كانت هذه الحقيبة، بكل ذلك الملصق الأنيق، فارغة من الجوهر؟ أو ممتلئة بوجع مكتوم لا يُجيد التعبير عن نفسه إلا عبر رموز النجاح الزائفة؟ ماذا لو كانت هذه المهنة، بكل بريقها الساحر، قناعًا ذهبيًا صُنع بإتقان ليُخفي هشاشة روح لم يُسمح لها يومًا أن تتكلّم بصوتها الخاص، أن تُعلن عن ضعفها، عن إنسانيتها المجردة؟ هذا ليس اتهامًا للمهنة، بل تساؤل عن علاقتنا بها؛ هل هي وسيلة للتحقق أم سجن مُذهّب لذواتنا؟
القناع الذهبي: براعة تخفي ندوب الروح
في دفاتر التحليل النفسي، يبرز مفهوم “الذات الزائفة” الذي نحته دونالد وينيكوت، والذي يصف تلك النسخة من الذات التي لا تُولد من نبع داخلي أصيل، بل تتشكل وتنمو استجابةً لتوقعات الآخرين، لصرخات المجتمع التي تُطالب بالكمال. هي ذات تُتقن الانضباط حدّ الاحتراق، وتُبهر بالكفاءة حدّ الذهول، لكنها ليست حرة طليقة، بل مُحاصرة داخل جدران الأداء المفرط. إنها ليست زيفًا بالمعنى الأخلاقي المتداول، بل هي استراتيجية بقاء مُتقنة، درع واقٍ يُرتدى في معركة الوجود لدرء نصل الحكم والانتقاد.
تصبح المهنة في هذا السياق، أكثر من مجرد وسيلة لكسب العيش؛ تتحول إلى غلاف واقٍ يُغطي الجراح، أو بالأحرى، إلى سجن ذهبي براق، جدرانه مُزيّنة بالإنجازات، لكن نوافذه تُطل على فراغ الروح. هنا، تُبنى النجاحات الشاهقة، لا حبًا في تجلّي الكينونة الحقيقية، بل هروبًا مُضنيًا منها، محاولة يائسة لملء فراغ داخلي لا يُملأ بالإنجازات الخارجية مهما عظُمت. هذا القناع، بقدر ما يمنح الأمان الزائف والتقدير المادي، فإنه يُقيد الروح ويُفقدها القدرة على التنفس بحرية.
وهم الإنجاز: دوامة الخوف من السكون
حين تُربط القيمة الجوهرية للذات بمنطقة واحدة فقط – كالعمل، الأداء، الدخل، الإنتاجية، أو المكانة الاجتماعية – يصبح هذا التقدير هشًا، مشروطًا، ومُعرضًا للانهيار في أي لحظة. تُهمس الأنا في أذن الروح: “أنت تُساوي ما تُنجزه.” هذا الهمس يتحول إلى صرخة مُرعبة تُقيدنا في سباق لا ينتهي. لكن، ماذا لو لم تُنجز اليوم؟ ماذا لو تعبت الروح والجسد؟ مرضت فخذلتك قوتك؟ أخفقت في مشروع طالما حلمت به؟ هنا يبدأ الرعب الحقيقي بالزحف: هل ما زلت محبوبًا؟ مرئيًا؟ هل ما زلت أستحق الحب والاحترام والوجود، حتى وإن لم أُنتج شيئًا يُذكر؟
هذا النمط من القيمة الذاتية، الذي تُسميه الدراسات بـ “تقدير الذات التابع للأداء” ((Contingent Self-Esteem ، ليس سوى سباق مُضنٍ في عجلة لا تتوقف. إنها دوامة لا تُنتج سوى مزيد من الجهد ومزيد من القلق. هنا، يصبح الخوف من السكون فزعًا أكبر من السقوط نفسه. فالسكون يعني مواجهة الذات المجردة، العارية من أي لقب أو إنجاز، وهذا ما يخشاه الكثيرون أكثر من أي فشل خارجي. إنه الرعب من مرآة لا تعكس سوى وجهك الحقيقي، بعيدًا عن بهرجة الأضواء.
المفارقة الوجودية: عطش لا يرويه النجاح
قد يبلغ الإنسان قمم الإنجاز التي يحلم بها مجتمعه، قد تُصفق له الحشود، وتُخلّد إنجازاته في سجلات التاريخ، لكنّه يعود إلى بيته، إلى عزلته، فارغًا من الداخل، يُعاني من عطش روحي لا ترويه كل كؤوس النجاح. يشعر بالوحدة القاتلة رغم الزحام الذي يحيط به، وبالحاجة المُلحة للحب والقبول رغم التصفيق الذي يُجلجل في آذانه، ويتوق إلى شخص لا يرى فيه لقبًا لامعًا أو منصبًا رفيعًا، بل يستشعر قلقه الخفي، هشاشته الإنسانية، صمته المطبق الذي لا يُفهمه أحد.
تُسمي بعض المدارس النفسية هذه المفارقة المؤلمة بـ “عدم التناسق الداخلي” (Intrapersonal Dissonance) ، حيث يتصادم ما نُظهره للعالم وما نُظهره لأنفسنا في الخفاء. يتصادم ما نعيشه من نجاحات ظاهرية مع ما نشعر به من فراغ وجودي. وتصبح الإنجازات المتتالية، في هذا السياق، وسيلة لإسكات سؤال وجودي مؤلم يُدمي القلب في كل مرة يُطرح فيها: هل أنا كافٍ كما أنا، دون دور أؤديه، دون عرض أُقدمه، دون بريق يُعمي الأبصار عن جوهري؟ هذا السؤال يبقى يتردد صداه في أعماق الروح، مُذكرًا بأن النجاح وحده لا يُغني عن معنى الوجود.
الطموح كتعويض: ركض لا ينتهي خلف سراب
في بعض التجارب الإنسانية، لا ينبع الطموح الجامح من حلم نقي مُلهم، بل من جرح عميق لا يلتئم. من فراغ قديم في الحب غير المشروط، من حاجة مزمنة للقبول الذي لم يُمنح أبدًا، من نقص شعوري لا يُداوى إلا بإبهار العالم كله، في محاولة يائسة لملء هوة لا تُملأ. هنا يظهر ما يُعرف بـ “النرجسية التعويضية ” (Compensatory Narcissism)، لا باعتبارها غرورًا مذمومًا، بل كآلية بقاء مُعقدة، يلجأ فيها الفرد إلى الكمال الظاهري والقوة المُبهرة لتغطية هشاشة خفية تنهش روحه.
فينتج عن هذا الركض المُضني إنسان مُبهر من الخارج، صورة مثالية تُقدم للعالم، لكنه من الداخل لا ينام بسلام، تُطارده الكوابيس، ويُعاني من قلق دائم لا يهدأ. هو شبحٌ يركض خلف سراب، يظن أن المزيد من الإنجاز سيُشبع روحه، بينما هو في الحقيقة يزيد من ظمئه الوجودي.
من الظل إلى النور: دعوة إلى الكينونة
هذه ليست دعوة ضد النجاح، ولا ضد البراعة والإتقان الذي يُضيء دروب الحياة. إنها دعوة أكثر جوهرية: دعوة لتوسيع مرآة الهوية، لا تنحصر الذات البشرية في بطاقة مهنية أو سيرة ذاتية مُنمقة تُلخص وجودنا في بضعة أسطر. إنها دعوة للتذكر: أن الطبيب إنسان قبل أن يكون وصفة، وأن المهندس له قلب ينبض قبل أن يُتقن الخطط المعمارية، وأن المحامي يحتاج إلى من يُحامي عن قلقه الداخلي، لا فقط عن قضايا موكليه.
الدعوة هنا تكمن في أن نجد في حياتنا من يُحبنا لا لأننا مُنتجون أو ناجحون أو أذكياء، بل لأننا بشر، بكل ضعفنا وقوتنا، بكل أخطائنا وصوابنا. من يرى قلقنا الخفي خلف ابتسامتنا المُصطنعة، من يسمع صمتنا حين لا نجد الكلمات، من يحتضن هشاشتنا قبل أن نُظهر قوتنا. من يقول لنا بصدقٍ يُعيد الروح لجسدها: “أنت كافٍ كما أنت“، في مجتمع يُطالب بالمزيد… دائمًا. إنها دعوة لاكتشاف مساحات الوجود التي لا تُقاس بإنتاجيتنا، في بناء علاقات ترى جوهرنا، وفي جرأتنا على أن نكون ضعفاء كما نحن أقوياء. الهويّة الأصيلة لا تُختزل في لقب. والسيرة الذاتية مهما امتدت، لا تحتوي إنسانًا.
إسقاط القناع الذهبي: حرية الكينونة
في رواية “الغريب” لألبير كامو، يصرخ بطلها “ميرسو” في لحظة وعي وجودي : “أنا إنسان… وهذا يكفيني!”. ربما هذه الجملة البسيطة، في عمقها الفلسفي اللامتناهي، هي أكثر ما نحتاجه في عصر يُغري الجميع بأن يكونوا شيئًا خارجيًا فقط، قناعًا يرتديه ليلًا ونهارًا حتى ينسى وجهه الإنساني الحقيقي.
فحين نُسقط هذا القناع الذهبي الثقيل، وحين نتخلى عن وهم الكمال الذي لا يُجلب سوى الشقاء، نكتشف أننا لسنا مجرد شهادات جامعية مُعلّقة، ولا صورًا مُبهرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا سِيَرًا ذاتية براقة تُشيد بإنجازاتنا… بل قلوبًا تنبض، تبحث عن الصدق المُنقذ، وذواتًا تتوق إلى أن تُرى كما هي، بكل عريها الإنساني.
فهل نجرؤ على أن نكون؟ على أن نتحرر من قيود “ماذا نفعل” لنعود إلى بساطة “من نحن”؟ ربما في هذا السؤال، تكمن حريتنا الحقيقية، وبه تبدأ رحلة العودة إلى الذات الأصيلة.
___________________________
* مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي