نوافذ الاثنين | التطور التاريخي للهوية اليهودية في فلسطين
تحرير وتنسيق: ميخائيل سعد
قبل عرض مراحل التطور التاريخي للهوية اليهودية في فلسطين، لا بد لنا من النبش التاريخي عن العوامل التي أدت إلى ظهور تلك الهوية، وبالتالي تبلورها في وثائق مؤتمر بال ١٨٩٧، ثم متابعة التغيرات في مضمون الهوية اليهودية بعد قيام الكيان الاستعماري اليهودي في فلسطين ١٩٤٨. لذلك عملت على عرض أهم المحطات التي ساعدت على ظهور تلك الهوية. منها:
1-موقف مارتن لوثر من اليهود والدعوة لإنشاء وطن لهم في فلسطين.
بالنسبة لموقف مارتن لوثر من اليهود، فقد تطور هذا الموقف على مدار حياته. في البداية، كان لوثر مؤيدًا لليهود، وشعر بالشفقة تجاههم بسبب المعاملة السيئة التي تعرضوا لها على يد المسيحيين. ولكن مع مرور الوقت، أصبح لوثر أكثر تشددًا وسلبية تجاه اليهود، وطالب بـ “التعامل القاسي” معهم.
أما بخصوص دعوة لوثر لإنشاء وطن لليهود في فلسطين، فلم يكن هناك أي إشارة واضحة له في كتاباته. في تلك الفترة، لم تكن فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين قد ظهرت بعد. وبالتالي، لم يكن لوثر داعمًا لهذه الفكرة.
بصفة عامة، يمكن القول إن موقف لوثر من اليهود تطور وتغير مع مرور الوقت، متأرجحًا بين التعاطف والتشدد. ولكن لم يكن هناك دعوة صريحة منه لإنشاء وطن لهم في فلسطين.
ولكن كانت هناك دلائل على أن مارتن لوثر كان يعارض فكرة إنشاء وطن لليهود في أي مكان آخر بخلاف فلسطين. في كتاباته وخطاباته، عبر لوثر عن معارضته لفكرة منح اليهود حقوق مساوية للمسيحيين أو السماح لهم بالاستقرار في أي بلد مسيحي.
يبدو أن تغير آراء مارتن لوثر تجاه الشعب اليهودي كانت لأسباب دينية أكثر منها سياسية.
2- موقف نابليون بونابرت من اليهود والدولة اليهودية
بالنسبة لموقف نابليون بونابرت من اليهود والدولة، هناك عدة نقاط مهمة:
- في بداية حكمه، كان نابليون منحازًا للكنيسة الكاثوليكية وضد اليهود، حيث قام بطرد اليهود من فرنسا عام 1806.
- لكن لاحقًا تغير موقفه تجاه اليهود، حيث رأى في اليهود حلفاء محتملين ضد الكنيسة الكاثوليكية والأرستقراطية التقليدية.
- عقد نابليون “المجمع اليهودي” في باريس عام 1807 لتحسين أوضاع اليهود في فرنسا ودمجهم في المجتمع.
- منح نابليون اليهود حقوقًا مدنية متساوية مع باقي المواطنين الفرنسيين.
- لم يكن لدى نابليون خطة واضحة لإنشاء دولة قومية لليهود.
- لكن قام بإصدار “إعلان القدس” عام 1799 الذي دعا اليهود للعودة إلى فلسطين وإقامة دولة لهم هناك.
- هدف نابليون من هذا الإعلان كان استمالة اليهود لدعم حملته العسكرية على الشرق الأوسط.
- لم ينجح نابليون في تحقيق هذا الهدف، ولم تتبلور فكرة إنشاء دولة يهودية في عهده.
بشكل عام، شهد موقف نابليون من اليهود تحولًا من المعارضة إلى التأييد نتيجة اعتباراته السياسية والعسكرية، لكن لم يصل إلى خطط ملموسة لإنشاء دولة يهودية في فلسطين.
هرتزل وموتمر بال
في عام 1897، قام ثيودور هرتزل، الصحفي والمؤلف اليهودي النمساوي، بتنظيم المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية. وفيما يلي بعض المعلومات عن هذا المؤتمر البارز:
- الهدف الرئيسي للمؤتمر كان إنشاء دولة يهودية في فلسطين. هرتزل عرف هذا الهدف بـ “الحل النهائي للمسألة اليهودية”.
- في المؤتمر، تم إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية والميثاق الصهيوني، اللذين أسسا الأساس السياسي والقانوني للحركة الصهيونية.
- حضر المؤتمر 208 مندوبًا من 17 دولة، وهو ما يعكس التأييد والزخم المتزايد للحركة الصهيونية في ذلك الوقت.
- تم اختيار هرتزل رئيسًا للمنظمة الصهيونية العالمية الجديدة، مما عزز دوره القيادي في الحركة.
- أصدر المؤتمر إعلانًا يدعو إلى إقامة “وطن قومي” للشعب اليهودي في فلسطين.
يُعتبر مؤتمر بال نقطة تحول مهمة في الحركة الصهيونية، حيث أعطى الزخم السياسي والتنظيمي اللازم لتحقيق هدفها النهائي – إنشاء دولة يهودية في فلسطين.
موقف السلطان عبد الحميد الرافض لنتائج مؤتمر بال
هل كان لا بد من إزاحة عقبة السلطان عبد الحميد الثاني، بل من انهاء الدولة العثمانية بالكامل للانتقال إلى تنفيذ وعد بلفور؟
بالنظر إلى الأحداث التاريخية، يمكن القول إن إزاحة السلطان عبد الحميد الثاني لم يكن الهدف الوحيد للقوى الصهيونية والاستعمارية الغربية، بل كان الهدف الأكبر هو إنهاء الدولة العثمانية بشكل كامل والسيطرة على فلسطين.
هناك عدة اعتبارات تدعم هذا الرأي:
- الموقف الصلب للسلطان عبد الحميد تجاه المشروع الصهيوني: كما ذكرنا سابقًا، كان السلطان عبد الحميد رافضًا بشكل قاطع للمطالب الصهيونية وسياساتهم التوسعية في فلسطين. وهذا شكل عقبة كبيرة أمام الأطماع الصهيونية.
- ضرورة تفكيك الدولة العثمانية: كانت الدولة العثمانية هي القوة السياسية والعسكرية المسيطرة على منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك فلسطين. لذا فإن إنهاء هذه الدولة كان ضروريًا لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية واستعمار فلسطين.
- مساعي الاستعمار الغربي: كان الاستعمار الغربي، خاصةً بريطانيا وفرنسا، مهتمًا بتقسيم الإمبراطورية العثمانية والسيطرة على مناطق نفوذ في الشرق الأوسط. وهذا تزامن مع توجهات الحركة الصهيونية نحو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
إذن، يمكن القول إن إزاحة السلطان عبد الحميد كانت جزءًا من مخطط أوسع لإنهاء الدولة العثمانية واستعمار فلسطين، تمهيدًا لتنفيذ وعد بلفور وإقامة دولة إسرائيل. ولم تكن مجرد هدف منفصل بحد ذاته.
وعد بلفور ١٩١٧
وعد بلفور هو إعلان صادر عن الحكومة البريطانية في عام 1917 يتعهد فيه بإنشاء “وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين. وقد لعب هذا الوعد دوراً محوريًا في تاريخ القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.
هناك عدة جوانب مهمة تتعلق بوعد بلفور:
- الأسباب السياسية والاستراتيجية:
- كان الهدف البريطاني من وراء هذا الوعد هو كسب تأييد الحركة الصهيونية وزعماء اليهود في الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا والإمبراطورية العثمانية.
- كما كان يهدف إلى تعزيز النفوذ البريطاني في المنطقة والسيطرة على فلسطين.
- موقف الفلسطينيين والعرب:
- رفض الفلسطينيون والعرب هذا الوعد باعتباره تنازلاً عن أرضهم لصالح المشروع الصهيوني.
- اعتبروه خيانة للوعود البريطانية بالاستقلال للمنطقة العربية إبان الحرب العالمية الأولى.
- التداعيات والنتائج:
- مهد وعد بلفور الطريق لتأسيس دولة إسرائيل في فلسطين عام 1948.
- أدى إلى نشوب الصراع العربي الإسرائيلي الذي لا يزال مستمرًا حتى اليوم.
إذن، وعد بلفور كان محطة مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية وله تداعيات سياسية واجتماعية وأمنية استمرت إلى يومنا هذا.
تطور مضمون الهوية اليهودية:
منذ دفاع مارتن لوثر عن اليهود، مرورا بموقف نابليون وإعلان القدس، وصولا إلى مؤتمر بال، ووعد بلفورد، وتأسيس دولة اسرائيل وتوسعها اللاحق، وصولا إلى حرب غزة الاخيرة، كانت الهوية اليهودية وتتغير مع مرور الوقت، فكيف نفسر هذا التطور والتغير في مضمون الهوية اليهودية؟
لقد شهدت الهوية اليهودية تطورات وتحولات كبيرة على مر التاريخ، خاصة في السياق السياسي والفكري الذي ظهرت فيه. ويمكن تلخيص هذا التطور على النحو التالي:
- في العصور الوسطى، كان اليهود ينظر إليهم كأقلية دينية منبوذة ومضطهدة في أوروبا، وكان التوجه الديني هو السائد في هويتهم.
- مع ظهور الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الهوية اليهودية تتحول نحو البعد السياسي والقومي، بهدف إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
- بعد إقامة دولة إسرائيل في 1948، ازداد البعد السياسي والقومي للهوية اليهودية، وأصبحت ترتبط بشكل وثيق بالمشروع الاستيطاني والتوسعي في الأراضي العربية المحتلة.
- في السنوات الأخيرة، مع تصاعد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وممارسات إسرائيل العدوانية، بدأت الهوية اليهودية تشهد مزيداً من التطرف والتشدد، وغلبة البعد العسكري والأمني على البعد الديني والثقافي.
- كما شهدت الهوية اليهودية تنوعًا وتعددًا متزايدًا، مع ظهور تيارات وأفكار يهودية متباينة تتراوح بين التطرف والعنصرية من ناحية، والتسامح والانفتاح من ناحية أخرى.
بشكل عام، يمكن القول إن الهوية اليهودية تطورت من هوية دينية إلى هوية قومية سياسية، ثم إلى هوية عسكرية أمنية متطرفة، وذلك في ضوء السياق التاريخي والسياسي المتغير الذي ظهرت فيه
وبذلك تحولت الهوية اليهودية من هوية دينية إلى هوية قومية سياسية في ظل هذه العوامل التاريخية والسياسية.
الخلاصة:
ظل الدين اليهودي ردحاً طويلاً من الزمن بمنزلة الشرنقة التي احتمى بها اليهود داخل إطار الانغلاق الجيتوي، وأصبح هو التجسيد الوحيد بين الشعوب التي عاشوا بينها. وقد طرحت حركة “التنوير اليهودية” في القرن الثامن عشر الحل الاندماجي في المجتمعات التي يعيش فيها اليهود، على أن ينحصر الدين في المنزل والمعبد. ولكن الصهيونية طرحت الحل الخاص بإقامة “وطن قومي” لليهود في فلسطين، دون أن تنتبه إلى مغزى إشكالية الهوية التي ستواجهها، ولذا لم تطرح لها حلا مقبولا، ومع قيام دولة إسرائيل واجهت الدولة معضلات وصراعات لم تكن لتخطر في بال أكثر الدعاة الصهاينة خيالا. لقد واجهت الدولة معضلة الصراع العربي-الإسرائيلي الذي لو توضع له نهاية بعد، وواجهت معضلات داخلية وصراعات ظلت تتفاقم على مدى عمر الدولة إلى أن بلغت ذروتها، كالصراع بين الدينيين والعلمانيين، والصراع الطائفي والثقافي بين الأشكنازيم والسفاراديم والمهاجرين الروس والإثيوبيين، والصراع بين العقائدي المبني على الأساطير والسياسي الواقعي المبني على المصالح.
بصفة عامة، يمكن القول إن صعود اليمين المتطرف في إسرائيل قد أدى إلى تحولات في الهوية اليهودية وفي الخطاب السياسي، مع تركيز أكبر على العناصر الدينية والعرقية، وهذا ما أدى إلى وصول تلك الهوية إلى هوية دينية متعصبة وعسكرية متطرفة وعنصرية عرقية مغالية في تطرفها كما نرى الوضع الآن في غزة ولبنان.
————————–
ملاحظة: هذا المقال، في الأصل، جزء من بحث أوسع قمت به كوظيفة في قسم التاريخ، في جامعة ماردين.
مونتريال ١١/١١/٢٠٢٤