أرشيف المجلة الشهرية

بنش القرية العُظمى

ياسر البدوي – العربي القديم

مدينه بنش، هي لوحه رسمتها السنون، ألوانها صارخة، صافية، نقية تعبر عنها الطبيعة التي يغلب عليها الأخضر، واللون الأحمر الغامق والبني.كما يعبر عن هذه اللوحة المجتمع المتعدد المثقف، والعالِم، والمزارع، والبنّاء، والعامل. مجتمع صاغ علائقه عبر السنين، يرويها كبارها بآلاف الصور، والمشاهد الفكاهية والجادة، تروي تجمعاتهم وأعراسهم، وطرق جني محاصيلهم وتوزيعها، وطرائق صناعة الطعام والحلويات.

ذكر ابن الشحنة في كتابه (الدّرر المنتخب في تاريخ مملكة حلب)، أنَّ المارستان الجديد – وهو البناء الأثري في حلب – هو الذي بناه أرجون في سنة 755، ووقف عليه قرية بنش العظمى، من عمل سرمين! إذاً لهذه القرية المدينة أبعاد تاريخية، وتذهب بعض المراجع، والأقاويل الشفهية المتناقلة إلى أنها تعود إلى أيام مملكة إيبلا، حيث كانت قرية بنش، هي المصيف لملوك إيبلا، وقادتها العسكريين والسياسيين، ويروي بعض العارفين، والذين اهتموا بتاريخ مدينة بنش: إن هناك أنفاقاً طويلة تصل ما بينها، وبين إيبلا (تل مرديخ حالياً)، وما بينها، وبين أريحا، وجبل الأربعين، وهناك أنفاق لم يكملوا السير فيها؛ لأنها مخيفة.

سوقها التاريخي الذي هدمه البعث

مدينه بنش ضيعتنا، كما نحب أن نسميها، وكما هي محفورة في وجداننا، وصورنا الشعورية واللاشعورية، سوقها التاريخي الذي بناه مهندسوها، منذ قرنين على الطريقة الشامية والأندلسية، قبل أن يقوم البعث المقيت بهدمه؛ بحجّة التطور، لكنه في مخيلتي بكل تفاصيله، بلاطه، أزقته عمارته، كلما عايشته في ذاكرتي، يخرج صوت أبي البقاء الرندي؛ لينعى مدناً، وقرىً، ومناطق، فأغلق باب الذكرى، وأهرب للحلم؛ لأضمن الاستمرار لهذا السوق، وعمارته الفريدة، وذكرياتي مع أصحاب الحوانيت، والمسجد والقهوة، وبائع السحلب.

 تلك صور من بنش العظمى، أما الصورة الأشمل، فهي في تلك البراري، حيث تمتاز مدينة بنش باللون الأخضر، تغطيها أشجار  التين والزيتون من جهه الغرب والشمال، وأما من جهه الشرق والجنوب، فهي حمراء داكنة، وتغطيها الحقول في الصيف.

سياسياً، تعتبر مدينة بنش وعاءً لجميع التيارات السياسية، لدرجه أنه كان أحد الأصدقاء السياسيين السابقين رحمه الله،  يقول: إن أردت أن تعلم، هل هناك حزب جديد في سوريا، أو في العالم، فانظر في بنش، ستجده فوراً هناك!

أنصار لكل التيارات

وقد لمسنا بعض هذه الحيوية والحراك في مدينة بنش، فكانت منذ أوقات مبكرة، تجد فيها جميع التيارات الفكرية والسياسية. هناك الأحزاب الناصرية، الأحزاب الشيوعية، والإسلامية، وغيرها من الأحزاب، حتى إنني أذكر  جيداً، عندما أنشأ جميل الأسد جمعية المرتضى، كان له أنصار في مدينة بنش، نذكر أسماءهم، ولا نريد الآن التوقف عندهم كثيراً، ولكن هي دلالة فقط.

على أن هناك  دائماً تواجداً للأحزاب السياسية، وللتيارات الفكرية، عندما تسمع بنجم محمد عابد الجابري يسطع في دنيا الفكر، فتجد من يروّج له فكره، ويتبناه في بنش، وعندما يسمع الناس، بأن هناك مفكراً إسلامياً، اسمه محمد شحرور تجد من يتبنى فكره، ويدافع ويقاتل عنه، إضافة إلى أنك تجد من يحارب مثل هذا الفكر، ويعتبره شطحاً كبيراً في الدين الإسلامي. ينطبق هذا حقيقة على جميع التيارات الفكرية التي كانت تسود في الوطن العربي على الأقل، والعالم الإسلامي.

صدى الأحداث والحروب

الأحداث تجد أصداءها دائماً في الحوارات، في المضافات في الجلسات الجماعية لكبار السن، وبين الشباب، وتلك الحوارات التي يقومون بها، وأذكر هنا عندما قامت الحرب الأمريكية على العراق، كان كبارنا يجلسون، يتحدثون عن الحرب، وكان المصدر الإعلامي الأساس راديو مونتي كارلو، ويتوزع بعضهم الأدوار، وفق مواقفهم من الحرب: “بيقول القوم جاء عبد الله الشهري مراسل الراديو المؤيد للتحالف، وجاء فلان الذي يعبر عن مراسل الراديو في العراق”؛ لنعيش الحدث بكل اتجاهاته وكأننا في برامج حوارية، قبل أن نشاهدها في الجزيرة التي ظهرت بعد ذلك بسنوات.

هذا من الجانب الفني، أما  الجانب الثقافي تجد أيضاً غنىً، تجد الشعراء، تجد الفنانين هناك، فنانين اشتهروا عالمياً، فمنهم من ذهب إلى أوروبا، ووجد صدىً كبيراً في إيطاليا، وفرنسا كالفنان نادر حاج قدور، ومنهم من نشر أعماله في قصص الأطفال كهيثم فرحات، وآخر أبدع في الديكور في إستراليا، عامر سعيد، وأما توفيق حمدون فقد زين المباني الحكومية بألوانه في الرياض.

  حتى بعض النساء استطعن أن يحصلن على جوائز عالمية مثل: نور دياب، ومنتهى سلات، ولن نقول: إنهن وصلن إلى العالمية.  إذاً هو  الثراء الثقافي، والفكري والسياسي الموجود الناتج عن التنوع الحاصل في مدينة بنش، ولن أتحدث عن الإعلام؛ لأن ذلك له شجون؛ نتيجة المواقف السياسية والأخلاقية.

السفر والترحال والانفتاح الثقافي  

الاحتكاك في العالم الخارجي كبير، ليست مدينة منغلقة على نفسها، إذ ساهم السفر والترحال بخلق هذا التنوع والانفتاح، حيث كانت مدينة بنش، أو أهالي مدينة بنش  دائماً في ترحال وسفر، باتجاه أوروبا آل فلاحة،  وأمريكا آل رمان، وباتجاه لبنان، ربما بيروت لعبت دوراً كبيراً في هذا الانفتاح الثقافي المبكر لهذه المدينة. هناك أسماء كثيرة وعائلات، حتى تجد لهم حضوراً جيداً في إيطاليا مثلاً، وفي أمريكا، وفي جميع البلدان أصبحوا من حوامل هذا الانفتاح الموجود في بنش إضافة إلى ذلك أيضاً.

السفر إلى دول الخليج أيضاً الذي بدأ؛ لتحسين الوضع المعيشي، ولكن  انبثق عنه أدوات الجذب للتيار الفكري،  أهمه كان في تلك الفترة التيار السلفي، فدخل مبكراً إلى مدينة بنش، وأصبح له أعلامه، وأصبح له مريدوه، ظهر هذا عندما بدأت الثورة السورية، وأخذت  الحركات السلفية والجهادية، بتشكيل جماعاتها، كان فيها من أهل بنش الكثير والكثير.

كما تشتهر بنش بقاموس من المصطلحات الخاصة باللهجة البنشية الخاصة بهذه المدينة، قام مجموعة من مثقفي المدينة بتدوينها، وضاعت مع الثورة، ويعمل الصديق الصحفي خالد جمالو منتج برنامج (خبرني يا طير) على إعادة تدوينها.

بنش القرية العظمى، فسيفساء التدافع الإنساني يميزها، واليوم هي سوريا المصغرة، حيث اتسعت لأبناء الشام، وحلب، وحمص، والرقة، ودرعا؛ لتعلن كرمها بتعارفها على الشعوب والقبائل، ويوم ناداها الحق، لبت وقالت: لا للظلم، لا للطغيان، لا للاستبداد، ورفعت راية الحق، راية الشام، راية سوريا الأبية.

__________________________________________

من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024

زر الذهاب إلى الأعلى