بصمات | وقودُ ثوراتٍ قد لا تنتصر!
د. علي حافظ
يتّصف الإنسان العربيُّ بصفاتٍ إيجابيةٍ كثيرةٍ لا يتّصف بها أيُّ إنسانٍ آخرَ غيره، مثل: الشهامة، النخوة، الكرم، الشجاعة، الحماس، العفوية، المرح، طيبة القلب… لذلك اختير كي يكونَ حاضناً وحاملاً وناشراً لبعض الأديان السماوية الرئيسة في هذا العالم. في حين أصبحت المناطق التي عاش فيها هذا الإنسان ملتقى حضاراتٍ وثقافاتٍ متعدّدة، تركت بصماتٍ لا تُمحى على تطوّره التاريخيّ والثقافيّ والنفسيّ؛ وتحوّلت بفضله إلى مراكزِ نورٍ للعالم كله، وحلقة وصلٍ بين أطرافه المتباعدة، ومخزنٍ لثرواته الباطنية وموارده البشرية… هذا الإنسان شارك ـ بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ ـ في بناء الحضارة الإنسانية، وكانت له إسهاماتُه الواضحةُ والأكيدةُ في تطورها ووصولها إلى ما وصلت إليه الآن…
تعرَّضت الأراضي التي قطنها هذا الإنسان إلى حملاتٍ عسكريةٍ أجنبيةٍ متلاحقة ـ من الشرق والغرب والشمال على حدٍّ سواء ـ من أجل احتلالها والسيطرة عليها، لكنها لم تستطع رغم طول فتراتها وقوَّة تدميرها وتخريبها أن تنالَ منه وتبعده عن مسرح الأحداث والتأثير العالمي. ورغم الخداع المُمَنهج والازدواجية والمؤامرات الكثيرة التي تعرض لها، لم يفقد رشدَه وقوته وارتباطه المتجذر بأرضه وتاريخه، فما إن حاز على استقلاله منتصفَ القرن الماضي وتنفَّس شيئاً من نسائمَ الحُريّة والاستقلال حتى راح يبني أسُسَ دولته الوطنية الجديدة، ويحلم بمستقبلٍ أفضل. لكن لسوء حظه لم تَدُم هذه الفترة الجميلة طويلاً، إذ سرعان ما ابتُلي باستعمارٍ من نوع آخر ـ استعمارٌ داخليٌّ من أبناء جلدته ـ يُعدُّ أشد خطراً وتأثيراً سلبياً من الاستعمار الخارجي السابق!
تألف هذا الاستعمار من أنظمةٍ حكم عائلية ديكتاتورية مستبدة، كرَّست وجودَها من خلال أجهزة مخابراتٍ دَمَويّة وجيوشٍ بربرية همجية لا تعرف سوى القمع والتنكيل والتعذيب والتهجير والقتل.. هذا النوع من الاحتلال لم يتوانَ يوماً عن نهب ثروات البلاد، وحرمان شعوبها من الحياة الآمنة الكريمة، واعتقال معارضيه السياسيين، أو دفعهم إلى الهجرة لخارج البلاد، أو الهروب بعيداً من براثنه المميتة. وبذلك تكون البلاد العربية قد تعرضت لأبشع أنواع الاحتلال وأقساها، حيث ارتُكِبَ بحقّ سكّانها جرائم ومجازر كثيرة يندى لها جبين الإنسانية، لم يقُم بها الاحتلال الإسرائيليُّ نفسُه في فلسطين؛ أو أيُّ احتلال أجنبي آخر!
أثبتت هذه الفئات المحلية الحاكمة أنها أسوءُ شريحةٍ تحكم البلاد خلال تاريخها كله؛ إذ وصلت الأمور بِعَهدها إلى أبشع ما وصلت إليه؛ وبدأ هذا الإنسان يُحِسُّ بالوجع واليأس والإحباط والقنوط، وهو يرى شعوباً كان قد سبقها ثقافياً وحضارياً واجتماعياً ـ وبإمكانات أقلّ وثروات شحيحة ـ تستيقظ من سُباتها العميق وتحقق استقلالها، واضعةً أسس نهضتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، متَّخذةً مبادئ الديمقراطية والتعدُّدية أساساً لحياتها العامة. لم تبقَ بلادٌ كثيرة ترزح تحت وطأة استبدادِ عائلاتِ الحكم المطلَق، أو الأقليّات الطائفية الفاشية والأنظمة الشموليَّة، سوى بلادنا العربية وبعض البلاد الأخرى في إفريقيا وآسيا. لقد دخلت الهند عتبةَ الدّول العشر الكبار، وكذلك ماليزيا وسنغافورة والبرازيل عتبة الاقتصاديات الناشئة، محاولة الارتقاء إلى مصافي الدول العظمى، رغم كل الصعوبات والعقبات التي تواجهها؛ في حين بقينا نحن نجترُّ ماضينا ـ دون التفكير بواقعنا الكارثي المؤلم ـ بحكايات فرديةٍ فارغةٍ لـ “ولاد بديعية”؛ أو بطولاتٍ “باب حاراتية” لم تُعِدْ شبراً واحداً من أراضينا المغتصبة، ولم تُعطنا كرامتَنا وحُريَّتنا، ولم تسترجع ثقتنا بأنفسنا.. عشنا في عالمٍ مطلقٍ من الاستبداد والسَّواد والغيبيَّات والهامشيَّات.. وقفنا دائماً على أعتاب أزمنة الآخرين، الذين انهمكوا بصناعة المستقبل والحضارة والحداثة، بينما رحنا نتفرَّج عليهم مذهولين محتارِين ضائعين، لا نعرف سوى السير للوراء.. راح ابن أمَّتنا الحاضرة بأجسادها والغائبة بعقولها والمكابرة بماضيها، ينتظر بفارغ الصبر فرصتَه التاريخية للنهوض؛ وكان له ما كان عندما أحرق جان دارك تونس محمد بوعزيزي نفسه احتجاجاً على إهانته؛ ليكون مشعلاً ينير طريق أمَّته المظلم نحو أضواء الحرية المنتظرة.. انتشرت شرارة الثورة في جميع أرجاء الوطن العربي، وامتدت موجات المَدِّ الثوريّ، التي كانت تتراكم على شواطئ الأرياف وأطراف المدن والأحياء الفقيرة، وتتكدَّس بين رمال الأرواح المُكتوِيَة بالألم والتهميش والإقصاء، إلى كلِّ مكان في هذه المعمورة… ما لبثت أن تملكتنا قشعريرة فرحة ذلك الصوت المبحوح للمحامي التونسي الشجاع عبد الناصر العويني: “اتنفسوا الحرية، شعب تونس هدالنا الحرية، يحيا شعب تونس، تحيا تونس العظيمة، تحيا الحريه المجد للشهداء، يا توانسة ماعادش خوف، المجرم هرب، المجرم هرب، بن علي هرب…”!
أخذ الشباب العربيُّ يرتعد غضباً وحماساً؛ وأدرك أنَّه جزءٌ لا يتجزَّأ من عالم المستقبل الواعد؛ والسائر بخُطىً ثابتةٍ نحو تحقيق حلم حريته المنشود.. أثبت أنه ليس شباباً فارغاً يطفُو على سطح المجتمع ـ كما يحلو لبعض المشايخ وصفه ـ بحُجَّةِ أنه يُضيِّع وقتَه سُدىً في الفراغ الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، محاولاً التعرف على الفتيات وملاحقة الحسناوات، أو في مشاهدة مبارايات كرة القدم والأفلام الإباحية، أو في شرب الشاي وتدخين النرجيلة، أو لعب الورق، أو تناول المخدرات..، بعيداً عن أيّ توجُّهٍ سياسيّ أو اهتمام فكريّ أو إبداع ثقافي.. ترك كلَّ شيءٍ وانضمَّ إلى الركب الثائر، ووقف بشجاعة منقطعة النظير ضد أبشع الأنظمة الشمولية في العالم؛ وامتلك حقَّ الدفاع عن النفس واختيار الطريق الصحيح المنير؛ واستمر بثورته العارمة ضدَّ الفساد والظلم والديكتاتورية والإجرام والتوريث…
كانت هذه الثوراتُ الشبابية العربية المجيدة أشبهَ بالمعجزات، التي لم يكن أحدٌ يتوقعها، ولا تقِلُّ أبداً بقوَّتها وزخمها وتأثيرها عن الثورات المِحوريَّة الأخرى في تاريخ البشرية، كالثورة البرجوازية الفرنسية وثورة أكتوبر الاشتراكية؛ حيث استطاعت خلال فترة قصيرة نسبياً أن تُسقط أنظمةً اختبأت طويلاً في عباءات الوطنية والمقاومة والمُمناعة ومعاداة المشاريع الأمريكية والغربية ومحاربة إسرائيل…
نجحتْ جزئياً في تونس، وانتكست في مصر، ودخلت دوَّامة الاشتباكات القبلية والمناطقية في ليبيا، وسقطت في أيدي الحوثيّين باليمن، وأُجهضت بالعراق من قِبل إيران، وتعثّرت في سورية متحولة إلى حرب طاحنة مدمرة، نتيجة وقوف قوىً إقليميةٍ ودوليةٍ كبرى ـ كإيران وروسيا ـ إلى جانب الأسد المجرم؛ حرب تواصل تخريب دوراتنا الدموية، وملاحقة جميع الأرواح والأجساد البريئة فيها؛ حتى تحولت معظمها إلى مقابر وأطلال ورماد، لنلعن يوم ولدنا في أسوأ بقعة من العالم. هذه البقعة البائسة التي تسمى سورية، تذكرنا دائماً برعب التعذيب والتهديد بالموت.
رغم كل ذلك ما زال هذا الشباب العربيُّ مستعداً للتضحية بكل شيء من أجل تحقيق حلمه، حتى لو أصبح وقوداً دائماً لتلك الثورات الفاشلة التي قد لا تنتصر أبداً، بسبب تحالف القريب والبعيد ضد رغبة هذا الشباب الواعد بنيل حريته الحقيقية وشعوره بكرامته الإنسانية لأول مرة في عمره!