قناة شتّامة ومالك مشتوم
د. محيي الدين اللاذقاني– العربي القديم
أول عهدي بأورينت كان بعد الثورة، لكني لا أستطيع الزعم أني لم أسمع بمشاكساتها، وتعقيدات ظهورها قبل الثورة، وارتباط تلك التعقيدات بالمافيات المتحكمة بالاقتصاد السوري، حيث ظهرت التهديدات على ذمة مالكها في لقاء معه من شخصيتين رئيسيتين، كانتا مقربتين من بشار الكيماوي، وهما محمد مخلوف، ومناف طلاس.
وقطعاً، فما من مهتم بالإعلام إلا وسمع عن هجرتها المبكرة إلى دبي، لتبحث عن فضاء يتنفس إعلاميوها من خلاله بعض الحرية، بعد أن امتصت مخابرات المقبور بالقرداحة وابنه، وخصيانهما كل الهواء المتاح للسوريين، وأوصلتهم الى مرحلة الاختناق الذي فجر الثورة.
وتشاء الصدف أن أذهب في أول استضافه لإستديوهاتها المهاجرة من أبو ظبي إلى دبي بالسيارة في رحلة، كان معي فيها الكاتب السوري العذب مصطفى خليفة مؤلف رواية “القوقعة”، التي ما تزال رغم وفرة الكتب والروايات التي تحدثت عن قمع العصابة الأسدية، هي التي تقفز إلى الذهن مباشرة حين الحديث عن الغباء الاستخباري الذي لم يكن يميز ولا يحقق، فالرواية تحكي عن مسيحي، ذهبوا به إلى سجن تدمر الرهيب بتهمة أنه من الإخوان المسلمين.
وفي تلك الرحلة نحو إستوديوهات قناة المشرق في دبي، قال لي مصطفى خليفة إن هذا المسيحي الذي اعتقلوه، واتهموه بالانتماء الى الإخوان المسلمين، ليس من أولاد المخيلة، فهو صديق له مزج قصته بقصة الراوي، حين كان يتلصص على ما يجري في زنازين سجن تدمر من ثقب الباب.
وقبل أن أدخل الإستديو، كان حظي أن أتعرف على حكم البابا، ومحمد منصور، وهما دينامو “أورينت” في ذلك الوقت المبكر من تاريخ الثورة السورية، ثم تقطعت بنا السبل بين طريد وشريد وغريب، ونازح ومهاجر، لكننا ظللنا رغم خلافاتنا نحمل تقدير دور “أورينت” في دواخلنا؛ لأنها تحولت بالفعل إلى صوت حقيقي للثورة، والثوار بعد أن تخلت عنهم معظم القنوات التي تاجرت بهم، وبقضيتهم لأغراض في نفس يعقوب وشيبوب.
ولاحقاً، سيختلف غسان عبود مع حكم البابا، وهو خلاف شهدت بداياته في أول مؤتمر بأنطاليا التركية في أواخر شهر مايو/ أيار أي بعد شهرين فقط من قيام الثورة، وقد قيل في ذلك الخلاف الذي يعرف خلفياته كثيرون كلام كثير، لكني رغم معرفتي بالكواليس آثرت عدم التدخل؛ لأني أحرص عادة على الابتعاد عن الخلافات ذات الطابع الشخصي؛ لأن فيها دوماً جانباً خفياً لا يعرفه غير طرفَي الخلاف .
أما محمد منصور، فقد قيض لي بعد تلك الزيارة أن أعرفه أكثر، فقد أكبرت فيه توثيقه للذاكرة السورية، وذاكرة ثورة الشعب السوري قبل أن يفكر بذلك أحد، وقبل أن يتم إنشاء مؤسسات لتقوم بذلك العمل الذي قام به محمد منصور وحده، وكان تواجده في أورينت عاملاً مساعداً، لإنجاز ذلك الدور المشرف.
ويبدو أن دور قناة المشرق في التميز عن باقي منابر الإعلام السوري، قد بدأ قبل قيام الثورة حين هاجرت إلى دبي، فمن مقال كتبه محمد منصور في القدس العربي، قبل الثورة بثلاثة أشهر، بعنوان: “ظاهرة القنوات المطرودة من بلدانها”، اكتشفت أن القناة قدمت برنامجاً لأيمن عبد النور، يطالب فيه بنقل العاصمة من دمشق إلى حمص، وهذه جملة لو تم النطق بها من داخل سوريا، لأوصلت صاحبها إن بقي حياً إلى سجن تدمر ليصاحب النماذج التي حكت عنها رواية “القوقعة”.
ولا أذيع سراً إذا قلت إني تعرفت على سوريا، وإعلامها قبل الثورة عبر محمد منصور، وبالتحديد من كتابه “سورية ما قبل الثورة – معارك الصحافة والسياسة والفن والمخابرات”، الذي كتبت مقدمته وقرأته بشغف، لأكتشف عيناً راصدة، يحرسها ضمير حي تعترف بالحقيقة، حتى لو كانت في جانب أعدائها، وهذا رصيد كبير استفادت منه أورينت التي رافقها المؤلف، وظل قريباً من مالكها الى أن تم إغلاقها مع بدايات التطبيع العربي مع بشار الكيماوي بقرار إماراتي، أستجاب له مالكها، الذي لا يخفي أنه يمتلك مصالح تجارية عديدة في تلك البلاد؛ لذا حرص أن يقول عن قرار الإغلاق، إنه قراره الشخصي، ولم يصدق ذلك كثيرون من الذين يعرفون ولهه بالإعلام.
ويكفي برنامج ” تفاصيل“ لأحمد ريحاوي وعلاء فرحات وحده، ليبين سر تعلق السوريين بهذه القناة الجريئة في وقت خذلهم فيه القريب قبل البعيد، وتكالبت عليهم الأمم حين حول أوباما، وأردوغان، وخامنئي، وغيرهم حماة بشار الكيماوي قضيتهم الى سلعة في سوق المساومات الدولية، وحرصوا على تغييب صوتهم ومعاناتهم في مختلف المنابر العربية والعالمية، وكانت القنوات العربية المملوكة لمن كانوا يمهدون للتطبيع مع بشار الكيماوي بشكل مبكر، هي الأشرس في إخفاء إيجابيات الثورة، والحرص على تقديمها كحرب أهلية لتبرئة العصابة الأسدية من الجرائم التي ارتكبتها، وأودت بحياة أكثر من مليون سوري كما شردت عشرات الملايين من السوريين في بقاع الأرض كافة.
ومن الطبيعي في هكذا ظرف أن يتطلع السوريون لمن ينصفهم، ويضع قضيتهم في إطارها الطبيعي كثورة ضد الفساد والاستبداد، وحينها لم يجدوا من يقوم بهذا الدور إلا قناة مغتربة منفية إمكانياتها بسيطة ومحدودة، لكن حماس كوادرها وإيمانهم بثورتهم وقضيتهم العادلة كان يغطي على هذه النواقص كلها، ونظراً لجرأتها في تناول قضايا، تخشى منابر الإعلام العربية تناولها، قال عنها خصومها إنها قناة “شتّامة”، ليبرروا جبنهم، وتقصيرهم في الدفاع عن كرامة الشعوب، وحرية الإعلام.
ورغم الدور الثوري البارز المعترف به لأورينت – قناة المشرق كان مالكها غسان عبود أكثر شخصية شُتمت من المعارضين ناهيك عن الموالين، وهذا شيء طبيعي ومتوقع، ومعروف منذ أيام ابن حزم رحمه الله القائل: “مَن تصدر لخدمة العامة، فلا بد أن يتصدق ببعض من عرضه على الناس؛ لأنه لا محالة مشتوم”.
_________________________________________
من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024