فن الراب في خدمة فلسطين: خطاب ثائر كسر صورة الجيل الضائع المستهتر
عادل العوفي – العربي القديم
في ظل الصمت المريب المخيم على الوسط الفني العربي منذ السابع من اكتوبر واقتصار “التضامن” مع القضية الفلسطينية على بعض المنشورات الخجولة عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والتي تتسم بنبرة عادية تخلو من موقف مباشر وواضح نظراً للحساسية التي أضحى الموضوع يمثلها، وبالتالي إيثار السلامة واتباع المثل العامي الذائع الصيت حول “المشي جنب الحيط”، تفاديا لكل ما قد يؤثر على المستقبل الفني ويحرمهم من عروض المهرجانات والمواسم السياحية.
تعودنا في فترات خلت الاستعانة بما يسمى “الأوبريت الغنائي” كنوع من أنواع الاستهجان أو لم الشمل العربي، للتعبير عن صوت الفنان ووقوفه جنبا إلى جنب مع أشقائه؛ وكان عراب تلك الموجة آنذاك المنتج المصري ذو الأصول الفلسطينية أحمد العريان الذي أشرف على طرح أوبريت “الحلم العربي” سنة 1998 وجمع نخبة من الفنانين العرب وبلغ ذروة نجاحه سنة 2000 مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث ظل الكل ينشد حلما عربيا يكنس غبار الذل والمهانة؛ وبعد مضي عشر سنوات بالتمام والكمال عاد العريان ليصرخ ويجمع مغنيين وممثلين من المحيط الى الخليج ليطلقوا “الضمير العربي” في سنة 2008 مع طرح فيديو كليب مؤلم بمشاهد قاسية يوثق لكل الويلات التي انهالت على هذه الامة.
ومع توالي السنوات انحسرت شعبية “الأوبريت” ولم يعد يعرف طريقا للعرض التلفزيوني وتغير الخطاب السائد حتى في الوسط الفني تماشيا مع الواقع السياسي العربي الجديد؛ لتتوجه الانظار كلها صوب ما كان يسمى فنا بديلا، وأصبحت مسؤولية مغنيي الراب في الوطن العربي مضاعفة لاسيما أن أصواتهم بات مسموعة في الآونة الأخيرة، وأيضا لأنهم الأكثر تحررا من الضوابط التي تحكم غيرهم، وهم الأقرب لنبض الشارع وهموم المواطن وقضاياه بالنظر لظروف ونشأة هذا النوع الفني بالأساس.
أوبريت موحد لجيل جديد
مباشرة بعد اندلاع معركة “طوفان الأقصى” وفي اليوم الأخير من ذات الشهر، اجتمعت أصوات أكثر من 25 مغنيا عربيا شابا من مختلف الدول العربية، من أجل طرح أوبريت بعنوان “راجعين” متحدين إجراءات اليوتيوب وضوابطه، صادحين بمختلف اللهجات وبنبرة مباشرة دون مساحيق تجميل. ورغم المضايقات التي صاحبت طرح الأغنية على مواقع التواصل الاجتماعي إلا أن العمل تفوق على كل تلك العراقيل وحقق نسب مشاهدة عالية؛ مع العلم أن صناعه أعلنوا منذ اليوم الاول، أن كل العائدات وكل الأرباح مخصصة لأهل غزة.
ومن الأسماء المشاركة في الأوبريت نذكر:
من مصر أمير عيد وعفروتو ومروان بابلو ومروان موسى مع دينا الوديدي ودنيا وائل، ودانا صلاح وسيف شروف وعصام النجار. من فلسطين وسام قطب وعمر رمال وزين، وفؤاد جريتلي من ليبيا، ودافنشي من السودان، وفورتيكس من الكويت، وبلطي ونوردو وعلاء من تونس، وسمول إكس من المغرب، والثنائي اليانج وراندر من اليمن والسعودية، والأخرس وسيف بطاينة من الأردن، ثم غالية شاكر من الإمارات. كان العمل تحت إدارة المخرجين الفلسطيني عمر رمال والليبي أحمد كويفية، والكليب للمنتج الفني والموزع ناصر البشير.
ويجز في مرمى النيران
وبينما يرابط بعض فناني الراب في الأستوديو قصد الخروج بأعمال تحاكي المأساة وتضع النقاط على الحروف، تجاه يكابده أهل غزة؛ كان الفنان المصري أحمد علي الشهير “بويجز” يحارب على جبهات عديدة بكوفيته الفلسطينية، واضعا كل الحسابات الضيقة جانبا على غرار تصريحه الواضح والصريح على قناة الجزيرة مباشر من أمريكا “ما حدش يكلمني على أميركا بتاعت الحرية والديمقراطية… الحكاية كلها أنه بيحطني على خط… ويقول هي دي الحرية وأول ما أطلع براه يقول دي مش الحرية”.
وبنفس الصيغة يخاطب الإسرائيليين باللغة الإنجليزية على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، واصفا إياهم “بالفئران الحقيقية التي تملك أسلحة نووية “؛ وفي كل حفلاته الخارجية سواء في أمريكا أو كندا ظل “ويجز” حريصا على ذكر فلسطين، وأننيها مصرا على استحضار ما يحدث وبالتالي مجابهة الالة الاعلامية الصهيونية الضخمة المتجذرة لعقود في الغرب.
ورغم أن “ويجز” لم يطرح بعد أغان جديدة عن القضية الفلسطينية، إلا أنه ناضل بشتى الطرق وهو الفنان المصري الوحيد الذي تجاهل الخطاب الرسمي والكلام المعلب فيما يخص فتح معبر رفح، وأعلنها دون مواربة داعيا لفتحه “من أجل الإنسانية”. ولعل من نقاط القوة التي نجح ابن الاسكندرية في استثمارها هي شعبيته الجارفة خارج المحروسة، فهو الأكثر بثا واستماعا في المنصات الموسيقية الكبرى في بلده أيضاً، لذلك لم يتوانَ في الهتاف للقضية في كل حفلاته الخارجية والتبرع بعائداتها لجهود الإغاثة في غزة، راسما بذلك صورة فريدة من نوعها لصوت عربي انطلق من المحلية وكسر كل القيود وهو لم يتجاوز الخامسة وعشرين من عمره ويتبنى قضايا أمته الجوهرية.
لطفي بوشناق يتحالف مع فناني الراب
من المستجدات المهمة مؤخرا التي تؤكد أنه يحق لفناني الراب ما لا يحق لغيرهم، إستنادا لهوامش الحرية المتاحة أمامهم أسوة بزملائهم “الوتريين”؛ لابد من التوقف عند مفترق طرق مهم يكمن في تبني الفنان التونسي المخضرم لطفي بوشناق لنفس الموقف، والدليل أنه حين حرص على تقديم أغنية جديدة حول ما يحدث في غزة استعان بأحد اهم الاصوات التونسية المهيمنة على الساحة حاليا في مجال الراب وهو “سمارا” حيث طرح الاثنان أغنية ثنائية “ديو”، بعنوان “إلى من يهمه الأمر”.
ومن المعروف أن صاحب أغنية “خذوا المناصب والمكاسب ولكن خلوني الوطن” يدرس خطواته مليا وليس من الهين أن يوافق على خوض مغامرة جديدة دون أن يعي عواقبها جيداً؛ وهي إشارة مهمة للمكانة التي بات يحتلها فن “الراب”، وبالأخص في الظروف الحالية.
“كلاي” يتبنى مصطلحات ابو عبيدة
تعتبر الكلمات من أهم نقاط القوة لدى صناع الراب، لذلك نجد العديد منهم يتباهى بقدراته في الصياغة والبلاغة؛ وعلى هذا النهج سار الفنان المثير للجدل بتونس الخضراء “كلاي بي بي جي” واسمه الحقيقي أحمد بن أحمد، بأغنيته “لا سمح الله” التي استوحاها من إحدى الخطابات الشهيرة للناطق الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام “أبو عبيدة”.
وبلغة مباشرة ورثاء حاد للواقع العربي المخزي جسد “كلاي” الصوت الآخر المهمش المنزوي الذي نسمعه ونشاهده، على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشارع العربي، ولا يصل للشاشات الرسمية.
“جنجنون” متقين من لعنة العقد الثامن:
في الاطار ذاته طرح الرابور التونسي المعروف باسم “جنجون”، واسمه الحقيقي عمر الطويهري، أغنية بعنوان “أراضينا” حاملا شعار “لعنة العقد الثامن” متيقنا أن لكل ظالم نهاية، ومتماهيا مع مقاطع الفيديو التي تبثها المقاومة من استهداف العدو من المسافة صفر؛ دون أن ينسى التذكير بدور ابن بلده الشهيد محمد الزواري الذي اغتاله الكيان الصهيوني في مدينته صفاقس، وهو مهندس طائرات الأبابيل، وكان في طريقه للمزيد من الاختراعات المدوية التي ستغير الكثير في الحرب مع العدو.
تقول كلمات أغنية العقد الثامن:
فالعقد الثامن لا تطبيع ولا مطبوع جاي وڤت الرجوع
جاي وڤت الحسم والقصف بالقصف وبيد ربّي القسم
جناحي مجروح وتراني نتبسم وين عجز الوصف
طوفان و عواصف يتزعزع الخصم
بحرارة الروح ومرارة الحزن
معاك حتى يوم النصر والغارة بالغارة من لبنان لمصر
الدنيا دوّارة وحيط الخوف تكسر
عالقضية الاصل تو يشهد العصر
الزواري ماكان مقصّر دمّو ماتهدرش خسارة
معك حتى يوم الموت ومن غير شروط
مجازر نشوفو فيها حيوط المعمداني شهود
رينا درس في الصمود وآخرة العدو مطرود
مصيرها تتكسر القيود
علاء حمدان ونيران الطوفان
في الاردن يواصل علاء حمدان إخلاصه للقضية بعد سلسلة مطولة من الأغاني التي تزين قناته على اليوتيوب؛ وما يميزه عن الباقي هو الاستمرارية دون الاكتراث للهرولة نحو حمى “الترند” الذي يلهث نحو الكثيرون في عصرنا الحالي؛ وبعيدا عن المحطات والأحداث المفصلية نلاحظ حرص الرابور الأردني على إعادة إحياء أغاني فلسطينية واضعا بصمته الخاصة عليها على غرار “دمي فلسطيني” بعد أحداث حي الشيخ جراح؛ وأغنية “صوت الأقصى” منتقدا فيها “صفقة القرن” والتطبيع؛ بالإضافة إلى “نيران طوفان الأقصى” ومؤخرا أيضا طرح أغنية “جنة فيها نار”.
النسر المصري بجوار “أخويا الفلسطيني”
“إنتوا استهونتوا بالدم.. أنا أخويا فلسطيني بس ماليش أي ولاد عم.. فينا رجالة ما تخافش الموت هنا ما بنندمش.. يوم 7 في تل كان نبذة بسيطة بس ما تحلمش.. إن القضية تتلم”.
بهذه الكلمات صدح الشاب المصري مصطفى النسر ليضم صوته لأصوات أبناء جيله ممن يرفضون الذل والهوان وينشدون الانعتاق والحرية؛ والدليل انها حققت نسب مشاهدة عالية عبر المنصات وجعلت ابن منطقة “المقطم ” القاهرية في مرمى الاشادات والثناء لأنه اختار عبارات قريبة من المجتمع وتمثل شرائح مهمة انهكتها الشعارات الجوفاء والعبارات المنمقة.
فرقة “راب شارع” تكسر القاعدة
خطوة فريدة حققتها فرقة “راب شارع” المصرية من خلال طرح 11 أغنية كاملة عن القضية الفلسطينية ومن زاويا مختلفة ومتنوعة من البعد العقائدي الى التاريخي ومحطات مهمة وثقتها بأصوات إحدى عشر مغنيا مع كم هائل من المرددين من مختلف الأعمار وبخطاب مباشر دون مواربة يردده الصغار مع الكبار متلحفين بالكوفية الفلسطينية.
الملفت في الموضوع المزج بين الكلام العامي الشعبي المتداول في الشارع وبين آراء ومقولات لشخصيات ذات حمولة ثقافية وأكاديمية وازنة على غرار المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري وإدوارد سعيد؛ ما جعل هذا “الألبوم” فريدا من نوعه ويختصر عقلية شباب اليوم الذي يرفض وصفه بالجهل ولكنه حريص على التفاعل بطريقته الخاصة وأسلوبه الذي يشعره بالتفرد أكثر.
المقاومة بتقنية الدس
يمكن وصف ما يحدث في عالم الراب اليوم بالمقاومة بتقنية “الدس” وهي فن لفظي يستخدمه المغني لإظهار قدراته اللفظية وملكاته في الكتابة والغناء، ويُسْتَخْدَم في اطار المنافسة والتحدي؛ ورغم عدوانيته الجلية الا انه يؤجج الحماسة وروح المنافسة بين مغنيي الراب وهو من الأكثر المصطلحات تداولا في هذا العالم مؤخرا.
المؤكد خلال ما سبق أن صناع هذا الفن استعانوا بهذه التقنية للتعبير عما يجول في خواطرهم وهم يواكبون معركة “طوفان الأقصى” وأطلقوا العنان لغضبهم في الاتجاه الصحيح ونبشوا وبحثوا في تفاصيل مهمة من تاريخهم قصد صياغة جمل موزونة وعبارات ستظل في الذاكرة والوجدان وتحث ايضا الجيل الجديد الذي يخاطبونه على حفظها كتراث شفهي متناقل؛ كما ونجحوا في محو الصورة المغلوطة عنهم باعتبارهم يمتهنون فنا هابطا وبذيئا لا يمت للواقع بصلة.
جيل مسؤول وواع
يرتبط الراب في أذهان الكثيرين بالانحلال والتدني الأخلاقي، لاسيما مع حرص العديد من أبنائه على استخدام مصطلحات مشينة، وأيضا التقليد الاعمى للغرب سواء في اللباس والعادات الدخيلة مثل الوشوم وارتداء الحلق وغيرها من التفاصيل المسيئة لصورة هؤلاء الشباب؛ ولعل هذه الهبة والثورة الجديدة لجيل “زد” ستساهم في جذب شريحة جديدة من الجمهور ممن انبهروا بالمعلومات التاريخية والارتباط الوثيق بالقضايا الرئيسية، من خلال سلسلة الأعمال الفنية التي قدمها هؤلاء من أجل فلسطين. ربما تكون فرصة جديدة لهم أيضا لمراجعة طرق اشتغالهم والتركيز على مواضيع تهم المجتمع وقريبة من نبضه؛ بدل الانغماس في معارك وهمية جانبية وإهدار طاقاتهم في السلبية المفرطة والصراعات الشخصية التي تساهم في تكريس صورة مسيئة عنهم؛ وبالتالي تفنيد تهمة الجيل الضائع المستهتر التي تلاحقهم.