الرأي العام

العدالة الانتقالية – 1: هل من المنطقي أن نطلب ممن مروا بتجارب مرعبة الاتزان والاعتدال

لا بد من حلول، لكنها حتماً ستفشل حينما لا تستطيع فهم المسببات

عبد الرحمن ريا- العربي القديم

كانت المناسبة زيارةُ مباركةٍ بمناسبة خروجه من الاعتقال على خلفية مشاركته في الثورة السورية. كالعادة حاول البعض استجراره بالكلام ليروي قصص التعذيب والظلم والمعاناة، لكنه بدا متحفظاً؛ إلى أن قال له شيخ المجموعة الزائرة: “بكل الأحوال يا أخي، كلما تذكرت معاناتك، تذكّر انها غيض من فيض ما قاساه الصحابة الكرام، من صنوف التعذيب التي فاقت كل وصف من أجل وصول الإسلام إلى ما وصل إليه”. أخيراً نجح الشيخ في فك عقدة لسان المعتقل الطليق فقال بعد أن رمق الشيخ بغضب: “عزيزي، ما عاناه الصحابة يدعو للتقدير والاجلال بلا شك، ولكن اعذر صراحتي فما قرأناه عن قصص تعذيبهم لا يعادل فصل واحد من فصول يوميات المعتقلين السوريين في السجون الأسدية، إن الحجر الذي وضعه أبو جهل على بطن بلال، يحلم به كل معتقل وهو مشبوح في الزنازين”.

أطبق الصمت على الجميع، فرغم استهجانهم للمقارنة، إلا أن ما قاله الطليق صحيح، يعرفه كل سوري مهما حاول التجاهل والنكران.

مارست عصابات الأسد خلال ثورة السوريين أصنافاً من الإجرام والتعذيب يصعب أن يتصورها بشر، أو تحيط بها شهادات أو لقاءات إعلامية وتقارير وتغطيات أو مشاهد مُقاربة تمثيلية. إن الجلوس في بقعة لا تتجاوز ثلاث بلاطات لأشهر، أو ضغط المعتقلين كسمك السردين لثماني ساعات في وردية النوم اليومية، أو حشر نزلاء زنزانة لا يقل عددهم عن مائة معتقل في زاوية ضيقة لا تزيد مساحتها عن ثمانية أمتار مربعة لعشر ساعات في شهور الصيف وفي طابق ثاني تحت الأرض. تلك التفاصيل “الصغيرة” لا تُروى عادةً، لأن من الصعب نقل ألمها بنفس سهولة الحديث عن دولاب أو شبح وتعذيب جسدي؛ رغم أن أثرها يبقى غائراً في زوايا الروح. والكلام هنا عن معاناة السجن فقط، دون تناول القصف بالكيماوي والبراميل، وهدم المدن والقرى وتهجير البشر ليعيشوا حياة كاملة في الخيام، وهي رفاهية قد لا تتاح للجميع. وغير ذلك الكثير.

هل تعتقدون أنه من المنطقي والطبيعي أن نطلب من ملايين السوريين الذين مروا بتلك التجارب المرعبة، الاتزان والاعتدال. وهل يخطر ببال عاقل أن يتعافى الجسد السوري بهذه السرعة مما فعله نظام الإجرام الأسدي به على مدى أكثر من ستين سنة!

هل كان أحد يتوقع مجتمعاً متجانساً تعلو فيه قيم المواطنة، وتذوب فيه الطائفية والعشائرية، والتطرف! وهل ترك حكم الأسد وأعوانه فرصاً لذلك!

لم تتمكن سورية من التقاط أنفاسها منذ سقوط نظام الاجرام وزعيمه الهارب، وعلى مدى الشهور الماضية تتالت أحداث مؤسفة راح ضحيتها مئات السوريين، وسط عديد المقالات والدراسات التي ناقشت ولخصت أسباب ما يجري معتبرة أنه نتيجة الجهل من جهة، والتطرف الديني والطائفي للمجموعات المسلحة التي تسيطر على البلد من جهة أخرى. أصحاب المنطق السابق رفضوا تبرير ما جرى ويجري بأنه رد فعل على إجرام ممنهج استمر أكثر من نصف قرن، فالتمييز العنصري في جنوب افريقيا لم يكن أقل إجراماً مما فعله الأسديون، ورغم ذلك لم تشهد سنوات ما بعد انتهاء نظام الفصل العنصري مجازر أو حوادث انتقام وجرائم، هذا كان استدلالهم، مضيفين أن الحال لم يختلف بعد سقوط معظم أنظمة الكتلة الشيوعية في أوربا الشرقية، حيث بقي قادة الشيوعية السابقون يعيشون حياتهم بسلام، دون تسجيل حوادث انتقام. هكذا تتعامل المجتمعات المتحضرة وغير المتطرفة، التعقيب الأخير لأصحاب المنطق السابق أيضاً.

قد تبدو المقاربات السابقة جديرة بالتفكّر قبل الولوج إلى سياقاتها، فالانتقال في جنوب افريقيا لم يجري في ظل انهيار النظام القديم، بل بدت الأمور مرهونة لمنطق التوافق مع النخبة السياسية البيضاء، بشكل أدى إلى انتقال سلمي تولى فيه مانديلا منصب الرئاسة على حساب الرئيس الأبيض الذي تولى منصب نائب الرئيس. أما في سوريا فقد رفض مجرمها أي حل سلمي للمشاركة فضلاً عن تسليم السلطة، ولا زال السوريون يتندرون بمنطقه الغبي حين رفض دعوة الرئيس التركي أردوغان للمصالحة، “فالأسد لم يرغب بشرب المرطبات”، ليثبت غبائه السياسي، واجرامه بحق شعبه وطائفته، التي استثمرها في معركة بقاءه على الكرسي، على حساب دماء وأرواح الملايين من شعبه.

في حالة أوربا الشرقية، فالنظام الوحيد الذي يمكن مشابهته بعصابة الأسد هو نظام تشاوشيسكو (القائد المعبود) في رومانيا حيث الشرطة السرية المتحكمة التي اعتبرت الأكثر عنفاً واجراماً في الكتلة الشرقية؛ قد تشبه دون أن تبلغ مستوى اجرام النظام الأمني للأسد. هناك لم يكتفي الثوار بإعدام الرئيس وزوجته، بل قتلوا نحو ألف شخص إثر إعدام سفاحهم.

بخلاف المثالين السابقين تثبت الدراسات المقارنة أنه كلما طالت معاناة الشعوب من القمع والاستبداد، كان عقابها وانتقامها وتطرفها أكثر رعباً، حيث يعتبر الثوار الجزاء مرحلةً من مراحل التغيير الثوري، يجب أن تطال لائحة طويلة من الآثام التي اقترفها رموز الماضي وداعموه وربما المتعاطفون معه أيضاً.

تشير الاحصاءات مثلاً إلى أن “العدالة الجامحة” في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حصدت أرواح عشرة آلاف ضحية في فرنسا ومثلهم من المشتبه بانتمائهم إلى الفاشية في شمال إيطاليا خلال شهور الشتاء بين عامي ١٩٤٤ – ١٩٤٥م[1]. هؤلاء الذين نفّذوا عمليات العقاب الدموية لم يطلقوا لحى طويلة، ولا انطلقوا إلى الانتقام من ادلب الاوربية، إنهم ككل الشعوب التي عانت من الطغاة الفاسدين، يعتبرون الجزاء العنيف بمثابة تطهير عاطفي يمنحهم شعوراً بقيام العدل.

ليست هذه محاولة لشرعنة أعمال التطهير والعنف والانتقام بالطبع، فالنتائج تكون في الغالب كارثية، لأن العنف يولّد دوامة هائلة من ردود الأفعال الدموية، التي تقسّم المجتمعات، وتضعف شرعية الحكومات الوليدة، وتجعل الدول قاب قوسين من الفشل.

لا بد من حلول، لكنها حتماً ستفشل حينما لا تستطيع فهم المسببات، وتتجه إلى التعالي والفوقية في التنظير، والتغاضي أو الاستخفاف بجراحات شعب ذاق الويلات من حكم ديكتاتوري قل نظيره في التاريخ.

لا بد من سلسلة استراتيجيات لاستعادة السلم المدني من خلال ما يسمى “العدالة الانتقالية” التي تتجاوز فكرة المحاكمات، إلى التطهير والجبر وإعادة التأهيل والتعويض. ذلك سيحتاج وقفة أخرى في هذه السلسلة.


[1] معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديمقراطية – نويل كالهون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى