المدينة التي اغتالت شاعرها: أين الحقيقة في جريمة اغتيال السفير نور الدين اللباد؟
كيف يُمكن لبلد أن يسمح بقتل شعرائه وأطبائه ومثقّفيه على أيدي أشخاص تجهل من هم هؤلاء

فراس اللباد – العربي القديم
تُسجّل مدينة العرَام (الصنمين) منذ الثامن من ديسمبر سلسلة اغتيالات متواصلة، دون معرفة دوافعها أو أهدافها. لم يدرك الناس حجم الكارثة التي ألمّت بمدينتهم الواقعة جنوب درعا بسوريا، والتي يبلغ عدد سكانها قرابة سبعين ألف نسمة، وقد استضافت عدداً كبيراً من النازحين الفارين من بطش النظام البائد آنذاك.
استقـرارٌ وحنيـنٌ….
في الثامن من ديسمبر، عقب تحرير سوريا، عمّت الفرحة أهالي المدينة بعد انتظارٍ ثائر دام أربعة عشر عاماً، وانطلقت استعدادات المغتربين والمهجرين من أولادها للعودة إلى ديارهم التي حرمهم منها النظام البائد طيلة فترة الثورة السورية.
انضمّ الدكتور السفير “نور الدين اللباد”، الذي انشق عن النظام السابق، لهذه الفرحة، وأحب أن يكون بين أهله وأحبابه، حيث قبل ذلك، تضامن مع أبناء الشعب السوري وأهالي مدينته الصنمين، رافضاً تماماً ضغوط النظام، فاختار مع عائلته رحلةً محفوفة بالمخاطر بحثاً عن ملاذ آمنٍ ومستقر، تاركًا خلفه كل المناصب الرفيعة.
تنقّل بين العديد من الدول منذ انشقاقه، ثم استقرّ في العاصمة الفرنسية باريس، وبعد سقوط النظام البائد، هاج الحنين، فقرّر زيارة وطنه سوريا، ومدينته الصنمين، التي تغنّى بها وكتب عنها الشعر والأغاني، ومن أشهر ما كتب عنها قصيدة “من مفرق جاسم للصنمينِ حاجة تهل الدمع يا عيني”، التي ترددت كلماتها على كل لسان منذ زمن بعيد، دون أن يعرفوا هؤلاء من قتلوا شاعرا ومثقفا قد لا يتكرر في مدينتهم .
لـم يكتمـل الفـرحُ والحـزنُ ….
استبشَر الشاعر بزيارة مسقط رأسه، رغم حزنه الشديد على فقدان ابنه البكر في بلاد اللجوء. فقد قصد مدينته التي عشقها كعاشقٍ لفتاته الجميلة، ليعيش مع أهله، ويخفف من وجع اللجوء والحزن اللذين رافقاه طيلة غيابه عنها. لكن تلك الفرحة لم تكتمل، إذ لحقته يد الغدر برفقة شقيقه في الصنمين، على أيدي ما تزال ترتكب القتل بلا خوف أو رادع.
رغم تواجد قوات الأمن العام في الصنمين، ومساعيها في تنظيم الأعمال وضبط الأمن، إلا أن ذلك لم يثنِ تلك العصابات عن ارتكاب جريمة قتل نور الدين اللباد، متجاهلة ومتحدية بذلك سلطة الدولة والنظام الجديد في سوريا .
غـيـاب الـحـقيـقـة
تواصل عائلة الدكتور نور الدين اللباد مساعيها الحثيثة للوصول إلى الحقيقة، دون تحقيق نتائج ملموسة، في ظل تقصير ملحوظ من الأجهزة الأمنية والقضائية في التعاون معها. وقد بذلت جهات عدة مقربة من العائلة، بالإضافة إلى لجان تحقيق، جهودًا مكثفة لفهم ملابسات هذه الحادثة الإجرامية التي هزت الوجدان السوري وشكلت صدمة في الأوساط الديبلوماسية والثقافية، ومعها سائر الحوادث المتواصلة منذ سقوط النظام البائد، لكن دون جدوى .
كيف يُمكن لبلد أن يسمح بقتل شعرائه وأطبائه ومثقّفيه على أيدي أشخاص تجهل من هم هؤلاء، وماذا ستقدمه هذه الشخصيات للوطن، أمام ما سيقدّمه هؤلاء القتلة مستقبلا؟ فهؤلاء القتلى لم يفهموا بعد آلية بناء الدولة، لأنهم بكل تأكيد لا يعرفون ولا يفقهون كيف تُبنى الأمم، فمن يتولى بنائها، القاتل أم الطبيب والمهندس والشاعر والمعلم .
الجـزاء صـوت مسرب وانتقـام
سعى الراحل نور الدين اللباد، الحائز على ماجستير في العلاقات الدولية من باريس، والكاتب والمترجم صاحب العديد من المؤلفات القيّمة، إلى تمثيل مدينته وسورية وشعبها بأبهى صورة ممكنة عبر مشاركاته المتعددة على مدار أربعة عشر عاماً من الثورة السورية.
سعى حينها إلى تحقيق الهدوء والسكينة، لإتمام مشهد الفرح والاستقرار في مدينته الصنمين، عبر منصات التواصل الاجتماعي، وبالطرق المتاحة.
(فقط لأنه قام بتسجيل صوتي مقتضب عبر وأتساب وتم تسريبه فورًا، لا يعني أن الحكومة السورية الجديدة ستدخل الصنمين وتمسك زمام الأمور . نتيجة الفوضى التي حصلت خلال فترة سقوط البائد، والصراعات بين الفصائل السابقة (منهم من تابع للنظام، وأخرى للثورة ولكنها مارست بعض التصرفات الغير مناسبة للثورة وللشعب) .
أثار هذا التصريح قلقًا شديدًا لدى فلول النظام البائد في الصنمين، الذين اعتبروه تهديدًا مباشرًا يستهدفهم، خاصةً بالنظر إلى مكانة الراحل “نور الدين اللباد” المرموقة وتأثيره المهم في المجتمع . كان تسريب الصوت حينها موجهاً لأفراد عائلته، حاثاً إياهم على واجب السلم والأمان والحفاظ على بلدهم سوريا، حيث كان الجزاء أنهم اغتالوا شاعرهم ومثقفهم .
لم يشفع له كل تاريخه الحافل أمام هؤلاء القتلى الذين لا يُميّزون بين أحد. صراع البقاء قائماً بعد سقوط الأسد، في المدينة، التي لا يُميّز فلولها بين كبير ولا صغير: ( الصنمين ). وللـقصـة بـقيـة….
الرحمة للدكتور نـور الدين وشقيقه ولشهداء سوريا.