جغرافيا الصوت: كيف قسّمت اللهجة خريطة السوريين؟
قراءة نفسية في صدى الأصوات - حين تُكسر الهوية بلهجة وتُبنى حواجز الولاء بلكنة.

براء الجمعة * – العربي القديم
تخيل أنك تجلس في حافلة مزدحمة في دمشق، أو في تجمع بمدينة حلب، أو حتى في مخيم للنازحين. تسمع صوتًا يحمل لهجة “شامية” أصيلة، وآخر بلكنة “حمصية” مميزة، وثالث بلكنة “ساحلية” أو “حورانية” أو “إدلبية” وغيرها. في لحظات ودون أن تدرك، يبدأ عقلك في رسم صورة ذهنية مفصلة عن كل متحدث: هذا “ابن مدينة”، وذاك “قروي، أو في الدارج السوري: شقفة فلاح”، وهذا “طيب”، وذاك “متخلف”. هذه التصورات ليست مجرد تخمينات عابرة؛ إنها نتيجة لعملية عقلية تحدث داخل أدمغتنا، تُعرف باسم “التمثيل الذهني السمعي”. إنها آلية تُحلل أدق تفاصيل الصوت: نبرته، حدته، سرعة الكلام، وبالطبع، اللهجة، لتُشكل أحكامًا فورية، وأحيانًا قاسية، عن شخصية المتحدث وهويته.
في سوريا تتعدد اللهجات وتتباين بشكل لافت للنظر بين المدن والقرى والمناطق الجغرافية وحتى المجموعات العرقية، تحمل هذه اللهجات دلالات راسخة تتجاوز مجرد التواصل. إنها تحمل في طياتها قصصًا عن الهوية، المنطقة، وحتى الطبقة الاجتماعية. لكن هذا الثراء اللغوي، وللأسف الشديد، قد يُصبح سيفًا ذا حدين، فيُؤدي إلى تحيزات خفية تُغذي التنميط المناطقي وتُعمق جذور التمييز. ولعل الأخطر في السياق السوري، هو كيف تداخلت هذه التحيزات مع بنية السلطة والاستبداد، لتُصبح بعض اللهجات، خاصة تلك المرتبطة بالنظام الحاكم، رمزًا للفوقية والتسلط، فأصبح له تأثيرات على النسيج الاجتماعي والنفسي للمواطنين.
فما الذي يحدث عندما يُصبح صوتك، بكل تفاصيله وخصوصيته السورية، مصدرًا للتمييز والتصنيف المسبق؟ وكيف تُلقي هذه التحيزات بظلالها الثقيلة على عافيتك النفسية، وتماسك مجتمعك الذي أنهكته الأزمات، وقدرته على تحقيق التعافي والتنمية؟ في هذا المقال، نقرأ في عالم الصوت واللهجة في السياق السوري، مستكشفين هذه الظاهرة من منظور نفسي واجتماعي. سنكشف كيف تُشكل هذه التحيزات تصوراتنا وتتحكم في تفاعلاتنا اليومية، وكيف يمكننا تحويل هذا التحدي الكبير إلى فرصة لبناء مجتمعات سورية أكثر عدلاً، شمولية، وتفهمًا للاختلافات، حيث يُحتفى بكل صوت ولهجة كجزء لا يتجزأ من النسيج الإنساني السوري الغني.
صوتك: بصمة دماغك الخفية… وسلطة الواقع
عندما تسمع صوتًا، فإن دماغك لا يكتفي بترجمة الكلمات التي تُقال فحسب. إنه يقوم بعملية تحليلية فائقة التعقيد، أشبه ببصمة صوتية فريدة تُسجل في الوعي، تشمل أدق تفاصيل الصوت: النبرة التي تُعطي الصوت لونه المميز (هل هو خشن كصوت الجبل، ناعم كهمس النسيم، أم رنان كصدى الأودية؟)، طبقة الصوت التي تحدد مدى حدته أو غلظته، وسرعة الكلام التي تُشير إلى إيقاع الحديث، بالإضافة إلى اللكنة واللهجة التي تُشير إلى منشأ المتحدث. من خلال تحليل هذه الإشارات الصوتية الدقيقة، يبدأ دماغك في بناء تصورات فورية ومُسبقة عن الشخص. هذه العملية، وإن كانت تحدث في جزء من الثانية ودون وعي، تُمكّننا من استنتاج سمات مثل العمر، الجنس، أو حتى بعض جوانب الشخصية المفترضة، كالثقة بالنفس أو الحالة العاطفية للمتحدث. تخيّل أن دماغك يُنشئ “ملفًا شخصيًا صوتيًا” لكل من تتفاعل معه، يتضمن تفاصيل تتجاوز بكثير المعنى الحرفي للكلمات، ليُقدم لك “نبذة” عن الشخص قبل أن تُتاح لك فرصة التعرف عليه فعليًا.
لكن هذه الآلية الدماغية، ورغم فعاليتها في معالجة المعلومات بسرعة، ليست محايدة تمامًا. فعقلنا البشري يميل إلى تبسيط المعلومات المعقدة واختصارها عبر الاعتماد على “الاختصارات الذهنية” و”الصور النمطية”. هذه الاختصارات، وإن كانت تُساعد على سرعة المعالجة واتخاذ القرارات في المواقف اليومية، إلا أنها قد تُؤدي إلى تحيزات خطيرة وأحكام مسبقة غير عادلة. على سبيل المثال، قد يُثير صوت عميق ومبادر، يحمل لهجة من منطقة معينة في سوريا، تصورات تلقائية عن “القوة” أو “الصلابة”، بينما تُرتبط لهجة مدنية معينة بتصورات عن “التحضر” أو “التعليم”. هذه التصورات، ورغم أنها قد تكون غير دقيقة إطلاقًا ولا تعكس الواقع الفعلي للمتحدث، إلا أنها تتأثر بشدة بظاهرة تُعرف بـ”تأثير الهالة الصوتية”، حيث يُسقط المستمع افتراضات إيجابية أو سلبية شاملة على المتحدث بناءً على سمة صوتية واحدة فقط، دون الاعتماد على أدلة موضوعية. وفي سوريا تداخلت هذه الآليات النفسية مع سنوات طويلة من الاستبداد والتحكم، أصبحت بعض اللهجات لا تُشير فقط إلى المنشأ، بل إلى القوة والسلطة أو الضعف والخضوع، مما عمّق من تعقيد هذه التحيزات وتأثيرها في نسيج العلاقات الاجتماعية، وشكل تحديًا حقيقيًا للعدالة والشمولية في مجتمعنا.
اللهجة في سوريا: حكاية هوية ووصمة… وظلال السلطة
أ. اللهجة كمرآة للهوية السورية: حكايات لا تُنسى… وتصنيفات قسرية
في سوريا، تُعد اللهجة بمثابة بطاقة هوية صوتية فريدة، لا يمكن تزويرها بسهولة. إنها ليست مجرد طريقة للنطق، بل هي خريطة صوتية تُشير بوضوح إلى المنطقة الجغرافية التي ينحدر منها الشخص، طبقته الاجتماعية، أو حتى انتمائه العائلي. فمن لهجة دمشق العريقة التي تحمل رقة الياسمين، إلى حلب الأصيلة التي تُردد صدى أسواقها القديمة، مرورًا بحمص التي تُعرف بلهجتها المميزة، وحماة ونواعيرها، وإدلب وزيتونها، والساحل الذي يلامس البحر، والجنوب (حوران) الذي يحمل عبق الأرض، والشرق (دير الزور، الرقة) الذي يُجسد امتداد الصحراء والنهر، وصولاً إلى لهجات المناطق الكردية والآشورية والسريانية التي تُضيف ألوانًا أخرى للوحة السورية الغنية. تُعتبر اللهجة لغة القلب والذاكرة الجماعية، وهي جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي السوري الغني، تحمل في طياتها تاريخًا وحكايات أجيال، وأفراحًا وأتراحًا. إنها صوت الأرض والإنسان، وتُشكل رابطًا متناغماً بين الفرد ومجتمعه الصغير، تُحدد انتماءه، وتُعزز شعوره بالهوية.
لكن هذه الهوية الصوتية الراسخة، التي يجب أن تكون مصدر فخر وتنوع يُثري النسيج الاجتماعي السوري، قد تحولت في أحيان كثيرة إلى مصدر للتحيز والوصمة الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، قد ترتبط لهجة منطقة معينة بتصورات نمطية عن “الريفية” أو “قلة التعليم”، بينما تُحمل لهجة العاصمة دمشق، أو بعض المدن الكبرى، دلالات “التحضر” و”الفرص الأكبر”. هذه الصور النمطية، المتجذرة في الوعي الجمعي السوري، ليست بريئة؛ بل تُغذي أحكامًا مسبقة تُؤثر بشكل مباشر على التفاعلات اليومية بين الأفراد، وقد تُحدد مسارات حياتهم المهنية والاجتماعية.
ب. التنميط المناطقي: قصص من الواقع السوري المُعاش… تحت عين السلطة:
لنأخذ مثالًا واقعيًا يُجسد هذا التنميط، خاصة في ظل الظروف التي عصفت بسوريا: شاب طموح من ريف سوري، اضطر للنزوح أو الانتقال إلى المدن الكبرى بحثًا عن عمل وفرص أفضل بعد أن دمرت مدينته أو قريته. في مقابلة وظيفية حساسة، أو حتى في محاولة استئجار منزل، يُلاحظ أن لهجته المختلفة تُثير استغرابًا، أو حتى سخرية خفية، أو ربما انطباعًا بعدم “الملاءمة” من القائمين على المقابلة أو أصحاب العقارات. على الرغم من مؤهلاته العالية، خبرته القيمة، ومهاراته المتميزة، قد يُحرم هذا الشاب من الوظيفة أو السكن لأن لهجته تُرتبط في أذهان البعض بصورة نمطية سلبية أو غير مألوفة لهم، أو لأنها لا تتناسب مع “الصورة النمطية” للموظف أو المستأجر المرغوب. هذا التنميط المناطقي لا يقتصر على النازحين أو المهاجرين داخل سوريا فحسب، بل يتجلى بوضوح حتى داخل المحافظة الواحدة، بين الريف والمدينة. هذه الظاهرة تبرز كيف تُصبح اللهجة أداة غير مرئية للفرز الاجتماعي، تُحدد من يُقبل ومن يُرفض، وتُشكل حواجز خفية بين أبناء الوطن الواحد، تُجذر الجراح وتُعيق التئامها.
ج. فوقية الصوت واللكنة الساحلية: رمز السلطة والتماهي القسري:
في سياق الحكم الاستبدادي في سوريا، اكتسبت ظاهرة التحيزات الصوتية بعداً خطيراً ومُمنهجاً. لم تعد اللهجات مجرد علامات جغرافية أو اجتماعية، بل أصبحت مؤشراً على القرب من مراكز القوة أو البعد عنها. لقد اختزلت اللكنة الساحلية لطائفة، في المخيال الجمعي السوري، لتصبح رمزاً للحكم، التسلط، والقوة. هذا الاختزال لم يكن عفوياً، بل تغذى على عقود من الهيمنة السياسية والعسكرية والأمنية التي ارتبطت بشكل مباشر وعن قصد أو غير قصد بهذه الفئة. أصبحت هذه اللكنة، في أذهان الكثيرين، مرادفة للسلطة المطلقة، للنفوذ الذي لا يُساءل، وللقوة التي لا تُقهر.
هذه الفوقية الصوتية خلقت ضغطاً نفسياً واجتماعياً هائلاً. في بيئة يسودها الخوف والبحث عن الأمان والفرص، لاحظ الكثيرون أن التماهي مع هذه اللكنة، أو حتى تقليدها، قد يُشكل طريقاً للنجاة أو للارتقاء. لم يكن الأمر مجرد محاولة للتكيف، بل كان أحياناً “قناعاً صوتياً” يُرتدى لضمان القبول، أو للحصول على وظيفة قيادية في المؤسسات العسكرية والأمنية، أو حتى لمجرد تجنب الشبهات والمضايقات. تخيّل الضغط النفسي الذي يواجهه شخص يضطر لتغيير لهجته الأم، التي هي جزء من روحه وهويته، ليُقلد لهجة أخرى لا تنتمي إليه، فقط ليُصبح “مقبولاً” أو “موثوقاً به” في نظر النظام. هذا التقليد القسري، أو التماهي الصوتي، لم يكن مجرد ظاهرة لغوية، بل كان تعبيراً عن حالة من القمع النفسي والاجتماعي، حيث تُجبر الهويات على التلاشي تحت وطأة الخوف والسلطة. لقد أدت هذه الظاهرة إلى تشويه العلاقة الطبيعية بين الأفراد ولهجاتهم، وزرعت بذور الشك وعدم الثقة بين مكونات المجتمع السوري.
الثمن النفسي والاجتماعي: كيف تدفع سوريا الفاتورة؟
إن الآثار المترتبة على هذه التحيزات الإدراكية، وخاصة تلك التي تداخلت مع بنية السلطة، تتجاوز بكثير مجرد الانطباعات الأولية أو الأحكام السريعة؛ إنها تُفرض ثمنًا نفسيًا واجتماعيًا باهظًا على الأفراد والمجتمعات على حد سواء، وتُعيق مسيرة التعافي والتنمية الشاملة في سوريا التي أنهكتها سنوات المعاناة:
- وصمة الصوت: تأثير مدمر على الذات وفقدان الأصالة: عندما تُصبح اللهجة، التي هي جزء أساسي من هوية الفرد وتراثه الثقافي، مصدرًا للتنميط، السخرية، أو حتى الرفض، يُعاني الأفراد من “وصمة اجتماعية” مدمرة تُلحق أضرارًا بالغة بـ”تقدير الذات” وتقلل من ثقتهم بأنفسهم. تخيّل طالبًا جامعيًا أتى من أقصى الريف إلى دمشق، فيجد نفسه يُقلّد اللهجة الشامية بوعي أو لا وعي لتجنب السخرية، التعليقات الجارحة، أو حتى النظرات الدونية من زملائه. هذا الضغط النفسي المستمر، الناتج عن محاولة التكيف أو إخفاء الهوية الصوتية، قد يُؤدي إلى تطور مشاعر القلق المزمن، العزلة الاجتماعية، أو حتى الاكتئاب، خاصة إذا شعر بأن هويته الصوتية مرفوضة أو غير مقبولة اجتماعياً، أما الأصعب فهو حال من اضطروا لتقليد “لكنة السلطة”؛ فقد عاشوا صراعاً داخلياً بين هويتهم الأصلية والقناع الصوتي الذي يرتدونه، مما أفقدهم جزءاً من أصالتهم وشعورهم بالاتساق الداخلي. المهاجرون داخليًا، وأعدادهم هائلة في سوريا، يواجهون ضغوطًا نفسية مماثلة عند محاولة تكييف لهجاتهم أو إخفائها لتجنب التمييز، مما يُشكل عبئًا نفسيًا إضافيًا على كاهلهم يُعيق تكيفهم واندماجهم في بيئاتهم الجديدة، ويُبقي جراح النزوح مفتوحة.
- الحرمان من الفرص: إهدار للطاقات البشرية وتكريس للظلم : تُعتبر اللهجات التي تُصنف “غير مرغوبة” أو “أقل شأنًا” حاجزًا خفيًا ولكنه فعال يُحرم أصحابها من فرص عادلة في الحياة. تُظهر العديد من القصص الواقعية أن الأفراد ذوي اللهجات الإقليمية أو اللكنات المختلفة قد يُواجهون تحيزات صارخة في مقابلات العمل، أو عند محاولة الحصول على المساعدات، أو حتى في الوصول إلى الخدمات الأساسية. يُنظر إلى لهجتهم في بعض الأحيان كمؤشر خاطئ لقلة الكفاءة أو عدم الاحترافية، بغض النظر عن مؤهلاتهم الفعلية ومهاراتهم. لقد تفاقم هذا الحرمان في ظل النظام الاستبدادي، حيث كانت اللهجة، وخاصة “لكنة السلطة”، بمثابة جواز مرور خفي لبعض الفرص، بينما كانت اللهجات الأخرى تُغلق الأبواب وتُعزز من إقصاء أصحابها من مواقع التأثير والقرار. هذا الحرمان لا يُؤثر فقط على الأفراد المحرومين، بل يُفقد المجتمع ككل كفاءات قيمة وطاقات كامنة كان يمكن أن تُساهم بفعالية في إعادة الإعمار والتنمية والابتكار. هذا يُعيق بشكل مباشر التنمية البشرية المستدامة ويُبطئ من عجلة التقدم في المجتمعات، مما يُؤدي إلى إهدار للموارد البشرية الثمينة في وقت أحوج ما تكون فيه سوريا لكل طاقاتها، كل عقل، وكل يد عاملة.
- الانقسام الاجتماعي وتقويض التماسك: جدران صوتية بين السوريين : يُعد التنميط المناطقي والعنصري القائم على الصوت واللهجة قوة هدامة تُضعف نسيج التماسك الاجتماعي وتُهدد وحدته، خاصة في مجتمع سوري يعاني أصلاً من انقسامات وتحديات عديدة. فبدلاً من بناء مواطنة مشتركة تُقدر التنوع وتُعلي من شأن الكفاءة والجدارة، تُصبح اللهجة خطًا فاصلًا يُعزز الانقسامات والتكتلات بين المناطق الجغرافية أو المجموعات العرقية داخل الدولة الواحدة. لقد استغل النظام هذه الانقسامات اللهجية لتعزيز سياسات “فرق تسد”، مما أدى إلى تعميق الشروخ الاجتماعية وتغذية عدم الثقة المتبادلة بين أبناء الوطن الواحد. هذه الانقسامات قد تتجلى في شكل توترات خفية، أو عدم ثقة متبادلة، أو حتى صراعات اجتماعية، مما يُعيق جهود المصالحة والتعافي ويُبقي على بذور الشقاق. في سياق سوري يتميز بثرائه وتنوعه الثقافي الهائل، يُعد هذا التحدي عقبة كأداء أمام تحقيق مجتمعات شاملة، متجانسة، ومزدهرة تُقدر كل أفرادها بغض النظر عن لهجاتهم أو منشئهم، وتُدرك أن القوة الحقيقية تكمن في الوحدة والتنوع.
كسر دائرة التحيز: حلول ملهمة نحو سوريا أكثر مواطنة
على الرغم من أن آلية التمثيل الذهني السمعي تُعد تلقائية ومتأصلة في الدماغ البشري، إلا أن الوعي الناضج بالتحيزات الإدراكية المرتبطة بها يُمكن أن يُسهم بشكل كبير في التخفيف من آثارها السلبية، خاصة في سياق مجتمعنا السوري الذي يمر بمرحلة حرجة. يتطلب ذلك مقاربة متعددة الأوجه، تجمع بين التوعية، التعليم، والمبادرات المجتمعية الفعالة، لتُشكل درعًا واقيًا ضد التنميط:
- رواية القصص الملهمة والتجارب الحية: يجب إطلاق حملات إعلامية ومجتمعية قوية ومؤثرة تروي قصصًا حقيقية وملهمة لأفراد تغلبوا على التنميط الصوتي أو اللهجي في سوريا. على سبيل المثال، يمكن إنتاج فيديوهات قصيرة، أفلام وثائقية، أو سلسلة بودكاست تُبرز قصة شاب ينجح في مشروع بدمشق رغم تحديات لهجته، أو قصة فنان من الساحل يُقدم أعمالًا عظيمة بلهجته المحلية، أو طبيب من حوران يُقدم خدماته الإنسانية في كل مكان دون تمييز. كما يجب تسليط الضوء على قصص أولئك الذين رفضوا التماهي مع “لكنة السلطة” وتمسكوا بأصالتهم، ليُصبحوا رموزاً للصمود والهوية الحقيقية. هذه القصص تُعزز التعاطف، تُقدم نماذج إيجابية للتحدي والنجاح، وتُظهر أن الكفاءة والإبداع لا يُقاسان باللهجة، بل بالإرادة والموهبة والعطاء.
- الاحتفاء بالتنوع اللغوي كقوة ثقافية: بدلًا من نبذ اللهجات المختلفة أو النظر إليها بدونية، يجب التركيز على الاحتفاء بها كجزء أصيل ولا يتجزأ من التراث الثقافي السوري الغني. يمكن تنظيم مهرجانات ثقافية محلية، مثل “مهرجان اللهجات السورية” أو “يوم التنوع اللغوي”، حيث يُقدم المتحدثون قصصهم، شعرهم، وفنونهم بلغاتهم ولهجاتهم الأصلية. هذه الفعاليات تُعزز الفخر بالهوية الصوتية، وتُبني جسور الفهم والتقدير المتبادل بين أفراد المجتمع، وتُظهر أن التنوع اللغوي يُعد مصدرًا للثراء لا للانقسام، وأن كل لهجة تُضيف لونًا فريدًا للوحة السورية البديعة. يجب أن تكون هذه الاحتفالات فرصة لتفكيك فكرة “اللهجة الأفضل” أو “اللهجة الأقوى” التي رسخها الاستبداد.
- التعليم النقدي الواعي والتدريب على التمييز: يجب إدراج وحدات دراسية متخصصة في المناهج التعليمية السورية، من المراحل المبكرة وحتى الجامعية، تُعلم الطلاب كيفية التعرف على التحيزات الإدراكية وآلياتها، وتُدربهم على كيفية تجنبها. يمكن تصميم ورش عمل تفاعلية تُساعد الأفراد على تحدي افتراضاتهم المسبقة، وتُعلمهم التمييز بين الخصائص الصوتية المحايدة والقيم الاجتماعية السلبية التي قد تُلتصق بها، وتُشجعهم على الاستماع بوعي وانفتاح. يجب أن يُركز هذا التعليم بشكل خاص على كيفية تداخل السلطة السياسية مع تشكيل هذه التحيزات، وكيف تُستخدم اللهجة كأداة للسيطرة أو التمييز. يجب أن يُركز التعليم على أن الكفاءة والذكاء لا يرتبطان بأي لهجة أو لكنة معينة، وأن احترام الآخر يبدأ باحترام صوته، وأن التنوع هو أساس القوة.
- المبادرات المجتمعية والمدنية: على المستوى الشعبي، يمكن للمنظمات المدنية والمبادرات الشبابية أن تلعب دورًا محوريًا في تعزيز الوعي ومواجهة التمييز اللهجي. يمكن إطلاق حملات توعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تنظيم جلسات حوار مجتمعية مفتوحة تُشجع على التفاعل بين أصحاب اللهجات المختلفة، وإنشاء منصات تُتيح للأفراد مشاركة تجاربهم مع التمييز الصوتي، مما يُسهم في بناء مجتمع أكثر تفهمًا وتعاطفًا، ويُعزز من قدرة السوريين على تجاوز خلافاتهم والعمل معًا. يجب أن تُركز هذه المبادرات على فضح آليات التمييز الصوتي التي رسخها النظام، وبناء جسور الثقة المفقودة بين مكونات المجتمع.
- تعزيز البحث والمناقشة: تشجيع ودعم الأبحاث النفسية والاجتماعية المتخصصة في مجال التحيزات الصوتية واللهجوية في السياق السوري يُعد أمرًا حيويًا. هذا يُساهم في فهم أعمق للظاهرة، تحديد أبعادها الدقيقة، وتقديم حلول مبنية على الأدلة، مما يُمكن صانعي القرار والفاعلين في المجتمع المدني من اتخاذ خطوات أكثر فعالية نحو مجتمع سوري أكثر عدلاً، يتسع للجميع، ويُقدر كل صوت فيه. يجب أن تُشجع الأبحاث على تحليل العلاقة بين اللهجة والسلطة، وتأثيرها على الهوية الفردية والجماعية في سوريا ما بعد الاستبداد.
صوتك هويتك، دع صداه يتردد بوعي
نعايش واقعاً يتردد فيه صدى أصواتنا في كل زاوية، تُذكرنا التحيزات الإدراكية المرتبطة بالصوت واللهجة بأن الصوت ليس مجرد أداة للتواصل، بل هو مرآة تعكس هويتنا، وتراثنا، وتحدياتنا الاجتماعية. فمن خلال الفهم الواعي لآلية “التمثيل الذهني السمعي” وكيف تُسهم في بناء تصوراتنا الأولية عن الآخرين، نُصبح أكثر قدرة على تحدي الأحكام المسبقة وكسر حلقة التنميط المناطقي والعنصري التي تُعيق تقدم مجتمعاتنا السورية. إن إدراكنا لتأثير الاستبداد في تكريس فوقية صوتية معينة، وكيف أُجبر البعض على التماهي معها، هو خطوة أولى نحو استعادة الأصالة والعدالة اللغوية.
إن الوعي بهذه الظاهرة ليس مجرد ترف فكري؛ بل هو ضرورة مجتمعية ملحة لبناء أجيال واعية ومجتمعات سورية أكثر عدلاً وشمولًا ومواطنة، خاصة في هذه المرحلة التي تحتاج فيها سوريا إلى كل أشكال الوحدة والتكاتف، وإلى كل يد تُبنى، وكل قلب يُسامح. إنه دعوة مفتوحة لنا جميعًا لدعم الصحة النفسية للأفراد الذين قد يُعانون من التمييز بسبب خصائص أصواتهم أو لهجاتهم، ولنُعزز لديهم الشعور بالقبول والانتماء، بأن صوتهم مسموع، وهويتهم محترمة. من خلال العمل الجماعي، ونشر الوعي المستمر، وتطوير مبادرات وسياسات شاملة تُقدر التنوع وتحتفي به، يُمكننا معًا بناء سوريا تُحتفي بكل نبرة صوت، وتُقدر كل لهجة كجزء أصيل من ثقافتها الغنية والمتفردة. دعونا نستمع إلى الأصوات بعقل وقلب منفتحين، ونُدرك أن الصوت ليس مجرد كلمات عابرة، بل هو قصة إنسان، قصة تستحق أن تُروى وتُسمع بإنصاف، احترام، وتقدير، لتُصبح جزءًا من حكاية سوريا الجديدة، حكاية الوحدة والتعافي.
___________________________
* مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي