عن إدلب وتجربتها: حين يحاول الفشل أن يُحاضر على النجاح
من يعيش في بيئة الموت، ويُصر على الحياة، لا يُلام حين يحتفي بها

بلال الخلف – العربي القديم
في خضم ما تمر به سوريا من تمزقات وتشظيات، يخرج علينا من وقت لآخر من نصّب نفسه وصيًّا على الثورة، ليُخبرنا أن تجربة إدلب ليست إلا وهمًا مصطنعًا ومشروعًا تجميليًّا لنظام فاشل فوق أرض خاوية. وآخر هؤلاء، حازم داكل، الذي قرر، في منشور فيسبوكي مطوّل، أن يشنّ هجومًا غوغائيًّا على تجربة إدلب، التي “صرعوه فيها”، متكئًا على نصف مشهد، ونصف معلومة، وربما نصف فهم.

فيا حازم، قبل أن تُنصّب نفسك خبيرًا اقتصاديًا بنزعة ثورية، دعنا نضع النقاط على الحروف:
إدلب لم تكن تجربة حكم فحسب، بل كانت مقاومة اقتصادية في قلب الحصار.
كانت معركة يومية ضد الموت والانهيار، أُنجزت فيها مشاريع خدمية وتنموية لم تنجح دول مستقرة في تحقيقها تحت ظروف طبيعية.
هل لديك أدنى فكرة ما معنى أن تنشئ دورة إنتاج، وتوفر الكهرباء، وتنظّم المياه، وتبني المرافق، وتؤمّن آلاف فرص العمل، في بقعة تخنقها السماء وتحاصرها الأرض؟
ولكن يبدو أن مشكلتك ليست في التجربة، بل في أنها نجحت دون إذنك.
تُزعجك صور المولات والمطاعم، لأنها لا تُرضي سرديتك الثورية التي لا ترى في الثورة سوى خيامًا وترابًا ودمًا.
تُزعجك الكورنيشات لأنها تُثبت أن الحياة يمكن أن تُبنى دون إذن من مثقفي الفيسبوك ومُحللي تويتر.
تقول إن إدلب منقسمة إلى “دولة فوق الأرض وخيام تحتها”، وكأنك تكتشف شيئًا صادِمًا.
نعم، هناك مخيمات، نعم هناك فقر، نعم هناك معاناة، ولكن من قال إن إدلب ادّعت الكمال؟
الفرق أن إدلب لم تستسلم، لم تتاجر بمآسيها، لم تحول أهلها إلى أدوات للابتزاز العاطفي، بل حاولت — بكل ما تستطيع — أن تُحدث فارقًا.
والأدهى من ذلك أنك تستنكر وجود طبقة اقتصادية مستفيدة… وكأنك تحلم بدولة بلا فوارق طبقية، في زمن الحرب!
أي جهل هذا؟ هل ظننت أن الاقتصاد في مناطق النزاع ينهض وفق اشتراكية أفلاطونية؟
وهل تظن أن تجربة إدلب تتحمل وحدها مسؤولية ما عجزت عنه حكومات ومؤسسات دولية بأكملها؟
أنت تطالبها بأن تكون مثالية بينما العالم كله تخلى عنها.
أما هجاؤك الساخر للبوظة والإنترنت والمهرجانات، فهو لا يكشف إلا ضيق أفقك…لأن من يعيش في بيئة الموت، ويُصر على الحياة، لا يُلام حين يحتفي بها، أما من يكتب من خلف شاشة، وينظّر من برجٍ عاجي، فعليه أن يخجل لا أن يُحاضر.
وتأتي الطامّة حين تتحدث عن تعميم النموذج الإدلبـي كخطر داهم، بينما الحقيقة أن لا أحد — لا حكومة، ولا سلطة، ولا إدارة — قال يومًا إن تجربة إدلب ستُنسخ وتُعمم.
ولكن، نعم، هناك من يرى فيها نموذجًا ناجحًا للصمود المحلي، وفي هذا ما يبرر قلقك: لأن التجربة كشفت زيف كثير من الثوار المتقاعدين، الذين لا يجيدون سوى التذمر والشتم والتشكيك.
ختامًا أيها السيد حازم:
إدلب ليست جنة، ولا هي بلا أخطاء. لكنها أنجزت في الحرب ما عجزت عنه حكومات في السلم.
أما أنت، فلم تقدّم سوى منشورات مغسولة بروح انهزامية، تتغذى على جلد الذات وتشويه أي محاولة للبناء.
فلا تتحدث عن الطين يا حمزة…
الطين ليس في الخيام.
الطين الحقيقي في الكلمات التي كتبتها.