آخر البنّائين في معبد الخراب: سأخون سايكس… وأبصق على بيكو
مؤسسات إعلامية ومراكز أبحاث، لم تكتفِ بالتنظير لفكر ما بعد القومية، بل ساهمت في تحويل الهوية إلى قضية إشكالية، والمفاهيم الوطنية إلى أضغاث أحلام.

نوار الماغوط- العربي القديم
منذ أن دحرجت الخريطة الاستعمارية إصبعها على رقابنا كسبابة شرطي في فم متسوّل، ونحن نرتجف من خطوط الطباشير على الرمل.
منذ أن وقّع سايكس على البياض، ومسح بيكو على الأسود، ونحن نعيش في طوابع بريدية لا دول، في مظاريف تائهة، في صناديق بريد بلا مفاتيح.
كنا مماليك، فصرنا مقاطعات.
كنا صحراء واحدة، فصرنا سرابًا موزعًا في تقارير استخباراتية.
خريطة بعد خريطة، ووعد بعد وعد، وصفعة بعد صفعة، حتى صارت فلسطين مجرد شبح يطل من بين أحذية المتفاوضين.
يا للخريطة… كم من الدم يجب أن يُراق كي تبتسم خطوطها؟
سايكس وبيكو جلسا في مقهى أوروبي أنيق، تقاسما بلاد الشام كما يتقاسم السكارى ليلتهم. الهائجة
رسم أحدهما الهلال الخصيب، وقسّمه كما تُقسم قطعة حلوى بين طفلين مدللين.
لم يكن العراق سوى صحنٍ يُقدم، وسوريا ملعقة تُغرف بها، وفلسطين مجرد وقفٍ نُسيه الزمن وترَكوه مهجورًا على الطاولة.
ثم بدأ بلفور بكتابة أصل الحكاية بحبر بريطاني على جلد فلسطيني. ومن وقتها ونحن نركض في حقول اللجوء ونلتهم الجرائد بدلاً من الخبز.
وبعدها خرجت إسرائيل من رحم المحرقة النازية، ورضعت من صدر الأمم المتحدة. تأسست الدولة بينما كانت قوافل الفلسطينيين تمشي في الاتجاه المعاكس، نحو المنافي والشتات.
قالوا إن العرب يجب أن يُقسموا شيعة وسنّة، دروزًا ونصارى، مسلمين بالهوية ومسيحيين بالذمة. وقالوا إن الدولة يجب أن تُمسَخ، وتصير طوائف بكل الالوان
وجاء نتنياهو الرجل الذي لم يكن يوما بطلا بل حفارُ قبور لم يبتكر شيئًا، فقط مسح الغبار عن مخطط قديم وسمّاه باسمه.. جاء ليزرع ما تمّ حرثه قبل قرن.
سوريا… كانت دولة، فصارت دويلات، قرر النظام على الجميع أن يُقاتلوا لا لأجل الوطن،
بل من أجل مشروع خريطة شرق أوسط جديد تُرسم على دماء شعبها
الأمريكان في الشرق، الروس في الغرب، الإيرانيون في الجنوب، والأتراك شمالًا… والكل يبحث عن “مصالحه” بلغة الحل سياسي.
وكان النظام يدير عملية التقسيم و الخراب
كردي هنا، درزي هناك، علوي في الجبل، سني متطرف في الوسط وسني معتدل في دمشق… والموت يلاحق الجميع بعدالة أو بدونها.
الإخوان، القاعدة، داعش، حزب ا لله، جيش الأسد، الجيش الحر، جيش الإسلام، هيئة تحرير الشام… الجميع دخلوا المسرح لكن الدور الرئيسي لعبته السلطات الاستبدادية في دمشق في خدمة مشروع تفكيك الشرق الأوسط، عبر تسهيل تنفيذ خطة نتنياهو لتقسيم المُقسَّم
السلطة السورية منذ عقود، وخاصة تحت حكم الأسد الأب ثم الابن، لم تكتفِ بمنع العمل السياسي الحر، بل جرّمت الوعي نفسه: اعتقلت المفكرين والمعارضين حتى من داخل نفس الطيف الأيديولوجي. جعلت أي حديث عن “الوحدة” أو “الحرية” أو “الاشتراكية” شعارًا أجوف يُستخدم في الإعلام ، بينما تُنسّق أمنيًا مع أعداء الداخل والخارج.
تم تفريغ الحياة الحزبية والنقابية، مما عطّل أي مقاومة مدنية لفكرة التقسيم.
النتيجة شعب منزوع الأنياب، ومجتمع سياسي ممسوخ ، قابل للاختراق الخارجي بسهولة.
السلطة في دمشق تبنّت خيارًا أمنيًا لتسويق نفسها كضامن للاستقرار ومنع الحرب الطائفية، بينما كانت تبني نظامًا طائفيًا فعليًا:
خلقت توازنًا وهميًا داخل الدولة قائمًا على الولاءات الطائفية لا على الكفاءة أو الانتماء الوطني.
في اللحظة التي بدأت فيها الثورة ، أطلقت الخطاب الطائفي بأقصى قوّته لتفكيك أي مشروع وطني جامع.
سُمح لفصائل متطرفة بالتمدد داخل الساحة، كي يظهر النظام كـ”الخيار الأقل سوءًا”.
النتيجة: سوريا أصبحت مسرحًا لتجريب سيناريوهات التقسيم الطائفي والاثني والثقافي والمجتمعي قبل التقسيم الجغرافي.
وبدلًا من الحفاظ على سيادة الدولة، فتحت السلطة الأبواب لتدخل قوى متعددة:
سمحت لإيران بمدّ نفوذها عبر الميليشيات، مما دفع القوى السنية نحو الاصطفاف الطائفي.
نسّقت ضمنيًا مع الأكراد في لحظات معيّنة، ثم تخلّت عنهم في لحظات أخرى ، ضمن لعبة تفكيك بلا نهاية.
روسيا وأميركا تقاسمتا النفوذ في سوريا، بترتيب مريب لا يشبه العداء، لكنه توزيع أدوار.
وكانت النتيجة أن السلطة ساهمت في تحويل سوريا إلى خارطة نفوذ لا دولة واحدة ، مما يخدم مشروع نتنياهو.
منذ الأيام الأولى للثورة السورية، لم تعمل السلطة على الحوار أو الإصلاح، بل على الشيطنة الكاملة:
– صوّرت كل مطالب بالتغيير كعميل أو متطرف أو إرهابي.
– ضربت الهوية الوطنية الجامعة عبر اتهام الكرد بالانفصال، والسنة بالإرهاب، والعلويين بالتبعية… إلخ.
– أدخلت إسرائيل من الباب الخلفي حين أطلقت النار على الثورة، بينما حافظت على هدوء جبهة الجولان.
تم اغتيال أي سردية وطنية حقيقية، وتهيئة المسرح لسيناريو “سوريا ككيانات”، تمامًا كما تنبّأت به وثيقة ينون.
و عندما بدأت فصائل المعارضة تنشأ عمل النظام مباشرة أو عبر أجهزة استخبارات متعددة على تفكيك المعارضة من الداخل.
– سُرّبت معلومات أو دعمت شخصيات متطرفة لتشويه البديل السياسي.
– قُطعت كل صلة ممكنة بين الداخل والخارج، كي لا تولد مقاومة وطنية جامعة.
السلطة السورية السابقة ليست ضحية في مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، بل شريك غير معلن في خلق الفوضى المنظمة:
– ساهمت بفعالية في تدمير فكرة الدولة الوطنية الجامعة.
– استبدلت الوطنية بـ”الأمن”، والسيادة بـ”الولاء للنظام”.
– مكّنت القوى الأجنبية من إعادة رسم الخريطة عبر حرب استنزاف داخلية استمرت لأكثر من عقد. لقد زرعت بذور “خريطة نتنياهو” حين مزّقت المجتمع باسم الوطن،
وسط هذا الواقع، ظهرت مطالبات في بعض المناطق بالانفصال والاستقلال عن الدولة المركزية. يسعى الأكراد لحكم ذاتي، وتصنع فصائل الشمال الغربي كيانات محلية، وحتى في الجنوب، وبالأخص في السويداء، بدأت تظهر دعوات لإدارة محلية مستقلة بعيدًا عن دمشق. وأصبحت الحدود الداخلية في سوريا خطوط سايكس-بيكو مصغرة تعكس الانقسامات العميقة والهويات المشتتة.
أما المشروع الوطني الجامع، فقد تم اغتياله بدم بارد.
لعبت السلطة دورًا محوريًا في هذا الاغتيال، عبر تسويق نفسها كحامية للأقليات، بينما كانت تُفخّخ المجتمع من الداخل، وتحتكر مفهوم الوطن لصالح رأس النظام فقط.
بالتوازي، جرى العمل بصمت على تفكيك العقل الجمعي العربي.
لم يكن التفكيك ناتجًا عن التراكم الطبيعي، بل عملية هندسة ثقافية منهجية.
شخصيات، ومؤسسات إعلامية ومراكز أبحاث مرتبطة به، لم تكتفِ بالتنظير لفكر ما بعد القومية، بل ساهمت في تحويل الهوية إلى قضية إشكالية، والمفاهيم الوطنية إلى أضغاث أحلام
المصطلحات الجديدة لم تأتِ لتحرر العقل، بل لتغرقه في جدالات عقيمة حول الجندر، والحقيقة، وما بعد الحداثة، وجعلت من الخطاب السياسي ساحةً للتهكم لا للمواجهة.
وتم تمييع التعليم، وتفريغ اللغة من صلابتها، حتى صرنا أمام نخب هجينة، تتحدث بلسان عربي، لكنها تفكر بعقل استشراقي.
أما الإعلام، فقد أصبح أداة لتسفيه القضايا الكبرى.
يتم اختزال النكبات في “ترندات”، وتقديمها في قوالب ساخرة، حتى صارت المأساة مادة ترفيه، وتحولت الوطنية إلى نكتة.
لم يعد العدو على الحدود، بل في كل مكان اخر في شاشة الهاتف، في مناهج التعليم، في اللغة المكسّرة التي نتحدث بها، وفي الضحكة المترددة التي نضحكها حين نسمع نكتة عن الوطن. وسط هذا التفكك، أعاد نتنياهو إحياء مشروعه القديم، خريطة قديمة بوجه جديد، لكنه لم يخترع شيئًا، بل جاء فقط ليرقص حول النار التي أُشعلت منذ قرن.
خطته ليست إلا صفحة جديدة من كتاب بدأ بسايكس-بيكو، مرّ ببلفور، وتم اختباره في العراق وسوريا وليبيا والسودان.
سوريا اليوم لم تعد دولة، بل بقايا دولة، أطلال ذاكرة.
العراق تحوّل إلى ساحة طائفية.
ليبيا تتخبط بين أمراء الحرب.
السودان غارق في دم الانقسام.
ومصر صامتة كتمثال حجري يتآكل بفعل الريح؟
أما الخليج، فقد غرق في مشروعه الاستثماري، وبات النفط والمال بوصلته الوحيدة.
وفلسطين لم تعد مركزًا، بل متحفًا لذاكرة تتآكل ببطء.
لم يُهزم العرب لأنهم خسروا المعارك، بل لأنهم آمنوا بالهزيمة كقدر لا مفر منه.
مشروع “الشرق الأوسط الجديد” لا يُنفَّذ بالجيوش فقط، بل بالعقول أولًا ، وبالهويات ثانيًا.
المعركة الحقيقية إذًا ليست على الحدود، بل في الوعي.
المقاومة لا تبدأ بالبندقية، بل بإعادة ترتيب الذاكرة، باستعادة المفاهيم، ببعث الأمل في معنى الوطن.
أما أنا، فلست محايداً… سأخون سايكس، وأبصق على بيكو، وأتمرد على كل الخرائط التي ترسمني في غير مكاني. سأعتب على وطن بلا أسنان ولا لسان ولا ذاكرة، وطن اكتفى أن يشاهد خريطته تُذبح كل يوم على شاشة تلفاز، ثم يغيّر القناة.