العربي الآن

وقائع الأشهر الستة: فريد ياغي بين الحقائق المنقوصة والتحليلات المضلِّلة

سردٍ انتقائي مشحون بالتحامل السياسي، يختزل الواقع السوري المعقّد في ثنائية مخادعة

بلال الخلف – العربي القديم

من يقرأ مقالة السيد فريد ياغي على صفحته الشخصية على (فيسبوك) والتي عنونها: “بوست طويل شوي”، حول ما جرى في سوريا في الأشهر الستة الأخيرة، يخال أنّه أمام تحليل موضوعي هادئ، بينما في الحقيقة يجد نفسه أمام سردٍ انتقائي مشحون بالتحامل السياسي، يختزل الواقع السوري المعقّد في ثنائية مخادعة: نظام مستبدٌّ في طريقه للسقوط، ومعارضة بدأت بتبييض صفحتها، وبينهما أقليات مذهولة تقف على هامش المصير. ولكنَّ الحقيقة، كما هي دائمًا، أعقد من أن تُختزل بشعارات أو تبريرات جاهزة.

أولاً: تعميم الرفض الشعبي للجولاني

ادّعى الكاتب أن الناس في إدلب “كانوا يتظاهرون ضد حكم الجولاني وتسلطه”، وكأن إدلب كلها خرجت تهتف ضده، متناسيًا أن من في إدلب، بكل ما فيهم من تباين، هم في نهاية المطاف جزء حيّ من جسد الثورة، وأنّ فئة واسعة من السكان، سواء رضي البعض أم لم يرضَ، انخرطت مع الهيئة وشاركت في صفوفها، وأن كثيرًا من المظاهرات كانت تطالب بالإفراج عن المعتقلين أو فتح الجبهات، لا بإسقاط الهيئة. فليس من الإنصاف تعميم حالات الرفض المحدودة على جميع سكان إدلب، ولا اختزال عشر سنوات من التجربة المعارضة بالفشل، لمجرد أن البيئة السياسية والأمنية لم تحقق أحلام الثورة كاملة.

ثانياً: وهم الاستقرار في مناطق “قسد

أما قوله إن “مناطق الأكراد بدت الأكثر استقرارًا”، فهو قول يُعجب به من لم تطأ قدمه تلك المناطق، أو لم يسمع بنداءات سكانها المستغيثين من سطوة الشبيبة الثورية والتجنيد الإجباري، وقمع المخالفين، وتهميش المكوّن العربي، الذي يشكّل الأغلبية السكانية. أية شرعية تُبنى على الكبت والوصاية الأيديولوجية والتبعية لقوة احتلال أجنبي؟ الاستقرار لا يُقاس بغياب القصف وحده، بل بحرية الإنسان، وكرامته، وتكافؤ الفرص، وكلها منعدمة هناك.

ثالثاً: التهوين من خطر الفلول وتبرئة الهجري

وفي معرض حديثه عن “الزعران”، استسخف الكاتب وجود آلاف الموالين للنظام وفلوله، وقلل من شأنهم كأنهم مجرد “٢٠٠ أو ٣٠٠ ازعر”، ناسيًا –أو متناسيًا– أن دويلة الأسد قائمة على بنية أمنية وتشبيحية ضاربة في العمق، وأن المذابح التي وقعت لم تكن بفعل جماعة صغيرة طائشة، بل بتواطؤ وتنسيق واختراق أمني واضح. كما أن محاولة تبرئة الشيخ حكمت الهجري من شبهة التنسيق أو التراخي تجاه المشروع الانفصالي، هي نوع من المواربة لا تصمد أمام تسريباته ومواقفه السياسية الداعمة لصيغ مشبوهة، أقل ما يُقال عنها إنها مناقضة لمسار الثورة ووحدة القرار.

رابعاً: التبرير الخطر لوجود السلاح الطائفي

لكنّ الأخطر في المقالة –وهو ما لا يمكن السكوت عليه– هو تبريره الصريح لحمل الأقليات للسلاح بحجّة الخوف من “الفصائل السنّيّة”. هذا المنطق الطائفي ليس إلا إعادة إنتاج لخطاب النظام حين شيطن الثورة بأنها مؤامرة أصولية. إن تصوير السنة كوحوش تنتظر الفرصة للانقضاض على الأقليات، هو تحريض مقيت وخيانة لكل القيم التي ثار السوريون لأجلها. ولو أرادت هذه الفصائل التصفية المذهبية، لفعلت منذ سنين، حين كانت تملك الأرض والسلاح. غير أنّها لم تفعل، لأنها تدرك أن سوريا لا تُبنى بالاقتلاع، بل بالشراكة.

خامساً: مصادرة فاضحة للمستقبل

ثم يتباكى الكاتب على “الدولة التي لم تحاسب” ويحمّل أحمد الشرع مسؤولية تعيين نفسه حاكمًا مطلقًا، بينما هو –في الآن نفسه– يرفض نتائج أي مؤتمر وطني يمكن أن يُعيد صياغة العقد الاجتماعي. فكيف تُبنى دولة جديدة من دون عملية سياسية؟ وكيف نأمن على مستقبلنا مع معارضة يُؤسّس بعض رموزها مشروعهم على روايات المظلومية الطائفية والتخوين المسبق؟

في الختام، نقول للسيد ياغي ومن على شاكلته: إن الثورة لا تُقاس بنتائج المعارك وحدها، ولا تُقيَّم بعيون خائفة، ولا تُستعاد بالخطابات التي تُحيي موروثات الطغيان المذهبي. من أراد خلاص سوريا، فليبدأ أولًا بتحرير عقله من لغة الثارات الجماعية، والقراءة الانتقائية، ولينظر في عين الحقيقة دون نظارات التخويف، وليعلم أن الحريّة لا تُختزل بدكتاتور علماني أو ديني، بل بمنظومة عدل تضمن الكرامة والحق للجميع، بلا استثناء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى