فنون وآداب

التصدع بين الرغبة والواقع: هل يمكننا صياغة معنى في عالم بلا ضمانات؟

يواجهنا العالم بصرامة غير قابلة للتفاوض. فهو لا يُعطي إلا "حقائق باردة"!

محمد صبّاح العربي القديم

«لا يوجد سوى مشكلة فلسفية حقيقية واحدة، هي الانتحار. أن نحكم إن كانت الحياة تستحق أن تُعاش، فذلك هو سؤال الفلسفة الأساسي» _ ألبير كامو، أسطورة سيزيف.

هكذا يضع كامو الفلسفة في موضعها الأصلي: ليست تنظيراً في المعارف ولا استعراضاً للمفاهيم، بل مواجهة جذرية مع الحياة نفسها. فما معنى أن نفكر إذا لم يكن السؤال الأول هو: «هل تستحق الحياة أن تُعاش؟». الإنسان ليس مجرد كائن بيولوجي يتنفس ويأكل وينام، بل هو كائن يطلب «المعنى». منذ أن رفع رأسه إلى السماء وبدأ يسأل: «لماذا؟»، انطلقت مغامرته الكبرى. ولكن العالم لا يجيب. يظل «صامتاً»، «محايداً»، غير معنيّ بصرخاتنا. ومن هذه المواجهة بين السؤال البشري والصمت الكوني يولد ما يسميه كامو «العبث» : ليس حقيقة موضوعية في العالم ولا وهماً في داخلنا، بل هو «الصدع» الذي يفتح نفسه بين الرغبة والحدّ، بين شغفنا بالانسجام وقسوة الواقع. ومن هنا تبدأ كل فلسفة أصيلة: من الاعتراف بالجرح الذي لا يلتئم.

التمهيد: أزمة الحداثة وانبثاق مفهوم «العبث».

لا يمكن فهم تفكير كامو في «العبث» بمعزل عن سياقه التاريخي والفكري. النصف الأول من القرن العشرين شهد انهيارات ضخمة: حربان عالميتان دمويتان، صعود أنظمة شمولية، أزمات اقتصادية خانقة، وانكسار الأوهام الكبرى التي رافقت الحداثة العقلانية. الإنسان الحديث وجد نفسه وحيداً أمام عالم لم يعد يقدّم وعوداً مطلقة بالخلاص، لا من الدين ولا من الفلسفة، ولا من العقل أو التقدم.

في هذا المناخ، صار البحث عن معنى كلي مجرد وهم. التجربة الإنسانية أصبحت مواجهة مباشرة مع «العراء» الوجودي: العيش بلا ضمانات، بلا عزاء، في كون صامت. هنا يظهر مشروع كامو: «تسمية» هذه الهوة بين رغبة الإنسان في الانسجام وصمت الكون بـ«العبث»، ليس كمأساة فردية بل كحقيقة أنطولوجية يشترك فيها الجميع. ويمكن ملاحظة صدى هذا التوجه في فلاسفة آخرين مثل نيتشه الذي تحدث عن «موت الإله» وفقدان المعايير المطلقة، أو كيركغارد الذي رصد صراع الفرد مع الوجود والقلق الوجودي، لكن كامو يذهب خطوة أبعد: يربط بين هذا الفراغ والقدرة على التمرد، ويدعو إلى مواجهة العبث بوعي كامل، بدل اللجوء إلى الوهم أو الهروب.

الإنسان: شغف لا يكتفي بالبقاء

الإنسان ليس «حيواناً ناطقاً» وحسب، بل هو كائن يطلب تبريراً لوجوده. «الأسطورة»، «الدين»، «الفن»، «الفلسفة»، «العلم»: كلها محاولات لتطويق السؤال الجذري وصياغة انسجام ما بين الذات والكون. نحن لا نريد أن نحيا فقط، بل أن نعرف «لماذا نحيا». هذا التوق يتجاوز كل ضرورة عملية، ويحوّل وجودنا إلى ساحة بحث لا ينتهي عن «المعنى». لكن، مهما تعددت الإجابات، يظل السؤال يتجدد، لأن كل «معنى كلي» ينكشف في النهاية هشاً أو نسبياً. إننا محكومون بأن نطلب ما لا يمكن إشباعه تماماً. وهذا هو الشرط الأول للعبث: «رغبة لا تنطفئ».

العالم: حياد الحقائق وصلابة الواقع

في المقابل، يواجهنا العالم بصرامة غير قابلة للتفاوض. فهو لا يُعطي إلا «حقائق باردة»: الموت كيقين مطلق، الزمن كجدار لا يمكن تجاوزه، الألم كرفيق ملازم، هشاشة الجسد كحدّ لا نتجاوزه، واللامبالاة الكونية كقدر. هذا هو ما يسميه التحليل النفسي «مبدأ الواقع»: أن تصطدم رغباتنا بما لا يقبل التغيير. ليست القضية أن العالم «عدو» لنا، بل أنه غير معني بنا أصلاً. الكون ليس «خصماً»، بل هو «صامت»، واللامبالاة هي أفظع ما يمكن أن يواجه الكائن الباحث عن الاعتراف. من هنا نفهم قسوة الموقف: لسنا ضحايا لـ«ظلم»، بل لشروط «لا شخصية»، لا تعترف حتى بكوننا موجودين.

«العبث»: الصدع الذي لا يُردم

حين تلتقي الرغبة الجامحة بالواقع الصارم، يولد «العبث». إنه ليس خاصية نفسية ولا قانوناً كونياً، بل «علاقة»، أو بالأحرى «فجوة» مفتوحة بين مطلبنا في «الانسجام» وصمت الكون. يقول كامو: «إذا كنت أرغب في الالتزام بالحقائق… يمكنني أن أقول إنني أعرف الصلة بين هذا وذاك». هذه الصلة ليست الانسجام بل «التباين»، ليست اللقاء بل «التباعد». وهكذا يصبح العبث هو الصياغة الفلسفية لجوهر وجودنا: أننا نطالب بما لا يمكن أن يُعطى. إنه اسم آخر لـ«الشرخ الأنطولوجي» بين الذات والعالم.

ما بعد التشخيص: من «أوهام العزاء» إلى صلابة المواجهة

لكن، ما العمل بعد أن نسمّي هذا «الجرح»؟ هنا ينفتح الموقف الفلسفي على ثلاثة خيارات كبرى:

«الانتحار الجسدي»: الهروب من مواجهة الحياة، وهو عند كامو إلغاء للسؤال لا جواباً عنه.

«الانتحار الفلسفي»: أي الالتجاء إلى «ميتافيزيقا» أو «عزاء ديني» أو «معنى مطلق» جاهز، وهو نوع من خداع الذات بالقفز فوق الحقائق.

«التمرد»: وهو الخيار الذي يدعو إليه كامو. التمرد ليس ثورة على العالم بل قبول به كما هو، مع رفض الاستسلام لـ«العبث». إنه فن العيش «دون يقين»، والقول «نعم» للحياة رغم صمتها.

التمرد إذن هو أن نصنع «معانينا الجزئية واللحظية» داخل حدودنا، وأن نعيش بكثافة دون انتظار ضمانات. وهنا يظهر «سيزيف» كرمز خالد: إنه يعرف عبث صخرته، لكنه مع ذلك يدحرجها، ويُقال إنه في لحظته الأخيرة «سعيد».

الحرية في قلب العبث: نحو أفق جديد للإنسان

العبث لا يقود إلى «اليأس» كما قد يُظن، بل إلى «الحرية». الحرية من «الأوهام»، من «المعاني المطلقة»، من انتظار «عزاء متعالٍ». الإنسان «العبثي» لا يتوقف عن البحث، لكنه لا يطالب بما لا يستطيع أن يُعطى. إنه يعيش «اللحظة»، يبتكر «المعنى» داخلها، يواجه «صخرة وجوده» لا بوصفها «لعنة»، بل بوصفها «مصيراً» يمكن تحويله إلى «فرصة» للحياة بكثافة. بهذا المعنى، العبث يحررنا من ثقل «الأمل المستحيل»، ويفتحنا على حياة صادقة بلا عزاء كاذب.

الخاتمة: «سيزيف» أو الإنسان الذي يتعلم أن يحب صخرته

إن ما يقدمه كامو ليس «عزاءً» ولا وعداً بـ«الخلاص»، بل «شجاعة» مواجهة الواقع كما هو. «العبث» لا يزول، لكنه يتحول إلى أفق جديد للحياة. أن «نتمرد» يعني أن نعيش بلا يقين، أن نحيا رغم غياب «معنى كلي»، أن نقول «نعم» لوجودنا المحدود. ومع ذلك، تبقى النهاية «مفتوحة»: هل يكفي أن نتعلم أن «نحب صخرتنا» كي نصالح أنفسنا مع «صمت العالم»؟ أم أننا سنظل إلى الأبد شهوداً على «فجوة» لا تُردم؟ لعل «عظمة الفلسفة»، في النهاية، أنها لا تضع نهاية لـ«السؤال»، بل تمنحنا القدرة على العيش داخله بكرامة وحرية.

_________________________________

*كاتب وباحث فلسطيني

زر الذهاب إلى الأعلى