الرأي العام

تفاصيل سورية | سورية المعاصرة لم تعرف الدولة

يكتبها: غسان المفلح
إن التطرق لتاريخ سورية بعد استقلالها عن الاستعمار الفرنسي، كانت الغاية منه محاولة رؤية ما يمكننا تسميته بالمسألة السورية. المقاربة الأكثر خصوبة كي تكون مدخلا لموضوعنا هي التي ترى في مسألة البلقان مقارنة مفيدة مع مسألتنا في بلاد الشام، التي تعتبر سورية الحالية القلب منها. بلاد البلقان تسببت مباشرة في حربين عالميتين، راح ضحيتهما أكثر من ثمانين مليون ضحية عدا أكثر من مئة مليون مصاب على أقل تقدير، كما دمرت بلدان بكاملها تقريبا. بداية لابد لنا من القول الافتراضي: إن الجماعات المتخلية تصير واقعية في غياب الدولة. هذا ما كان حال الجماعات المتخلية في منطقة البلقان من ارثوذكس وكاثوليك، صرب وكروات البان وغيرهم، مسلمون ومسيحيون، تاريخية المتخيل والواقعي مرتبط بالحقل السياسي، قواه ومصالح مراكزه من جهة، وحقل الدولة والقانون وحقوق الجامعات والافراد.
أول حل انتجته التجربة في بلاد الشام هو الحل الذي قدمه الاحتلال العثماني فيما سمي قانون الملل والنحل*. رغم أن هذا الحل لم يكن يشمل الأكراد ولا حتى العرب السنة. هذه المقاربات الافتراضية هي لتوسيع دائرة الاهتمام في عناوين غابت وتغيب عن مأساتنا السورية خصوصا والشرق أوسطية خصوصا. لكن قبل أن نمضي في الملف ما جعلني أيضا أرى أهمية هذا الملف هو معيشتي في سويسرا. هذه التجربة الكونفيدرالية الفريدة. الحديث عن هذه التجربة لا يتعلق بما يمكن للمرء أن يراه مبعثرا من كتابات في هذا الفضاء الأزرق، بل المعايشة اليومية ببعض تفاصيلها. هذه التجربة مهما كانت برأيي هي من منظوري الشخصي.

 في إحدى البلديات قدمت وثيقة عبارة عن عقد عمل باللغة الفرنسية. كما هو معروف أن سويسرا فيها أربع لغات رسمية هي اللغة الألمانية الأكثر تحدثا من قبل سكان سويسرا ثم اللغة الفرنسية وبعدها اللغة الإيطالية ثم اللغة الرابعة هي اللغة الرومانش. وهي لا يتحدث بها سوى مجموعة صغيرة من السكان. عندما قدمت عقد العمل للموظفة قالت لي: لماذا لم تترجمه للألمانية؟ فأجبتها: أليست اللغة الفرنسية لغة رسمية سويسرية. فأخذت العقد بتجهم. هذه الواقعة سيترجمها كل واحد حسب خبرته ومعرفته وموقفه من شكل الدولة الذي يريده في بلده. حتى يمكنك ان تجتمع بشخص مثلا من كانتون زيورخ يسخر من لهجة كانتون آخر. والعكس أيضا. هذه تشبه سخرية الشامي مثلا من الحكي الحوراني. بالتالي كيف يمكن قراءة هذه التفاصيل اليومية وغيرها الكثير من زاوية القانون والدولة؟
الدولة والقانون هو الملاط الذي يجمع هذا التنوع من البشر، الأيديولوجيات، من المصالح والسياسات، من الاحلام الكبرى والصغرى من الأوهام الفردية أيضا. لكن هل يكفي ان نقول دولة وقانون؟ يجب أن تكون حرية الفرد لكي يدافع عن حقه في المساواة أمام القانون. بعضهم يرى أن الديكتاتور لديه قانون! كيف ديكتاتور ولديه قانون؟ الديكتاتور لا يستطيع أن يكون ديكتاتورا إلا بفعل سيطرته العسكرية على أجهزة الدولة. يديرها كما سلطته وكما مصالحه الشخصية واهوائه. كيف يمكن ان تكون فردا حرا أمام ديكتاتور يحكمك بالحديد والنار، دون أي قانون. ما يميز الديكتاتور أيضا أو أحد سمات الديكتاتورية هي: أنها تخرق القوانين التي يضعها الديكتاتور نفسه. في سويسرا هذا أمر لا يمكن أن يحدث. لأن السلطة موزعة وفقا لديمقراطية حقيقية تحميها مؤسساتها ومجتمعها في حال أي تغول ما من قبل سلطة الدولة. في الديكتاتورية لا تظهر الدولة، بل تظهر للمواطن سلطة الديكتاتور واجهزته القمعية. وقد وصلنا في سورية كي نقول سورية الأسد وليس الدولة السورية!

تم ابتلاع الدولة الهشة التي لم تترسخ من قبل البعث أولا والاسدية لاحقا. الديمقراطية ودولتها وإلا لماذا يعتبر بعضهم أن المقارنة مع سويسرا غير مجدية! منهم من يعيد ذلك إلى منهم من يعيد ذلك إلى الوضع السلطوي في سورية، بوصفه وضعا ديكتاتوريا دمويا، ومنهم من يعيده إلى تخلف المجتمع، تخلف الشعب السوري، لكي يزيل عن كاهله مبحث السياسة والسلطة الحاكمة والمصالح وموازين القوى. الدولة الديمقراطية في سويسرا مبنية على توزع مراكز قوى صاغت أساسا العقد الاجتماعي. الشعب وقواه أيضا مراكز قوى كنت قد عالجت هذه النقطة في زاوية سابقة. كل عنوان من هذه العناوين يحتاج لبحث لوحده. كيف لبلد يبني دولة استقلاله الديمقراطية ويرسخها أمام تغول عسكره بفعل امتدادات إقليمية ودولية؟ هذه العقدة التي واجهت سورية. القضية أيضا في سورية: أن الاسدية أدخلت المكونات السورية في صراعات عامودية! وحولت الطوائف مثلا إلى الطائفية.
الدولة الفاشلة يمكن أن تجدها في بطاقة هويتك وجواز سفرك. بطاقة هويتك لها فائدة واحدة عند أجهزة المخابرات الأسدية. ما تبقى في سورية يمكن أن تحصل عليه بالرشوة حتى بدون بطاقة هوية… لأن الرشوة شفهية! أما جواز سفرك السوري فحدث ولا حرج!

 مع أن سويسرا كونفيدرالية صغيرة، قارن جوازها الأحمر بجوازك السوري الأزرق الداكن. هذا الامر لا علاقة له بأن هنالك جزء من شعب دولتك متخلف مثلا!! بل له علاقة بمقولة دائمة راسخة: سلطة غاشمة لدولة فاشلة إنها سورية في زمن الاسدية…

يتبع

_____________________________
* هذا تعريف من غوغل:
وقد بني نظام الملل العثماني على أسس إسلامية مستنبطة من المذهب الحنفي، ويعود أصل النظام إلى عهد السلطان محمد الفاتح (1451- 1481) الذي اعتبره المؤرخ الإنجليزي أرنولد توبيني المسؤول الأول عن بقاء شعوب دول أوروبا التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية على دياناتهم المسيحية واليهودية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى