الرأي العام

استعادة الدولة السورية أم إعادة دمجها في تحالفات أمنية دولية؟

دولة خرجت لتوّها من دمارٍ شامل تدرج في تحالفٍ أمني عالمي لمكافحة الإرهاب: ألسنا أمام صيغة جديدة من “تسييس الدولة"؟

أسامة منير إبراهيم – العربي القديم  

تعالوا نفكّر بعقل سياسي، لا بعين المبهورين بالصور التي ستملأ الشاشات يوم العاشر من نوفمبر، حين يدخل الرئيس أحمد الشرع البيت الأبيض في زيارة وُصفت بـ«التاريخية» لأنها كذلك بالفعل. قد يبدو المشهد مفعماً بالأمل، وقد يراه البعض لحظة عودة سوريا إلى النظام الدولي بعد سنوات من العزلة والحصار. لكن السياسة لا تُقاس بالتصفيق، بل بميزان المصالح، وما يختبئ خلف الكلمات الجميلة من شروط غير مكتوبة.
حين تُدرج دولة خرجت لتوّها من دمارٍ شامل في تحالفٍ أمني عالمي لمكافحة الإرهاب، يجب أن نسأل برأس بارد ووعي استشرافي: ألسنا أمام صيغة جديدة من “تسييس الدولة واحتياجات شعبها عبر الأمن”؟ وهل يعني هذا أن طريق الإعمار والتنمية سيُفتح فقط بعد اجتياز الاختبارات الأمنية التي يحدّدها الآخرون؟

هذا ما يسميه منظّرو العلاقات الدولية “أمننة الدولة- Securitization”: حين تتحول كل قضية داخلية – من التعليم إلى الكهرباء – إلى ملف أمني دولي يُقاس بمعيار التعاون مع القوى الكبرى. فيصبح السؤال الأول في واشنطن: هل دمشق ملتزمة بمحاربة الإرهاب؟ في خين أنّه يجب أن يكون: كيف يعيش المواطن السوري؟ ويتحوّل المال المجمّد إلى عصا وجزرة، لا يُفرج عنه إلا بقدر ما تنفذ الدولة ما يُطلب منها. هكذا تصير التنمية مكافأة، لا حقًّا سياديًا.

هذا السيناريو ليس جديداً على المسرح الدولي. وهو ما شهدته باكستان بعد 2001 دخلت في صف حرب واشنطن على الإرهاب فنالت تمويلات وشرعية، لكنها خرجت باقتصادٍ متآكل ومجتمعٍ يعيش على وقع الحرب الدائمةوآخرها كان أن هزمت الهند بأسلحة صينية وليس غربية!. والجزائر في التسعينات قدّمت نفسها للعالم باعتبارها «تقاتل الإرهاب نيابة عنه»، فحصلت على غطاء غربي واسع، لكن الانفتاح السياسي تأجل لعقود. أما العراق بعد 2003 أُعيد إدماجه دولياً عبر التعاون الأمني لا عبر التنمية، فصارت كل منحة مشروطة بـ«مكافحة الإرهاب». ومصر بعد 2013 نالت دعماً دولياً سريعاً حين أصبحت جزءاً من شبكة مكافحة الإرهاب في سيناء وغزة، لكن الثمن كان تأجيلًا طويلًا للإصلاحات الاقتصادية والسياسية. حتى السلطة الفلسطينية نفسها، كانت طوال مسار أنابوليس ومدريد، طُلِب منها «الأمن مقابل التسهيلات»، لا «الحرية مقابل التنمية».

في الحالة السورية، المخاطر أكبر. فالدولة المنهكة التي تحتاج إعادة بناء مؤسساتها ستجد نفسها تُقاس بميزان التعاون الأمني لا بميزان النهوض الوطني. وربما ستُوجَّه طاقتها الإدارية إلى إرضاء الخارج، لا إلى خدمة الداخل، وستُبقي واشنطن يدها على مقبض العقوبات، ترفعه حين تشاء وتعيده حين تشاء، لأن “التعاون الأمني” قابل دوماً للتأويل. وكل ملف إنساني – من اللاجئين إلى الكهرباء – سيصبح رهينة في ميزان “مدى الالتزام بالتحالف”.

لكنّ الإنصاف يقتضي القول إن الدخول من الباب الأمني ليس بالضرورة شراً مطلقاً.  فالنظام الدولي اليوم لا يمنح تذاكر عودة عبر الشعارات الأيديولوجية (“الاشتراكية العربية” أو “حركات عدم الانحياز”)، بل عبر الأدوار الأمنية: الانخراط في مكافحة الإرهاب، بذل جهود ضبط الهجرة غير الشرعية مثل الدور الذي لعبته تركيا بإدارتها الذكية لحنفية اللاجئين السوريين في وجه الضعوط والشروط الأوربية في ملفات تركية عديدة، أو مكافحة الاتجار وتوزيع وتهريب ونشر المخدرات. ربما لا تملك دمشق رفاهية الرفض، وربما يكون الانخراط في التحالف هو «تذكرة الدخول» الوحيدة لكسر العزلة وفتح أبواب التمويل. لكن الخطر ليس في الدخول من هذا الباب، بل في البقاء داخله دون مخرج. فالذكاء السياسي هو أن يتحول هذا الانخراط إلى رافعة للإعمار لا إلى قيدٍ جديد يكرّس التبعية.

ولنا هنا العودة إلى أدبيات التنظير في العلاقات الدولية وتحديداً في مساري «الاستراتيجيا والأمن» لنطبق عملياً عدة متغيرات بتنا نلمسها في الحالة السورية ونرى بعين المتفائل الموضوعي أنَّ أولي ويڨر  (Ole Wæver) وضع لنا عدة حالات للأمننة، ليكون بإمكاننا النظر بعيون الساسة الأمريكيين ومستشاري الرئيس ترمب لدعوة الرئيس أحمد الشرع لزيازة البيت الأبيض من مبدأ الأمن بوصفه”رفع للرهان” أو ما يدعى بالإنكليزية  (Raising the Bet) فعند “أمننة” قضية ما، فإننا نخرجها من حيِّز السياسة التقليدية ونرفع قيمة الخطر الذي تمثله، والحالة هنا هي داعش بالنسبة للإدارة الأميريكية. وهذا يتطلب من الإدارة إياها تحركات استثنائية (غير قانونية أو غير ديمقراطية في الظروف العادية)، مما يعني أن الفاعل يخاطر«الوايات المتحدة هنا» بمبادئه أو بالنظام القائم في مؤسساته ولو كانت ديمقرطاية صلبة من أجل السيطرة على القضية الملموس ومن هنا نرى فاعلية وحجم تأثير سوريا بقيادة أحمد الشرع وأنها تمتلك مفاتيح كبيرة وأوراق من شأنها أن تستخدم لجلب مصالح لسوريا وبلدها لسنوات طويلة للأمام واعتقد أولها سيكون رفع عقوبات قانون قيصر كاملة قبل زيارة الرئيس أو بالتزامن معها وهذا ما لا نسمعه من محللين وآراء كثيرة ليس بوسعها أن تستخدم ما وصلها من علم ومعرفة وخبرة بالعلاقات الدولية لتقدم تفاؤل تحتاجه سوريا وشعبها اليوم أكثر من أي وقت مضى.

فما الحل؟ هناك عدة حلول يمكن أن تكون ضماناً لانخراط سوريا في المجتمع الدولي اليوم من جديد، ولكن لا أن يصبح جهودها في تقديم قوائم تحقق مما بذلته هو المعيار لفتح أبواب الدعم وإعادة الإعمار، ومن هذه الحلول: أولًا، بتعريب الملف الأمني قدر المستطاع، وجعل التعاون مع واشنطن جزءًا من مظلة عربية أوسع تضم عمّان والقاهرة وبغداد وأبوظبي، كي لا تبقى الشرعية بيد طرف واحد. ثانياً، بفصل مسار الإعمار عن مسار الأمن: المساعدات يجب أن تُربط بإجراءات إنسانية داخلية، لا بعمليات أمنية في الخارج. وثالثاً، بإعادة صياغة الخطاب الداخلي بحيث تُقدَّم المشاركة في التحالف على أنها استعادة لسيادة الدولة على كامل أراضيها، لا تنفيذًا لإملاءات خارجية.

في النهاية، الخطر الحقيقي ليس في التحالفات ذاتها، بل في الطريقة التي تُدار بها. فالدولة التي تُحسن توظيف السياسة الأمنية لخدمة التنمية تستعيد مكانها، أما التي تسمح بأن تتحول أمننتها إلى قدرٍ دائم، فستبقى في غرفة المراقبة الدولية إلى أجلٍ غير مسمى.
ومن هنا يمكننا النظر إلى زيارة الشرع إلى واشنطن أنها قد تكون بداية فصل جديد لسوريا، لكن التاريخ علّمنا أن كل بابٍ يُفتح بالأمن وحده، يُغلق بالاقتصاد والسيادة. ومن هنا يبدأ التفكير السياسي الحقيقي: كيف نضمن ألا تتحول عودة سوريا إلى العالم من استعادة دولة إلى مجرد إعادة تأمينها.

زر الذهاب إلى الأعلى