العربي الآن

الخائن كظلّ الجماعة: قراءة فلسفية في ظاهرة ياسر أبو شباب

من منظور فلسفي ونفسي وسياسي، يمكن القول إن ياسر أبو شباب لم يكن «حادثة»، بل «إشارة».

محمد صبّاح * – العربي القديم

في علم النفس التحليلي، لا يظهر «الخائن» بوصفه شخصية طارئة أو طارئة على الأخلاق، بل بوصفه مظهراً من مظاهر «الظلّ الجمعي» ،ذلك الجزء المظلم الذي يختبئ داخل الجماعة حين تتفكّك وحدتها وتنهار مرجعياتها.

كارل يونغ لم يقدم «الخائن» كأركيتيب مستقل، لكنه وضع أساسه حين شرح كيف يُنتج المجتمع، في لحظات ضعفه وانقسامه، نماذج بشرية تتجسّد فيها عناصر الظل: الانفصال، الاغتراب، الانهيار الداخلي، والبحث عن قوة تعوّض غياب الانتماء.

بهذا المعنى، لا يولد «الخائن» من نفسه؛ بل تولده البنية التي فشلت في احتوائه. إنه الوجه الذي يتسلل من الشقوق حين تفقد الجماعة صلابتها. ومن هذا الباب، لا يمكن قراءة ظاهرة ياسر أبو شباب إلا في إطارها الأعمق: ليست حدثاً شاذاً، بل عارضاً مرضياً يكشف حجم التآكل الذي أصاب «المشروع الوطني الفلسطيني».

ياسر أبو شباب تزعم مليشيا مسلحة متعاونة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي في رفح خلال الشهور الماضية وأعلنت إذاعة الجيش الإسرائيلي مقتله أمس الأول (العربي القديم)

_ «الخيانة» بوصفها نتيجة لا سبباً

في لحظة تاريخية يعاني فيها الفلسطيني من انقسام سياسي مزمن، وانهيار مؤسساتي واسع، وتآكل في المرجعية الوطنية، يصبح الفرد الأكثر عزلة، والأقل تماساً بالهوية الجامعة، عرضة للانهيار.

ليس لأنه أقرب للخطيئة، بل لأن الأرض من تحته لم تعد صلبة. «الخيانة» هنا ليست خرقاً للقيم، بل إعلاناً عن موت الإطار الذي كان يمنعها.

ظاهرة مثل «أبو شباب» لا تولد في مجتمع متماسك، ولا في بيئة تعرف حدودها الأخلاقية، بل في فراغ سياسي ونفسي يبتلع الضعفاء قبل الأقوياء.

حين يتحول المشروع الوطني إلى «مشاريع»

انفجار ظاهرة كهذه لم يكن ليقع لو ظل المشروع الوطني الفلسطيني واحداً، متماسكاً، قادراً على احتضان الفرد وتحصينه. لكن الواقع الفلسطيني منذ سنوات طويلة يتّجه باتجاه معاكس تماماً:

_ مشروع وطني تراجع حتى التلاشي.

_منظمة تحرير فقدت روحها ودورها وفاعليتها.

_فصائل تتصرف بوصفها «بدائل» لا روافد .

_انقسام عمودي ضرب الهوية الوطنية في أساسها .

وفي قلب هذا المشهد، برزت حماس بمشروع سياسي «لا فلسطيني» في جوهره، مشروع يشتغل خارج الإطار الوطني الجامع، ويعيد تعريف الشعب بمعايير فصائلية، ويقسّم الجغرافيا والسلطة والرؤية والقرار.

هذا الانفصال لم ينتج قوة، بل أنتج «فراغاً». فراغاً سياسياً، وأخلاقياً، ووطنياً. وكل فراغ من هذا النوع يولّد أمثال «أبو شباب».

الاحتلال لم يخترعه؛ لقد وجد الباب مفتوحاً، فدخل.

«الظل» الذي خرج من بين الركام

عندما يصف يونغ «الظل»، فهو يتحدث عن ذلك الجزء من الذات الذي يُقصى ويُهمَل حتى يعود في لحظة انهيار.

والجماعة أيضاً لها ظلّها: الضعف الذي تُخفيه، الشروخ التي تنكرها، التناقضات التي تتجاهلها. وظاهرة ياسر أبو شباب ليست أكثر من ظهورٌ فجّ لهذا «الظلّ».

إنها إعلان قاسٍ بأن الجسد الوطني أضعف مما أراد كثيرون الاعتراف به. وأن الانقسام لم يكن مجرد خلاف سياسي، بل جرحاً في الهوية، وصدعاً في الوعي، ومذبحة للمرجعيات التي كانت تربط الفلسطينيين بعضهم ببعض.

«الخائن» لا ينهض حين يكون الوطن حاضراً ؛ بل حين يغيب.

«الخيانة» ليست انحرافاً فردياً بل فشلاً جماعياً

إذا أردنا أن نتعامل مع الظاهرة بصرامة ووضوح، علينا القول:

إن سقوط فرد تحت ضغط الاحتلال أو تحت إغراء القوة، ليس مشكلة الشخص وحده، بل مشكلة البنية التي تركته ينهار.

في مجتمع موحّد، لا يستطيع الاحتلال شراء ولاء فرد. وفي مجتمع ممزق، يصبح بيع الولاء احتمالاً قائماً.

بهذا المعنى، إن ظاهرة «أبو شباب» ليست شهادة على خيانته وحده، بل على فشلنا الوطني في إنتاج بيئة تمنع «الخيانة» قبل أن تعاقبها.

ما الذي يجعل «الخيانة» ممكنة؟

جواب هذا السؤال ليس أمنياً ولا أخلاقياً؛ بل بنيوياً:

_ غياب المرجعية الوطنية الجامعة.

_ تفكك الهوية الموحدة.

_تضخم «المشاريع الجزئية» على حساب المشروع الفلسطيني.

_تحويل الشعب إلى جزر سياسية واجتماعية معزولة.

_استبدال البرنامج الوطني بخطاب فصائلي.

_تراجع دور منظمة التحرير من قيادة إلى ذكرى.

هذه الشروط ليست مجرد خلفيات للمشهد، بل مصادر الخلل التي ينبثق منها نموذج «الخائن».

استعادة الوطن قبل استعادة الأفراد.

المطلوب ليس لعن «أبو شباب». فذلك لا يعالج شيئاً، ولا يغيّر شيئاً.

المطلوب أن نتعامل مع الظاهرة بوصفها جرس إنذار يقول:

 إن البنية الوطنية التي تآكلت يجب أن تُبنى من جديد،

وإن الوطن الذي تراجع يجب أن يعود ليصبح أكبر من الفصيل، وأقوى من الانقسام، وأشد حضوراً من كل «مشروع» موازٍ.

«الخيانة» تُهزم بالوطن، لا بالصراخ.

_خاتمة: لا يولد «الخائن»… بل يُنتج

من منظور فلسفي ونفسي وسياسي، يمكن القول إن ياسر أبو شباب لم يكن «حادثة»، بل «إشارة».

إشارة إلى أننا دخلنا مرحلة خطيرة لم يعد الانقسام فيها خلافاً سياسياً، بل مرضاً يمسّ روح الشعب ذاته.

إن مواجهة هذه الظواهر تبدأ بإعادة مشروع التحرر إلى مكانه الأول: مشروعاً وطنياً، لا «مشروعاً فصائلياً».

وعندما نستعيد هذا المشروع، لن نحتاج للبحث عن «الخونة»؛ لأنهم ببساطة… لن يظهروا.

……………………………………………………..

*كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى