تاريخ العالم

الأديب والمفكر ميخائيل شيشكين: أخشى ألا أشهد في حياتي روسيا حرة ومزدهرة!

أعظم أدباء روسيا الأحياء لا يشك بهزيمة بوتين ويتهم الغرب بتمكين الديكتاتورية في روسيا

ترجمة: د. أحمد عسيلي

يعتبر ميخائيل بافلوفيتش شيشكين واحداً من أهم الأدباء والمفكرين الروس في العصر الحاضر،  وهو يحظى بشهرة كبيرة في الغرب. فهو الكاتب الوحيد الذي فاز بالجوائز الأدبية الثلاث الأكثر أهمية في روسيا. ما دفع بصحيفة (الغارديان) البريطانية لوصفه عام 2013. بأنه “أعظم كاتب روسي على قيد الحياة”.  ترجم له إلى اللغة العربية رواية بعنوان (كتاب الرسائل)، وبمناسبة صدور الترجمة الفرنسية لكتابه (السلام أو الحرب: تأملات في واقع العالم الروسي)، أجرت مجلة (الماريان) الفرنسية في عددها الصادر لهذا الأسبوع  حواراً معه،  تقدم (العربي القديم) النص الكامل لترجمته.   

س: في كتابك الذي صدر مؤخرا ، نجد فيه مقالات لك نشرت منذ عام ٢٠١٩، بالإضافة لمقدمة واستهلال كتبته في شباط ٢٠٢٢، ويرتكز مفتاح فهمك لروسيا الحالية، على فكرة (القيصر الشرعي)، إذن لا شيء تغيّر في روسيا؟

شيشكين: في الأدبيات الروسية بالقرن التاسع عشر ، كان السؤال الأبدي للنخبة المثقفة : من هو المخطئ ، و كيف العمل  من أجل  محاسبته ،و بالنسبة لشعب  يتكون  من ١٥٠ مليون ريفي ، لا يجيد القراءة ، السؤال كان دوما من هو ( القيصر الشرعي) وهذا لم يتغير أبدا.

ستالين قتل ملايين الناس، لكن حكمه بقي شرعيا في نظر الشعب الروسي، و مازالوا إلى الآن يحبونه و يحترمونه، لأنه فقط فاز بالحرب العالمية الثانية، فالوسيلة الوحيدة لاختبار مكانة  حاكم ما، هو النصر، وهنا فقط تكمن شرعيته. ميخائيل غورباتشوف خسر الحرب في أفغانستان،  كما أنه تسبب بخسارة الحرب الباردة أمام الغرب، لذلك لم يعد وجوده بالحكم شرعيا في عيون الناس، بوريس يلتسن فهم ذلك ، لذلك ، و في فوضى سنوات التسعينات ، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، كان بحاجة لنصر، و قد أخبره جنرالاته وقتها أنه يمكن احتلال غروزني خلال ساعتين،  لكنه خسر الحرب، وخسر معها شرعيته أمام الشعب، لذلك فالروس حاليا يحتقرونه.

فلاديمير بوتين كان عليه أن ينال شرعيته، ليس من خلال الانتخابات التي لا تلعب دورا مهما في روسيا، وإنما فقط من خلال الحرب، فرغم ما قام به من تفجيرات في موسكو، ومن المجازر التي ارتكبها في الشيشان، لم تهتز شرعيته أبدا؛ بل لقد  هللّ له الشعب في عام ٢٠١٤ ، لمَ لا… وقد انتصرنا وأصبحت القرم لنا!

  لكن بوتين  كان عليه أن يثبت شرعيته وبشكل مستمر، وقد أخبره جنرالاته أنه باستطاعتهم الدخول إلى كييف خلال ثلاثة أيام، لكنه خسر الحرب  ولم يعد وجوده شرعيا في نظر الروس، ويمكن لنا أن نستدل على ذلك من خلال ما تردده (المعارضة الوطنية) في التلغرام، فالجميع يصرخ “نحن على وشك الهزيمة” وبالتالي بحاجة لقيصر حقيقي كي نستطيع كسبها 

س: كيف تفسر إجهاض “المسير من أجل العدالة” التي أعلن عنها يفجيني بريغوجين،  من أجل السيطرة على موسكو؟

شيشكين: في كواليس المسرح السياسي الروسي، كان بريغوجين أحد المرشحين الأساسيين للعب دور ( القيصر الحقيقي) لذلك كان بحاجة لنصر ، وهذا ما فعله من خلال دوره في السيطرة على (باخموت)، و جعله مؤهلا ليعبر  وبصوت عال عما يشعر به الناس، فالحرب لم تسر بالشكل الصحيح، بسبب فساد وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان وقد  اتهم الإثنين بالخيانة. والانتقاد العلني لهذين المسؤولين تعني شيئاً واحداً، و هو ضعف القيصر الحاكم، وابتلاع بوتين لهذه الإهانة تعني أنه لم يعد حاكم حقيقي، و العكس صحيح، أي اذا كان بمقدور بريغوجين التطاول على السلطة ، فهذا يعني أنه قوي… لكن مالذي دفعه للتراجع، قبل ساعات قليلة من الوصول بقواته إلى موسكو؟

هذا ربما ما سيجيب عنه المؤرخون. وسيقول لنا التاريخ أيضا، أن هناك منافسا للقيصر كان على وشك الوصول للعرش، لكنه لم يكن قيصر بمعنى الكلمة.   

من سيكون المنافس القادم؟ لا نعرفه إلى الآن، لكنه سيكون بحاجة إلى نصر ما كي يثبت فيه شرعيته.

س: إذن أنت لا تؤمن بوجود تحول ديمقراطي في روسيا؟

شيشكين: خوفي أن لا أرى في حياتي هذه روسيا ديمقراطية ومزدهرة. الدكتاتورية  هي النظام السائد حاليا، لكن إذا حدثت معجزة وتم إجراء انتخابات حرة، فالأكثرية من الروس لن تصوت لخيار الديمقراطية، لأنهم لن ينجرون “لعملاء الخارج” بل لصوت “المواطن الأصيل” مثل بريغوجين،  الذي أخبرهم [قبل أن يقتل] أننا خسرنا الحرب بسبب الفساد في البلاد، وأنه يجب إعادة ترتيب الأمور من أجل كسب المعركة القادمة.

نحن نعلم أن الدكتاتورية تنشأ  بإرادة مجتمعية ، حين تبدأ الحاجة ليد من حديد تعيد النظام و الأمن، هذا ما  أنتجته سنوات العشرينات في ألمانيا والتسعينات في روسيا، لكن من أجل بناء مجتمع ديمقراطي سليم ، يجب أن تتحقق الشروط المناسبة لذلك، وأول وأهم شرط، هو الهزيمة العسكرية الشاملة للنظام في الحرب، وقبول هذه الهزيمة وتحمل مسؤوليتها الوطنية، وفي الحالة الروسية، يجب أن يقر الروس، أنهم هم من كانوا الفاشيين وليس الناتو. 

س: الشعب كله، وليس القادة فقط؟  

شيشكين: من غير ذلك لا أمل في المستقبل، وأشك أن يحدث ذلك. هذا ما جرى في ألمانيا بعد الهزيمة العسكرية الشاملة و تدمير آلة الحرب، فقد تم الاستحواذ على جهاز الدولة كاملا، لو لم يحدث ذلك، لما كان بالإمكان البدء بمحكمة نورنمبرغ.  في روسيا لم يحدث هذا، لأنه لم يحدث  هناك هدم للنظام القديم، و لا استحواذ كامل على جهاز الدولة. تخيّل مثلا لو أن جهاز المخابرات النازية (الغوستابو)،  هو الذي تولى الحكم بعد هزيمة ال١٩٤٥ في ألمانيا ، كيف سيكون الوضع، هذا تماما ما حدث في روسيا بعد انهيار الإتحاد السوفيتي،  فقد بقي نفس الأشخاص في الحكم، وقد قاموا بإعادة بناء الدولة بالطريقة الوحيدة التي يعرفونها، وهو أسلوب الحكم الدكتاتوري

من أجل بناء الديمقراطية، نحن بحاجة لـ “كتلة حرجة” من المواطنين، تدرك ما هي الديمقراطية وما هي دولة القانون، وتدرك لماذا نحن بحاجة لتلك الديمقراطية، هذه الكتلة من ٢٠ إلى ٣٠ مليون شخص، هجرت البلاد لأنها لم تجد فيها أي مستقبل لها ولأولادها، بالإضافة إلى مليون آخر هجر البلد بعد التعبئة العسكرية للبلاد.

السلطة الحالية لديها من الدهاء لدفع كل من يستطيع الاحتجاج إلى الهجرة والنفي، وإذا كنت متشائماً حيال الواقع الروسي، فأنا متفائل حيال أوكرانيا، ولا أشك أبدا بنصرهم على عدونا المشترك وهو النظام البوتيني، وأن العالم كله سيساعد أوكرانيا في إعادة الإعمار، وأن هذا البلد سيستطيع بناء جدار ضخم على حدوده مع روسيا، لكن للأسف ما سيبقى خلف هذا الجدار على الجانب الروسي، هي الفوضى والفساد، والصراع  بين هؤلاء المهرجين، من أجل الوصول للسلطة.

س: من وجهة نظرك، ما الذي كان على الغرب فعله من أجل مساعدة روسيا لتجاوز هذا الواقع السوداوي؟

شيشكين: في سنوات التسعينات، كان كل شيء ممكن. كانت روسيا منفتحة على فكرة الديمقراطية، ومنفتحة على الغرب أيضا، الذي لم تكن تعرفه إلا من خلال الأفلام الأمريكية، من أجل أن تقف الديمقراطية على قدميها، كان يجب إظهار المثل الجيد لتلك البلاد، عن كيفية عمل الديمقراطية،  وكيفية تطبيق القانون، وكيفية احترامه من قبل الجميع، ومن لا يحترمه سيمضي أيامه في السجن.

لكن كيف تعامل الغرب مع روسيا؟ في تلك الفترة كنت أعمل مترجما لدى البنوك السويسرية، وشهدت كيف تقوم تلك البنوك بعمليات غسيل الأموال، وكيف أن المحامين كان يدركون أن هذه الأموال قذرة، لكن لم يعترض أحد. ما أظهره الغرب للديمقراطية الروسية الناشئة، أن دولة القانون تتعطل حين يتعلق الأمور برؤوس الأموال الضخمة. إعادة تأسيس الدكتاتورية في روسيا لم يكن ممكنا دون مساعدة “الغرب الديمقراطي”، فقد تمت المساهمة في تمكين الدكتاتورية من خلال البنوك والمحامين والسياسيين الفاسدين في الغرب، الذين تهافتوا على استرضاء بوتين، وساهموا في الوصول إلى مرحلة الحرب هذه. 

الغرب يجب أن يصحح أخطائه،  والطريقة الوحيدة لذلك هي إمداد أوكرانيا بالسلاح، والعمل على إنهاء هذه الحرب بأسرع وقت ممكن.

زر الذهاب إلى الأعلى