حين أمر حافظ الأسد علي حيدر بمسح حماة من على الخريطة!
العربي القديم – زيد بن رغبان
السنة الكبيسة، وشهر شباطها عندما يكون تسعة وعشرين يوماً، إلا عند السوريين أصبح الشباط هو الشهر الكبيس في ذاكرتهم، وكما اليوم نكتفي في كل عام بتبادل الاتهامات، من المسؤول؟.. النظام الذي بيّت النية لارتكاب المجزرة، وهي لم تكن الأولى في تاريخه، أم الإخوان المسلمين الذين فتحوا المعركة بغير توقيتها المناسب… الأهالي… أم الشياطين الزرق… ومن قاد المجزرة؟… ومن يتحمل مسؤوليتها؟.. المهم هي محاولات فاشلة لتغييب هول الجريمة.
قبل شباط 1982بأشهر لمن عايشها، ويتذكر تمكن النظام من كشف أغلب مقرات خلايا الطليعة المقاتلة، وبدأ يهاجمها لدرجة لم يكن يمر أسبوع إلا ويعلن النظام عن مداهمة (وكر) لهم، ويبدو أنه حصل على معلومات كافية تمكنه من ذلك، من خلال خرق أمني في قيادات الإخوان، أو عبر طرف ثالث، وأغلب الظن دولي. وقبل الثاني من شباط بأيام معدودة باشرت أجهزة الأمن بمداهمات عدّة في مدينة حماة، مما فرض على عناصر الطليعة المقاتلة فتح المعركة بشكل واسع، وبدأت بمحاصرة كتيبة سرايا الدفاع المتمركزة في قلعة حماة، وباءت جميع محاولات النظام بفك الحصار عنها، حتى قتل أغلب عناصرها وفرّ من تمكن منهم.
أُرسل فوج آخر من سرايا الدفاع، مع اللواء 47 دبابات، واللواء 21 مشاة ميكانيك، وكانت أهم تلك القوات المُرسلة الفوج 21 المعزز بوحدات خاصة، بقيادة اللواء علي حيدر، والمجرم العميد هاشم معلا (كان يعتبر أفضل ضباط النظام) وشُكّلت غرفة عمليات خاصة لقيادة المعركة (رفعت الأسد، علي حيدر، هاشم معلا، محمد ياسمين، مع رؤساء الأفرع الأمنية والحزب في حماة)، لكن بعض المطلعين أكدوا أن الآمر الناهي كان اللواء علي حيدر، ويذكر هنا أن حافظ الأسد عندما استدعاهم، لتكليفهم بالمهمة شوهد اللواء علي خارجاً على عجل، وعندما سأله أحد موظفي القصر: “ليش مستعجل يا أبو ياسر؟”. أجابه: “الرئيس سألنا على الخريطة: وين حماة، وأشار بأن نمسحها، وأنا مستعجل خايف يغير رأيه”.
أغلب من تحدثوا عن مجزرة حماة ألقوا التهمة على رفعت الأسد، طبعاً هو لا شك شريك بالجريمة، لكن القوة الرئيسية الضاربة كانت الوحدات الخاصة؛ لأن رفعت الأسد كان يعتبر أن مهمته الأولى حماية النظام في العاصمة، وإن اضطر أن ينفذ مهام خارجها، فتكون إما كما يصف بعضهم الفرقة الرابعة في أيامنا هذه (الوريث الشرعي لسرايا الدفاع) بسارقة انتصارات النظام، أو في مواجهة مجردين من السلاح، كمجزرة سجن تدمر التي نفذتها السرايا.
بقي أن نعرف البنية البشرية لتشكيلة القوات المشاركة: اللواءين 47 و21 من الجيش النظامي، وبنيتهما البشرية مختلطة، سرايا الدفاع أغلب عناصرها ضباط وصف ضباط، وجنود متطوعون من المرشدية والعلويين، الوحدات الخاصة أغلب ضباطها وصف الضباط من العلويين، أما الجنود فأغلبهم مجندون كان يشرف على اختيارهم من مراكز التجنيد، ولفترة طويلة علي حيدر، ويختار أغلبهم من المنطقة الشرقية، فبالاضافة للبنية الجسدية، بالكاد يجيدون القراءة، والكتابة، أي جهلة، فماذا يفعل جاهل، عندما تدربه جيداً وتعطيه سلاحاً، مع كل الصلاحية بأن يفعل ما يشاء؟ بلغ مجموع تلك القوات مع الإسناد من عناصر الأمن بحدّه الأدنى خمسين ألفاً، وكانت بمواجهة ألف، أو أكثر قليلاً من الإخوان المسلمين. يروي أحد الناجين من أبناء المدينة إن الإخوان حاولوا مع انطلاق المعركة تطويع بعض الشباب القادرين على حمل السلاح؛ بسبب النقص بالعناصر، ولم ينجحوا مما يؤكد قِلة الرقم المُشار إليه.
بعد تجميع قوات النظام اشتدت المعارك، وفشلت في اقتحام مواقع الإخوان المتحصنين بالأحياء القديمة: (الكيلانية، حي الزنبقي، الطوافرة، بين الحيرين، سوق الحاضر)، مما اضطر النظام إلى الاستعانة بالطيران، مع إلقاء الكيروسين الحارق، وفي نهاية الأمر جاءت الأوامر: (لغّم، فجّر، وامشِ). تم تلغيم الأحياء وتفجيرها على من فيها، عائلات بأكملها دفنت تحت الركام، كحي الزنبقي الذي بُني على ركامه فندق أفاميا الشام، وحي الطوافرة، حيث يقول أحد الناجين من عائلة طيفور (التي ينسب لها اسم الحي): إن هناك أملاكاً ودوراً لم يعد لها من وريث.
توقفت المعارك في 27 شباط، وبعد بضعة أيام بدأت الناس بالخروج إلى الشوارع؛ لتفقد بيوتهم وأقربائهم وأصدقائهم، ويبدو حصل اشتباك مع عنصر من الإخوان كان مختبئاً، أدى لمقتل عدد من عناصر الأمن والجنود، فرد النظام باعتقال كل من كان يسير في الشوارع من الرجال، وجمعوهم في الملعب البلدي، ثم فُتحت النيران عليهم، مجزرة شبيهة بمجزرة بينوشه في التشيلي، وعجز الجميع عن تقدير العدد، لكن سائق جرافة ممن كُلفوا بجمع الجثث إلى الشاحنات، لرميها في منطقة السريحين ودفن الجريمة، قدر بأن العدد تجاوز ألف جثة بكثير. وذكر أحد الجنود إن هاشم معلا أشرف على ارتكاب المجزرة، وسبق له أن ارتكب مجزرة شبيهة بها في حلب مع عدد ضحايا أقل!
هذا الضابط مع قائده علي حيدر اللذين سرّحهما حافظ الأسد بعد سنوات، وبعد أن دعماه ووقفا إلى جانبه خلال أزمته مع رفعت الأسد، لم يحتمل التسريح وأصيب بمرض السكر، إلى أن أصبح عاجزاً عن المشي، فأطلق النار على نفسه، ولسخرية القدر نجله اليوم أصبح رئيس الاتحاد الرياضي العام رغم أنه من أتفه الرياضيين.
حتى اليوم يعجز الحمويون عن تذكر جميع الحكايا التي قيل الكثير عنها وما يزال، ويتبادل الكثير من السوريين وغير السوريين أرقام الضحايا (عشرون ألفاً، خمسون ألفاً، أو أربعون)، واكتفى النظام بنشر لوائح بأسماء الضحايا ووفق هذه اللوائح قُدر العدد بعشرين ألفاً، وبهدف ذر الرماد في العيون اعتبروا شهداء القوات المسلحة في مواجهة (عصابات الإخوان المسلمين) واستحقوا التعويضات، وتم تكليف المحافظ محمد حربا وأمين فرع الحزب أحمد الأسعد (وهما من أقذر شخصيات حماة) بتوزيع هذه التعويضات، أما باقي الضحايا فقد سُمح لذويهم باستخراج شهادات وفاة.
اكتفي باقي السوريين بالاعتذار تارة في أسبوع (حماة…. سامحينا)، وتبادل الاتهامات تارة أخرى، وبعض العقلاء منهم حاولوا الاستفادة من ذاك الألم. لكن غزّة اليوم، حمص، وبابا عمرو، داريا، والغوطة، مجزرة صبرا وشاتيلا، وقصف بيروت بالطيران، جميع تلك المدن وغيرها… وغيرها، استنساخ عن حماة، وكأن حافظ الأسد، وأرييل شارون، وبشار الأسد، وبنيامين نتنياهو، عندما ينظرون في المرآة يرون وجوه بعضهم بعض.
_____________________________________________
من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024