يوميات هتلر المزيفة: لماذا أُخرجت من خزانة السموم بعد أربعين عاماً؟!
قبل أربعين عاماً من اليوم. في ربيع عام 1983 تفجرت في الإعلام الألمانية فضيحة من العيار الثقيل، كان بطلاها الزعيم النازي أودلف هتلر، ومجلة (شتيرن) الألمانية الذائعة الصيت.
ففي أواخر نيسان 1983، اجتمع 27 طاقماً تلفزيونياً، ونحو مئتي صحفي في دار (Gruner & Jahr- غرنر وديار) وسط هامبورغ بانتظار ما ستقدمه مجلة (شتيرن). وظهر رؤساء تحرير المجلة وهم يحملون 12 دفتراً أسود مليئاً بملاحظات شخصية لهتلر. وانتشرت صور مراسل المجلة “غيرد هايدرمان” مع دفتر اليوميات، إلى جانب تقارير عن هذا الاكتشاف المثير.
بعد ثلاثة أيام، نشرت المجلة طبعة خاصة بمقتطفات من اليوميات، وزادت مبيعاتها أربعمائة ألف نسخة عن المليوني نسخة المعتاد توزيعها، وقال رئيس تحرير المجلة “بيتر كوخ”: “يجب إعادة كتابة أجزاء كبيرة من تاريخ الرايخ الثالث”.
لكن سرعان ما تبين أن اليوميات مزورة، فأطاحت هذه الفضيحة برؤوس كبرى في الإعلام الألماني، ولم تزل أصداؤها تتردد، وتثير الاهتمام حتى بعد مرور أربعة عقود على وقوعها.
هكذا عايش مراسل مجلة عربية الحدث
وقد كتب مراسل مجلة (الطليعة العربية) الأسبوعية من بون بتاريخ السادس من حزيران/ يونيو عام 1983 يقول:
لا يستطيع أحد القول جازماً عما إذا كانت الظروف والأقدار، أم الصدف البرمجة، هي التي شاءت أن يخيم شبح هتلر من جديد على ألمانيا من خلال يومياته، الواقعة في (63) مجلد، والتي زعمت مجلة (شتيرن) بأنها قد حصلت عليها بفضل الجهود الثمينة لأحد صحفييها، (الداهية هايدرمان) حيث انتهى السبق الصحفي التاريخي، أو “الحدث التاريخي الخارق” بفضيحة، أسفرت عن الإطاحة بالعديد من الرؤوس الصحافية الألمانية، من طراز (بيتر كوخ) و(شميدت) رئيسا تحرير مجلة (شتيرن) الألمانية، والمكتشف والنجم اللامع (هايدرمان) نفسه، وباهتزاز السمعة العالمية لبعض مشاهير المختصين بالتاريخ النازي، أمثال المؤرخ البريطاني وعضو هيئة تحرير (صنداي تايمز) اللندنية، اللورد هوبر والمعرف باسم (داكر) والذي أفاد بادئ الأمر، بأن “اليوميات” صحيحة، غير أنه عاد وتراجع عن ذلك منتقداً نفسه بالتسرع. كما أن ثلاثة من خبراء الخطوط كانوا قد أعلنوا بأن “اليوميات” مكتوبة بخط هتلر، الذي كتب في نوفمبر 1932 قائلاً: “سأدوّن ابتداء من الآن مذكرات عن أعمالي السياسية وأفكاري، بغية الاحتفاظ بها للمستقبل، كما يفعل الساسة الآخرون”.
ومضى مراسل مجلة (الطليعة العربية) يصور لنا أصداء هذا الحدث أو السبق التاريخي الذي تكّشف عن خدعة كبرى، وأجواء مناقشاته في وسائل الإعلام الألمانية في تلك الفترة، فقال:
والحقيقة أن جمهورية ألمانيا الاتحادية تعيش، منذ أعلنت مجلة (شتيرن) عن ملكيتها لـ “يوميات هتلر” حالة هيجان، سواء على صعيد الرأي العام، أو على صعيد المؤسسات الإعلامية، أو على صعيد المؤرخين والمختصين بالتاريخ النازي. كما أن العالم لم يسلم بشكل أو بأخر من عدوى الهيجان الألماني، الأمر الذي تمثل في العديد من الندوات التلفزيونية الاختصاصية، والجدل الواسع النطاق الذي أثارته “يوميات هتلر” بين طاعن بها ومدافع عنها. حيث ظل نبأ “السبق الصحافي التاريخي” كما يسميه البعض، أو “خدعة القرن الحالي” كما يسميه بعضهم الآخر، الحدث المسيطر على الأدمغة، حتى أعلنت دائرة المباحث الجنائية الألمانية الاتحادية، على لسان أحد خبرائها الكيميائيين بأن “يوميات هتلر” مزورة، من خلال فحصها لثلاثة أجزاء؛ إذ ظهر بأن الورق المستعمل لم يكن في المتناول قبل عام 1955، وكذلك هو الحال بالنسبة للحبر والصبغ والخيط، والذي أعرب أيضاً عن دهشته لبدائية الطريقة المستعملة في التجليد وسهولة كشفها.
كما أن البروفسور (هانز يوفر) أحد أعضاء مكتب السجلات الاتحادي، ذكر بالاستناد إلى دراسته لأربعة أجزاء بأن “اليوميات” قد نقلت عن مؤلف منشور عام 1964 للمؤرخ (ماكس دوماروس)، الأمر الذي كان يفترض أن يقوم به المختصون بالتاريخ النازي في المجلة باكتشافه، إذ إن بمقدور طلبة الفصل الأول بقسم التاريخ كشف هذا الغش”.
المذكرات المزيفة في خزانة السموم
لم ينته الأمر هنا؛ فالمذاكرات التي احتفظت بها دار النشر المالكة لمجلة (شتيرن) في مكان يطلق عليه اسماً طريفاً هو “خزانة السموم” عادت للأضواء من جديد.
صحيفة (The Times) البريطانية، قالت في فبراير/ شباط ،2023 إن فريقاً من الإذاعة العامة ومقرها هامبورغ، عمل على تجميع اليوميات المزيفة ونشرها على موقعها بالإنترنت، مع تعليق من (هاجو فونك)، الخبير في التطرف اليميني والأستاذ الفخري للعلوم السياسية بجامعة برلين الحرة.
ورأى فونك وباحثون آخرون أنّ هذا العمل كان على ما يبدو، محاولة من النازيين الجدد لتبرئة هتلر، وتحدي السجالات التاريخية للمحرقة. وُيعتَقد أنّ المزور كوجاو كان على اتصال بأعضاء جبهة العمل اليمينية المتطرفة للنشطاء الوطنيين (National of Front Action Activists) المحظورة.
ونظرية النازية الجديدة ليست حديثة العهد؛ إذ بعد أشهر قليلة من الكارثة، خلصت (جيتا سيريني)، المؤرخة النمساوية البريطانية التي وظفتها صحيفة (The Times Sunday) إلى أنَّ المذكرات اختَلقت في مؤامرة لإعادة تأهيل صورة هتلر. وكان ادعاء المؤرخة محل نزاع، لكن الخبير في التطرف اليميني (هاجو فونك) قال إنّ المؤرخة تبدو الآن كما لو أنها كانت تسير في الاتجاه الصحيح.
اليهود في اليومات المزيفة
تشير اليوميات المزورة إلى أنَّ هتلر سعى إلى توطين اليهود في الأراضي المحتلة بشرق ألمانيا. وتدوّن إحداها في 20 يناير/ كانون الثاني -1942 تاريخ مؤتمر وانسي الذي وضع أسس الهولوكوست- عن الحاجة إلى “مكان في الشرق حيث يمكن لهؤلاء اليهود رعاية أنفسهم”. بابتذالها. واستدرك: “لكن بعد ذلك يأتي السؤال، الذي يتكرر تقريباً دون توقف: ما الذي سنفعله باليهود؟
كان هذا في عامي 1942 و1943، السنتين اللتين شهدتا بعضاً من أسوأ سياسات القتل الجماعي في أوروبا”. وقد استخدم المتطرفون مثل ديفيد إيرفينغ، ُمنِكر الهولوكوست البريطاني، اليوميات لدعم حججهم. واستبعد فونك أن يؤدي نشر النص بأكمله إلى بث حياة جديدة في نظريات المؤامرة. وقال: “هذا مبتذل للغاية، وجنون تام”.
لكن أخبار يوميات هتلر المزيفة مازالت تقض مضاجع التاريخ والباحثين الذين يتتبعون مصائرها بعد أن أخرجت من “خزانة السموم” إذ تقرر تسليمها إلى الأرشيف الاتحادي الألماني خلال العام الحالي لتصبح متاحة هناك، وفقاً لما أعلنته مجموعة برتلسمان والأرشيف معاً اليوم في نيسان / أبريل الماضي، وقال رئيس الأرشيف الاتحادي الألماني ميشائيل هولمان أن الوثائق سيتم حفظها بشكل دائم في مقر الأرشيف في مدينة كوبلنتس وستصبح متاحة في إطار التفويض القانوني للأرشيف.
في المحصلة وكما قال هولمان، فإن هذه المذكرات المزيفة كانت ” محاولة وقحة لإعطاء لمسة إنسانية للجرائم الوحشية للنازية، وجدت صدى داخل المجتمع في أعوام الثمانينيات”.
وإذا كان بلداً متقدماً ويحترم تاريخه مثل ألمانيا، قد استطاع أن يحمي المجتمع والذاكرة الوطنية من عملية التزوير هذه، إذ قام بكشفها وإخضاعها للتحليل الجنائي، ووضعها مبكراً في خانة الخدع والتضليل، فما مصير الكثير من المذكرات واليوميات العربية لكثير من الحكام والسياسيين والمسؤولين التي كانت مليئة بالأكاذيب الفاقعة والتي لا يتصور وقاحتها عقل، رغم أنها كتبت بيد أصحابها؟!
خاص- العربي القديم