من أغلق أورينت؟ ومن هي الدولة التي مارست الضغوط؟
كتب محمد منصور:
مازال أنصار قناة أورينت وخصومها، يتراشقون التهم حول من يقف وراء دفع مالك القناة رجل الأعمال السوري غسان عبود لإغلاقها، ومن هي الدولة أو الجهة التي مارست الضغوط عليه من أجل إصدار قراره المفاجئ، وما هي الأسباب… وخصوصا بعد صدور بيان باسم أورينت، لم يذكر أسباب الإغلاق بصراحة ووضوح، مكتفيا بالقول إن أورينت: “تواجه اليوم ظرفاً مختلفاً – يضيق المقام بذكره – لم يعُد يتعلق بمقارعة الإعلام بالإعلام، بل بات يتعلق باستحالة استمرارها جملةً وتفصيلاً”.
والواقع ان “ما يضيق المقام بذكره” ليس ضيق مساحة نشر، أو انعدام مساحة بث على وسائل التواصل الاجتماعي ذات البث المجاني المفتوح، وإنما هو ضيق من قول الحقائق التي يعرفها من تلقى “تلك الضغوطات” ومن تلقى الإيعاز بتنفيذها. لكن أيا تكن أسباب الإحجام عن قول هذه الحقيقة، وإصدار بيان يفسر الماء بعد جهده بالماء، فإن من المفيد أن نستعرض هنا أبرز الروايات التي زعم أصحابها أنها كانت سبب إغلاق القناة، ومن هي الدول المتهمة بذلك:
- الضغوط تركية بسبب دفاعها عن السوريين!
ذهب فريق من المحللين المقربين من خط الإمارات إلى القول إن الضغوط التي أدت إلى إغلاق القناة تركية، وكتبت صحيفة (العرب) اللندنية، الممولة إماراتياً، على سبيل المثال: “يعتقد محللون أن ضغوطات تركية تقف وراء إغلاق القناة بسبب مواقفها المناهضة لمروجي خطاب الكراهية ضد اللاجئين السوريين، فضلا عن انتقادها لحملات الترحيل التي تصاعدت عقب الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة بحق السوريين. وسبق أن أثار اعتقال السلطات التركية لمدير قناة “أورينت” وإعلامي فيها في مارس الماضي بعد قيام الأخير بطرد ضيف تركي على الهواء مباشرة خلال بث برنامج “تفاصيل”، جدلا إعلاميا واسعا”.
لكن يعرف حتى العاملين في القناة، أنه ليست هناك أية صلات بين مالك القناة وتركيا، وأن قرار الإغلاق التركي عندما يصدر، سينفذ على رؤوس الأشهاد، وقد حدث وأغلقت السلطات التركية قنوات محلية معارضة، وتم إغلاق المباني وختمها بالشمع الأحمر من قبل الجهات المختصة. وبالتالي لا تبدو فرضية الضغوط التركية مقنعة بالنسبة لمن يعرفون واقع الحال داخل تركيا.
2. الضغوط إسرائيلية بسبب الحرب على غزة
“أورينت أغلقت قسراً بسبب وقوفها مع غزة وضد إسرائيل.. 100 شاب خسروا عملهم لأجل مواقفهم من غزة وفلسطين” هكذا كتب الصحفي ماجد عبد النور على صفحته على منصة (إكس)، وقد أعاد نشر هذه التدوينه الصحفي عقيل حسين، المتعاون مع قناة أورينت. التدوينة إياها جاء ردا على زعم ناشطة فلسطينية تدعى (جفرا) أن أورينت أغلقت بسبب تطبيعها مع إسرائيل، وأرفقت زعمها بصورة لمديرة مكتب واشنطن السابقة في أورينت، المذيعة هيفي بوظو، بصحبة أحد الإسرائيليين، مع العلم أن بوظو تركت العمل بالقناة بعد إغلاق مكتب واشنطن منذ عام 2020.
إذا وفيما يتعلق باتهام إسرائيل، وكون جسمها “لبيّس” كالعادة، فأورينت أغلقت مرة بسبب علاقة مالكها وبعض موظفيها مع إسرائيل، وأخرى بسبب فضحها لجرائم إسرائيل خلال الحرب الأخيرة على غزة، وهو أمر نقله لي أصدقاء مقيمون في الإمارات، حيث يقول لهم مالك أورينت أن أصدقاءه الإسرائيليين غاضبين من تغطية أورينت للحرب على غزة. ومع التأكيد أن أورينت غطت الحرب على غزة بالمنطق الوطني والإنساني السليم، إلا أنها – كما يعرف الجميع – لم تكن استثناء بين وسائل الإعلام العربية، ورغم انحراف (العربية) و(سكاي نيوز)، إلا أن الغالبية العظمى من وسائل الإعلام الأخرى بما فيها المصرية واللبنانية كانت تغطيتها تصب باتجاه السواد الأعظم.. فهل يصح أن تمارس إسرائيل الضغط على كل هؤلاء… وهي معتادة على هذا النوع من التغطيات في وسائل الإعلام العربية؟!
3. الضغوط إماراتية.. والشكوى من نظام الأسد
ذهبت معظم وسائل الإعلام الممولة أو المقربة من قطر، والتي غطت خبر إغلاق اورينت إلى أن مصدر الضغوط التي دفعت لإغلاق أورينت، هي إماراتية، وشخصيا سئلت هذا السؤال في المقابلة التي أجراها معي موقع (عربي 21) الممول قطريا، لكنني استبعدتُ ذلك، إذ أن أورينت كانت على الدوام تتحاشى الشأن الإماراتي في أخبارها وبرامجها، معتبرة أن اهتمامها هو الملف السوري وما يتصل به، أو يصدر ويتفرع عنه من مواقف. ولذلك وقعت القناة بحرج شديد مع أنصارها وخصومها معا، حين تجاهلت مسار التطبيع الإماراتي مع نظام الأسد، وهو أمر لم تفعله مع دول أخرى. لكنني علمت مؤخرا من إعلامي عربي شهير مقيم في الإمارات، أن قرار إغلاق اورينت جاء على خلفية ضغوط إماراتية بالفعل صدرت عن سلطات أبوظبي حصراً وأبلغت للمالك مباشرة، وأن الشكوى جاءت هذه المرة من نظام الأسد بسبب شطط القناة في استخدام مصطلحات هجائية صبيانية لوصف بشار الأسد، من قبيل: “تاجر المخدرات” و”زعيم الحشاشين”، معتبرين أن هناك جانباً من المسؤولية تقع على دولة الإمارات في تشجيع هذا السلوك، باعتبار أن مالك القناة يقيم على الأراضي الإماراتية.
4- القرار فردي والضغوط أكذوبة!
ثمة من رأى أن قرار إغلاق أورينت جاء كقرار فردي من قبل مالك القناة الذي لم تعد تحقق له ما كان يريده منها على الصعيد الشخصي، وخصوصا بعد انكفاء سجالاته التي كان يخوضها على مواقع التواصل الاجتماعي، ويزعم هؤلاء أنه لم تكن هناك ضغوطات ولا من يحزنون. لكن بالطبع لا يمكن أخذ هذا الرأي على محمل الجد كثيراً، وخصوصا بعد بيان القناة الذي أكد أنها تعرضت لضغوط وإن لم يفصح عن مصدرها.
السقوط في امتحان الشفافية الأخير
بعيدا عن أسباب الإغلاق ومصادر الضغوط لابد من القول إن قرار إغلاق القناة خسارة للإعلام السوري الحر وللسوريين بمختلف مشاربهم. حتى الذين يناصبون القناة العداء ويمقتون خطابها الإعلامي ويصفونه بالمتشنج والطائفي، سيشعرون أنهم فقدوا شيئاً أو عدواً يأنسون وجوده. ومهما كانت الملاحظات على أداء وخطاب القناة وما قيل من مزاعم عن انحدار مستواها وتحولها لمنصة أخبار عاجلة وإعادة انتاج واجترار متداولات السوشال ميديا، إلا أنها كانت خلال سنوات من عمرها تقبض على جمر الثورة بإيمان واقتناع ودفعت أثمان من أجل ذلك، وللأمانة لم تكن كل الأثمان من رصيد مالكها على الدوام، أحيانا كانت من رصيد الموظفين أنفسهم ومن أعمارهم. وكانت أورينت تخاطب مشاهديها بصدق وشفافية إلى حد كبير، وتوفر لهم مساحة لإيصال الصوت والتعبير عن الرأي، مهما كان مخالفا لرأي مالكها أو إدارتها، لكن المؤسف أن تسقط أورينت في إمتحان الصدق والشفافية حين تصل إلى نهاية مشوارها فلا تعلن عن أسباب إيقاف مسيرتها الحقيقية، وأقتبس هنا ما ماقله أحد الصحفيين العاملين في القناة لموقع عربي 21: “أشار الصحفي الذي اختار عدم ذكره اسمه، إلى أن إدارة القناة السورية لم تكن واضحة مع الموظفين حول أسباب إغلاقها المفاجئ، مستبعدا أن تكون الدوافع مادية”.
أخيرا وبعيدا عن مشاعر الحزن والأسىى التي انتابت الكثير من السوريين إزاء إغلاق اورينت، فلا بد من الاعتراف بأن للمؤسسات الإعلامية أعمار وأقدار مثل أعمار وأقدار البشر، فهي تتأثر بتغير الظروف، وتبدل مسارات الأحداث الكبرى، والتحالفات السياسية حتى لو لم تكن طرفا فيها. وسبق للإعلام العربي أن خسر صحفا ومجلات ومحطات إذاعية كانت منارات رأي وحرية في زمنها، فانتهت إلى رواية تحكى في سجلات الإعلام وتاريخه. وإذا كان قدر أورينت أن تتوقف الآن، فلأن هناك من شاء أن يرضخ للضغوط، أو رأى أن هذه الصغوط صارت أكبر وأقوى منه، وأصعب من أن يفصح عنها، متعمداً إلهاء الناس بالتكهن بأسباب غير حقيقية.
لكن على السوريين أن يجدوا وسائل وبدائل لإيصال صوتهم، كلما اشتدت الضغوط عليهم. وليس كافيا أن نركن لمقولة أن الإعلام الثوري مستهدف الآن، وكأننا لا نعرف أن قدر كل إعلام يريد أن يقول الحقيقة أن يكون مستهدفا. وقدر أبنائه الشجعان ألا يصمتوا أيضا، إذا أرادوا أن يكونوا جديرين بمهنتهم ورسالتهم وكتابة شهادة حق عن زمنهم.