أرشيف المجلة الشهرية

خبز نزار الشعري

العربي القديم- محمد طه العثمان

“الشعر رقص باللغة… رقص بكل أجزاء النفس، وبكل خلجاتها الواعية واللاواعية، وبكل أحلامها، الشعراء يؤدون رقصة متوحشة، يتخطى فيها الراقص جسده، ويتجاوز الإيقاع الموضوع، ليصبح هو نفسه إيقاعاً”. هكذا يرى نزار قبّاني الشعر، وبهذه الرؤيا يعجن مفرداته، ليضيف إلى هذا العالم ظواهر جمالية وأسلوبية جديدة. على الرغم من التباين الواضح في آراء النقاد والباحثين حول شعره، إلا أن شعرية نزار لا يختلف عليها اثنان، والحداثة التي قدّمها  متأصلة، والخلق المجازي مكتنز، مما جعل شعره يمتاز بسمات فريدة ظهرت من خلال عمق الطرح، وسلاسة التعبير، والتحام الشكل والأسلوب مع المضمون.

وما يؤكد لنا هذا، حين تخرج القصيدة، وتنسكب على بياض الورق هو قوله:

“أجنحتي تضرب بعضها… وريشي يتناثر… وأعرق… وأعرق… لأتمزق… وتخرج القصيدة من جسدي، كما يخرج السهم الناري… أنا أتلقى الزلزال مستسلماً ومدهوشاً.. وأخرج من تحت رمادي وخرائبي.. ولا أدري ما حصل.. الشعر إنه هجمة مباغتة”.

 أكثر ما يميز نزار عن غيره من شعراء القرن الماضي أنه عرف سر الوصول، حين جعل شعره يحاكي ذوات الناس في عالمنا العربي المقموع، وعبّر عن كل مكنوناتكم ومشاعرهم ونكباتهم، في الحب والدين والسياسية، فجمع شعره بين الفرادة والجرأة في الطرح مع الوصولية، فدعّمه بهيكل قوي وإيقاع مميز، متجنباً التعقيد والغموض، مما جعله مميزاً ومتداولاً واسعاً بين القرّاء والجماهير، فانتشر على ألسنة العامة قبل النخبة، فسعى إليه المطربون والملحنون الذين اعتمدوا على قصائده في الغناء والإنشاد.

شعر نزار مليء بالظواهر الأسلوبية مثل الانزياح بأنواعه المختلفة (الدلالي والتركيبي والإيقاعي)، وكذلك التناص بأشكاله المتنوعة، واستخدام الرموز الفنية، والتصوير التشاركي، وصدق القضايا المطروحة، وملامستها لمشاعر المتلقين.

فكل قارئ يصيب حاجته منه، ونصه متعدد المستويات في القراءة، ومفتوح الدلالات مع كل قراءة، فالقارئ البسيط يقع على ما في نفسه من هذا النص أو ذاك، والقارئ الأكاديمي يبحر في تحليل كنوزه الخفية، فيجد منها الكثير الكثير. لقد جعل نزار الشعر ركناً أساسيّاً في حياتنا وثقافتنا، وقبله كان حكراً على المنتديات والقاعات المغلقة.

إنّ كلّ مفردة من مفردات أغلب نصوصه التشاركية تحمل شحنات من الانفعال تجعلها تطريباً يسيطر على كل جوارح الإنسان، فتحيله إلى غيبوبة، أو شبه غيبوبة، وقد وضح مراراً عن سر هذه الطاقة المتجددة في كلامه، فنراه يقول عن ذلك: “الطبع هو الشرارة الأولى، والصنعة هي مولد الكهرباء الذي لا بد من تزويده بالطاقة الثقافية، ليستمر في العمل”.

وهنا أتذكر المساجلة النقدية التي حصلت بيني، وبين الناقد العراقي حسان الحديثي، حول قصيدة (في مدخل الحمراء)، حيث هاجم الحديثي هذه القصيدة، واعتبر سبب شهرتها هو الأبعاد العاطفية للإنسان العربي، والبعد التاريخي لقصر الحمراء، وما يمثله من أثر عظيم في نفس كل عربي، بعد أن ضاع ذلك المجد، ورأى أن القصيدة فيها الكثير من الهنات، ويومها دارت المساجلة، حول الهنات التي ذكرها الحديثي، لتكون هي برأيي عناصر القوة في القصيدة، وسأذكر واحدة من هذه المساجلة[1]:

يقول الحديثي: “فاجأنا نزار في هذه القصيدة بوصف شعر فاتنته الجميلة مرة أخرى، ولكن هذه المرة يقول عنه “كسنابلٍ تركت بغير حصادِ”،  وهذه كناية عن لون الشعر الذهبي الذي كان قد وصفه للتو بأنه “نهر سواد”، حين قال “ودمشق أين تكون..؟ قلت ترينها ….. في شعركِ المنساب نهرَ سوادِ”  فأوقع نفسه بين تشبيهين متناقضين، مما أفسد على القارئ جمال وعذوبة ما قاله آنفاً، حين قال “سارت معي والشعر يلهث خلفها … كسنابـل تركـت بغيـر حصادِ”، ولا أظن أن هناك سنابلَ بلون أسود، إلا إذا كانت محترقة لا نفع فيها، كما لا تصلح للوصف والتشبيه”.

فكان ردي على تعليقه السابق: “إننا بقراءة بسيطة للبيت نجد أن نزاراً لم يتناقض نهائياً، فالمقصد من البيت الأخير واضح جداً، هو يريد أن يظهر كثافة هذا الشعر وغزارته وخصوبته، هو لم يلمح، أو يشير نهائياً إلى اللون أو غير ذلك، فقرينة المقاربة واضحة جداً، ومهد لها بشكل ذكي جداً، بل أوحى إلى الغزارة بشكل صريح، من خلال الجملة الأولى “الشَّعْر يلهث خلفها”، وهذه دلالة وإشارة واضحة على المعنى المراد بقصده  “تركت بغير حصاد” ، ولا علاقة للون هنا بأي قصد مراد).

نزار، وإن كان لا يرمز، أو يستعمل الصور بشكل كبير في اشتغاله الشعري، لكنه يعوض كل فنيات القصيدة الجمالية باشتغالات أخرى كالدرامية، واللقطات السينمائية، والإيقاع المنساب والفكرة الجديدة، وسأوضح هذه النقطة بهذا الشاهد، من قصيدة (مرثاة قطة) وهو مثال يعبر بقوة عما أذهب إليه، يقول فيه نزار قباني:

  عرفتك صوتاً ليس يسمع صوته               وثغــــراً خجولاً  كان يخشى المُقـبّلا

  فأين مضت تلـــــك العذوبة كلها                وكيف مضى الماضي وكيف تبدلا..؟

 توحشتِ حتى صرتِ قطة شارع                وكنــتِ على صـــدري تحومــينَ بلْبلا

   النقطة الأولى التي ارتكزت عليها درامية هذه الأبيات هي المفارقات، حين استثمرت بؤرة التحول ثم التضاد، فوصلت بهذا المشهد للتصادم، خلال المفارقة بين  الماضي والحاضر، وخلق مساحات للحدث، من خلال تطور التبدلات من حالها القديمة إلى وضعها الجديد.

 في هذا النص تنحرف اللغة عن قوانين اللغة العادية، محاولة تمويه الرسالة القصدية على القارئ، فلا تكون اللغة لغة خطابية تقريرية، ولا يصعّد نزار قباني فيها علاقاته إلى درجة التكثيف العالي، فمهمّته ارتكزت على نفي الانحراف اللغوي والبياني المكثف وصولاً بالقارئ إلى الدلالة التي يريدها فقط، كما في قوله: “عرفتكِ صوتاً ليس يسمع صوته”، فهو يريد أن ينبّه على عفّتها وخجلها، لذلك اعتمد على المجاز، فهي ليست صوتاً، لكن هذا الصوت هو بعض من كينونتها، أما ظلال هذه الصورة، فجاءت من خلال جعل الصوت كائناً لا يسمع نفسه، فقدّم من خلال هذه الدلالة مطابقة إيحائية قائمة على القصد والتوصيل؛ حيث إنها امرأة عرفها خجولة حييّة، وطعّمها بصورة فنية ذات ظلال وفيرة، من خلال خلق مشهد فني؛ إذ جعل هذا الصوت لا يسمع نفسه .

وعلى الرغم من ذلك نرى أن نص نزار قباني، في الوقت الذي تسعى فيه اللغة الأولى للقصدية، يتراجع هذا القصد إلى وراء اللغة الشعرية، كما في قوله: “فأين مضت تلـــــك العذوبة كلهــا”8، حيث جاءت بنية (العذوبة)، لتخلخل مستوى القصد إلى مستوى الشعرية، فهي كانت كالماء الزلال رائقة شهية طازجة، أما الآن فلقد خلع عنها صفات البراءة والحياء، حين أمست الآن امرأة طعمها آسن حنظل.

ونلحظ أن استخدام الاستفهام الاستنكاري خلق بؤرة ـــ ولو ضيقت ــــ في ارتفاع الوقع الدرامي، مع بُنى التضاد التي خلقتها الصورة من تلقاء نفسها، من حيث انسجام البنيات في جملة مفيدة في معناها ومبناها،(بعدما كانت شهية عذبة، أصبحت آسنة أجاجاً).

إذاً، إن طبيعة لغة الشعر في هذا المستوى تعتمد المفارقة، إذ تلعبُ فيها ظلالُ الدلالات دوراً كبيراً بالقدر الذي تلعبه الدلالات المحددة، مختلفة في ذلك مع اللغة العلمية التي تجمد الألفاظ في حدود دلالاتها المعجمية الخاصة، “فالشاعر يميل على النقيض من ذلك إلى تفتيت الألفاظ التي تعطل دلالات بعضها بعض، حتى تنتهك حدود معانيها المعجمية خالقة تراكيب لغوية خاصة تنجح في نقل الإحساس الدقيق للشاعر، لكن استقلالية لغة الشعر عن اللغة المعيارية، بنظامها الخاص على المستوى التركيبي والمعجمي لا ينفي تأثير كل منهما في الآخر، وهذا ما يؤكده قول قباني:

        توحشتِ حتى صرتِ قطة شارع      وكنــتِ على صدري تحومينَ بلْبلا

لقد منح الشاعر لحبيبته تعددية في الوصف والتشبيه، للدلالة على براعته في توظيف اللغة، حتى تستطيع الصور استيعاب التراكم التصويري الذي يصب في مركبة واحدة هي دائرة وصف الحبيبة.  فهذا التحول في وصفه لها كان محبّباً، حيث جعل مسافة زمنية بين هذا التحول، ليكون التحول إلى النقيض، فالقطة المتوحشة هي التي تكبر في الشوارع والأزقة، ولا تجد من يرعاها، على عكس قطط المنزل التي تكون عادة أليفة، فقد تقصد ألا يقارن بتحول عادي، من قطة أليفة إلى قطة شارع، بل من بلبل إلى قطة متوحشة، وهنا تكمن قوة المفارقة، في إيصال القصد، ولذلك نجد الانحراف أحياناً يتصعد من خلال اللغة القصدية، إذا كان الشاعر ماهراً بذلك، فــ(موكاروفسكي) يعتبر “أن اللغة المعيارية تُعد الخلفية التي تعكسُ الانحراف الجمالي المتعمد للغة الشعرية، وعليه يعد وجود الأخيرة مرتبطاً بوجود اللغة المعيارية”.

هامش:

  •    عنوان المقال (العثمان: هذا هو ردي على نقد الحديثي لقصيدة (غرناطة) لنزار قباني،  http://www.alapn.co/ar/?p=12444

___________________________

من مقالات العدد السادس من مجلة (العربي القديم) الخاص بالذكرى المئوية لميلاد نزار قباني – كانون الأول/ ديسمبر 2023


 

زر الذهاب إلى الأعلى