بصمات | وأخيراً تنتشي بما كتبت
د. علي حافظ
أحياناً تمر أيام طويلة دون أن تكتب.. تفكر ملياً، وتعصر مخك عشرات المرات محاولاً أن تخرج شيئاً له قيمة أدبية وفنية، لكن دون جدوى!
تحاول مرة أخرى، لكن لا تستطيع. تشعر أن رأسك مخدر، وأنك تحولت إلى مجرد جذع شجرة يابس تجره المياه العذبة إلى خارج الغابة، ليرمى على شاطئ أحد البحار المالحة كسقط المتاع!
يتبادر إلى ذهنك بعض الأسئلة المحبطة: هل نضب نبعك؟ هل أصبحت عاقراً؟ هل فقدت جوهرك؟ هل فاتك القطار؟ هل تجاوزك الشغف؟ هل حان وقت الانسحاب وترك المكان للآخرين المتخمين بمصادرة كل مساحات الأوكسجين الممكنة؟ هل عليك أن تُدفن قبل حلول الميعاد؟ هل تُسلّم نفسك أخيراً لليأس لا لغيره؟ ألم تكتمل دورة المغادرة؟
تستل كتاباً من مكتبتك.. تتصفحه بسرعة ثم تغلق دفتيه.. تفتح هاتفك الخليوي، وتتطلع على ما يعرضه عليك “موقع غوغل” من خيارات للاطلاع والمتابعة.. يوقفك عنوان مغر للشاعر منذر مصري في خاطرته “تعال إلى سورية… تعال زُرْ قبرَ أمّك”. تفتحه معزياً نفسك بالقراءة بعض الشيء:
“في الحقيقة، هذه الأيام أكتب شعراً، من دون كثير اعتناء، وأيضاً من دون كثير متعة! أي شيء يساعدني على عبور هذا الليل، هذا النفق الطويل المعتم، جيد كفاية بالنسبة لي. نعم، ذهبت أيام المتعة في الكتابة، ذهبت أيام الانتشاء بالكلمات والصور والأفكار، وجاءت أيام الكرب، أيام وليالي الحفر! لا تسألني حفر ماذا؟ قلت لك: “أهل الحفرة عملهم الحفر”! اسألني: “كيف يمكن لشاعر أن يكتب شعراً يمتع الآخرين ويفرحهم، وهو نفسه، يفتقد متعة أنه يكتب، وفرح أنه يحيا!”
تجد مبرراً ولو لحين، لكنك تضيع معرفتك في كيفية تفسير صعوبة ولادة الفكرة، في بعض اللحظات، من رحم العقل حتى تكون قيمة ثابتة على الورق، وإلا ستبقى مجرد نطفة ضائعة في دَهاليزُه!
تنهض من مكانك.. تجوب الغرفة ذهاباً وإياباً.. تخرج منها لتجوب كل البيت. تقف أمام المرآة. تنظر إليها بعمق محاولاً استرجاع أبعادك الغارقة في الغياب، سرعان ما تهرب بعد رؤيتها لأفكارك العارية.. تمسك بها ما تلبث أن تظهر عليها آنا أخماتوفا. تنظر إليّك بعينين حمراواين من كثرة السهر والأرق والعذاب، ومن ثم تسألك:
“ماذا سأترك لك كتذكار؟
ظلي؟ ماذا ستفعل بظلي؟
إهداءً لمسرحية أحرقتها وتلاشى رمادها؟
أو هذه الصورة الفظيعة للعام الجديد
التي تخرج الآن من إطارها؟
أو الارتعاشة الخافتة لشجر البتولا في الزوايا الضالة؟”
تمد يدك محاولاً لمس ذراعها البلوري، لكن برودة المرآة ترجعك إلى بدايتك الهلامية.. تشعر بالخوف من كونك ظل إنسان يمتلك أفق لا يمكن رؤية أبعاده، والآن لا شيء!
كيف لك أنت الذي اعتقدت في مرحلة مبكرة من عمرك أنك تستطيع تغيير العالم بكتاباتك البائسة تقف اليوم عاجزاً عن كتابة شيء ما تستطيع تغيير ماهيتك به؟
تلوم حالك، وتشعر بالانزعاج الشديد من ضياع الوقت سدى.. تبدأ بالعيش على هامش الحياة.. يخطر ببالك بيت من أشعار بابلو نيرودا:
“أتعلم حسناء كراكاس كم تنورة هناك لدى الوردة؟”
تردده هكذا عدة مرات دون أن تلاحظ أي تغيير في مجرتك المهملة.. تدخل بوابة أحزانك الأسطورية.. تتذكر كيف أنك لم تستطع العيش كما تريد.. تتألم على ضياع الأشياء الجميلة في حياتك، وموت أقرب الأصدقاء، وفقدانك من أحببت…
هل يجب أن تكون حزيناً لتكتب؟ ربما، لأن المرء “لا يمكن أن يكون عميق الاستجابة للعالم دون أن يكون حزيناً” – حسبما رأى إريك فروم!
فجأة، ودون أن تدري يبدأ رأسك بالدوران عن الأفكار ليلتقطها، ومن ثم تأخذ درجة حرارته ترتفع حتى الغليان.. تحبس أنفاسك، ثم تنهض من مكانك ولا تستطيع الوقوف أو الجلوس في مكان معين. تركض بأسرع ما يمكن إلى أول ورقة وقلم على طاولتك لتبدأ رحلتك مع الجنون… تكتب وتكتب… ولا تنتهي.. تأخذ ورقة ورقتين خمسة، عشرة…
وأخيراً تنتشي بما كتبت.. تشعر بالسعادة الغامرة لأنك ما زلت قادراً على السير مرة أخرى على الهواء… تعود روحك رويداً رويداً إلى الهدوء والسكينة، وتشعر بأنك جاهز للرحيل رغم أنك لم تعش حياتك حتى النهاية.
أجل، هناك دائماً مراحل لكل شيء: للحزن، للكآبة، للفرح، للحياة.