نواعير حماة تعّن...عنينها شغل بالي
كتب عدنان عبد الرزاق
ربما من الأسئلة الصعبة، إن لم نقل صعبة ومستحيلة الإجابة، وهي:
ما الدور الوظيفي الموكل لعائلة الأسد بسوريا، ومتى يمكن أن تنتهي هاتيك المَهمة؛ ليقتنع صنّاع الساسة والرؤساء، في الغرب، ويتخذوا قرار “إسقاط الرئيس”، أو على الأقل، عدم الوقوف بوجه الشعب السوري، وتطلعاته للحرية، والكرامة والعيش الآدمي؛ لأن السوريين، ولولا وقوف “الديمقراطيين بالغرب” بوجه حلمهم، وإن بالوكالة، لأسقطوا الأسد منذ عام 2012. وليس بذلك أية مبالغة، لطالما شهد العالم تصميم السوريين وتضحيتهم لنيل المواطنة، والخروج عن وصمة “الرعايا ومزرعة الأسد”، قبل تدخل كارهي الحرية، ومؤيدي الاستبداد، بإيران ومن ثم بروسيا…وتباركهم واشنطن.
بدأنا بهذا السؤال الموجع؛ لأننا نرى طرب العالم وارتياحه، لتدمير سوريا، شعباً وأرضاً، حاضراً وتاريخاً، ومستقبلاً، بل نخر سوس عصابة الأسد الإنسان السوري، فتبدلت ملامحه وأفعاله، وتنازل جلّه للأسف، عمّا تفاخر به عبر العصور، من كرامة ورجولة وتضحية لنيل الحقوق، فرأينا استكانة من بقي بالداخل، وإن صمت بعضهم موضع أخذ ورد، بعد أن رأوا من ثار وتمرد على القطيعية والاستبداد والمذلة.
وسألنا عن نهاية هذه الحقبة الذليلة، لأننا نرى تشويه سوريا بموافقة ومباركة دولية يتعاظم، ولعل التغيير الديموغرافي وتبديل هوية البلد، بعد بيع ورهن الأراضي والثروات وحتى التاريخ، للوافدين الجدد من نكوصيي إمبراطورية فارس، دليل واضح على المخاطر التي تحيق بسوريا المستقبل، ويمكن أن تودي بها إلى التلاشي.
لن نكبر الحجر، فنأتي على ما يصعب إثباته، أو يدخلنا بجدليات البيضة والدجاجة، علنا نصيب عين الهدف بمثال صغير له من الدلالات، ما يمكن أن يوصلنا لغاية هذي العصابة الغريبة عن شعب سوريا وأصالته، بل والمعادية- وفق أدلة تمتد لخمسين عاماً، أفقعها ما بعد ثورة السوريين- للسوري والعربي…وربما أكثر.
ومثالنا على حقد هذه العصابة وكراهيتها، لكل ما على الأرض السورية، هو نواعير حماة. ذاك المَعلَم الممتد إلى ما قبل القرن الرابع قبل الميلاد، بحسب الفسيفساء المرمية، بحديقة المتحف الوطني بدمشق، أو وفق ما أرّخ ابن جبير، وتبعه ابن بطوطة، أو ما كتبه المؤرخ وملك حماة، أبو الفداء، عن المدينة والنواعير. وكل ذلك، قبل التأريخ الحديث، وما قيل وكتب عن ترميم النواعير، خلال الفترة السلجوقية “الأتابكة، والزنكيين، والأيوبيين” بعد الزلزال المدمر.
ولطالما أنهينا الحقب القديمة بزلزال، لا ضير أن نبدأ حقبة عصابة الأسد، وتعاطيها مع نواعير حماة، أيضاً منذ الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا عام 2023 وأتى فيما أتى بحماة، على 45 مَعلماً تاريخياً، منها قصر العظم والنواعير، فأهملتها عصابة الأسد، دونما ترميم حتى اليوم، متذرعة بتبريرات مثيرة للضحك المؤلم، بعد أن صُبت مساعدات الزلزال بأرصدة العصابة وتركوا النواعير تئن.
والعارف بنواعير حماة، يوقن أن ناعورة البشريات، بعد تهديم ناعورة “المأمورية” ببستان “أبو درة”، وتصدع وخسارة ناعورة” المحمدية” هي الأمل والأكبر التي تحافظ على أحد أهم معالم حماة.
وهذه التحفة “البشريات”، والتي تطلق على ناعورتين، الكبرى بقطر 19 متراً وتحوي 120 صندوقاً، أما الصغرى فقطرها 13 متراً، وتحوي 80 صندوقاً، تأثرتا بكارثة زلزال 6 شباط 2023، بعد تعرضهما لتشققات واضحة في الحجارة والأقواس، وأحد جدران البشريات الكبرى، تعرض لميول ويُخشى من هبوطه.
فماذا برأيكم فعل نظام الأسد إزاء تهديد هذه التحفة؟!
أول ردة فعل، تدلل بشكل أو بآخر، على الحقد والإهمال، كان ادعاء دائرة الآثار بمدينة حماة، بعد الإملاء “من فوق”: إنه لا توجد موازنة مخصصة، وعلى مستثمر مطعم “الأربع نواعير” مهمة ترميم البشريات، “وستدعمه دائرة الآثار بالموافقات والإشراف”.
أو ليجمع أهل حماة، ومحبو النواعير والآثار تبرعات، كما فعلوا عام 2009، قبل الثورة، ليرمموا “البشريات”.
كما يمكن لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو” أن تتدخل.
وفعلاً، هذا ما حدث، فلبى سوريون في الخارج، بعد استغاثة “اليونسكو”، وبدأ الترميم ب”البشريات” ليكملوا ترميمات الدائرة الخارجية التي بدأت عام 2009، قبل أن يتأثر الجدار الحامل وتتعمّق التشققات، عند تقاطع وتلاقي برج الناعورة مع القناطر الحجرية.
قصارى القول: ليس من المنطق إبعاد تراجع منسوب نهر العاصي، وتكرر حالات شح المياه والجفاف التي تؤثر على النواعير، وتقتضي إعادة الترميم والكشف كل حين، لكن المنطق كله بالإشارة إلى تراجع عدد النواعير، إذ تشير المراجع أنه وحتى مطلع القرن العشرين، كان عدد النواعير في مدينة حماة والأراضي التابعة لها 105 نواعير منها 25 داخل مدينة حماة، ولم يعد يوجد اليوم من كل هذه النواعير إلا حوالي 40 ناعورة، في حالة العمل منها، داخل المدينة 25 ناعورة تنتظم في خمس مجموعات.
مجموعة البشريات: تقع في مدخل حماة من جهة الشرق، وتضم أربع نواعير، وهي تتكون من مجموعتين فرعيتين، كل منهما يتكون من ناعورتين هما البشريتان والعثمانيتان.
مجموعة الجسريات: وهي تتكون من أربع نواعير أيضاً”، وهي ناعورة الجسرية، والمأمورية، والمؤيدية، والعثمانية، وهي من أجمل النواعير في العالم.
مجموعة الكيلانيات: وهي تتألف من أربع نواعير أيضاً، ثلاث منها على الضفة اليسرى، وواحدة فقط على الضفة اليمنى، وتحمل الأسماء التالية الجعبرية، والطوافرة، والكيلانية.
مجموعة شمال القلعة: تقع في محلّة باب الجسر على الطرف الشمالي لقلعة حماة، وهي ثلاث نواعير اثنتان منها على الضفة اليسرى، وواحدة منها على الضفة اليمنى للنهر، وتحمل التسميات التالية: الخضر، والدوالك، والدهشة.
مجموعة باب النهر: وهي تتكون من أربع نواعير، اثنتان منها لا تزالان قيد العمل المحمدية، والقاق، واثنتان أخريان قد أزيلتا من الوجود من قبل حوالي نصف قرن وهما العونية، والبركة.
نهاية القول: حينما تتعمد عصابة الأسد إهمال، وتدمير النواعير الموصوفة بالأهم والأقدم “أروع النواعير على الإطلاق”، وفق وصف وتصنيف اليونسكو، وإدراجها القائمة الدائمة عام 1999، رغم انتشار النواعير بعديد الدول العالمية وإسبانيا بالمقدمة، فالحكاية ثأر ولا وصف آخر، تليه طمس وتشويه هوية تراثية.
وربما لحماة من الحقد والاستهداف لدى عصابة الأسد، ما ليس لغيرها من المدن السورية، فلحماة تراكم ثأرية نمّته حكايا الجدات، قبل انقلاب البعث، ووصول حافظ الأسد للسلطة، ومنها نشطت حركات إسقاط النظام نهاية سبعينيات القرن الماضي، وهناك نفّذ الأسد الأب كبرى مجازره، وقت قتل في شباط 1982 نحو 40 ألف سوري ومثّل، بعد الانتهاكات، بالأطفال والنساء..ومن حماة أيضاً، خرج السكان بقضهم وقضيضهم بداية ثورة عام 2011، قبل أن يعيد سيرة قمع الثمانينات، وتبقى مدينة النواعير، حتى اليوم، جمراً تحت رماد.
وربما أبسط ما يمكن تصوره، من عصابة لا تمت لحضارة السوريين وتاريخهم بصلة، أن تبقي النواعير تئن وتعن بوجع…ليردد السوريون الصدى بألم “سمعت عنين الناعورة..عنينها شغل بالي”.
_____________________________________________
من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024