أرشيف المجلة الشهرية

عن قرب .. رياض الترك وجماعة الإخوان المسلمين

فواز تللو*

تعودت في رثاء أي شخص تجاوز العبارات المكررة المختزلة، مفضلاً ذكر ما يُعرف به، عبر مواقف محددة شهدتها شخصياً، لذلك وعند وفاة “ابن العم”، عرضت في تسجيلين مصورين جوانب من شخصيته كسياسي وكإنسان، بما فيها العلاقة مع عائلته (بناته خاصة)، وكذلك مواقف سياسية شهدتها أمامي أو حدثني عنها، وسأستكمل ذلك في تناول العلاقة بينه، وبين جماعة الإخوان المسلمين السورية، باعتبارها موضوعاً أثير بإشكالية، عند وفاته رحمه الله.

عنونت هذا المقال بـ “عن قرب”؛ نتيجة الفرصة التي أتيحت لي بمجاورة “رياض الترك” رحمه الله في الزنزانة لستة أشهر سبقت تحويلي للمنفردة، حيث وفي غياب أي نشاط متاح لا يبقى لنا إلا الحديث المستمر، وهو أمر نادراً ما أتيح لأحد مع “ابن العم” الذي قضى فترات سجنه السابقة في الزنزانة المنفردة، كما أن لا أحد ممن عرفه خارج المعتقل أتيحت له هذه الفترة المستمرة، دون توقف لستة أشهر  على مدار النهار والليل، بمن فيهم أصدقاؤه وأقرباؤه ورفاق حزبه، يضاف إلى ذلك العلاقة الشخصية الممتازة التي نشأت بيننا؛ نتيجة لعوامل كثيرة سياسية واجتماعية وشخصية، والتي استمرت بشكل وثيق بعد خروجي من المعتقل أوائل عام 2006، عبر لقاءات دورية حتى خروجي من سوريا عام 2012، فكانت نتيجة كل ذلك (خاصة فترة السجن) فرصة لنقاش متعدد الجوانب عن الماضي والحاضر والمستقبل، وعن تاريخه وعلاقاته السياسية، مما يجهله الكثيرون، ممن نعوه وكل ما يعرفونه عنه بضعة مواقف، وبأنه سُجن فترات طويلة، ولفظ عبارة “مات الديكتاتور” التي نزعت من سياقها الخاص والعام، وهو ما سأعرض بعضاً منه فقط (فالمجالس أمانات) في النقاط التالية، مركزاً على ما قيل عن علاقته بجماعة الإخوان المسلمين السورية، ومن ثم الغمز واللمز به؛ بسبب ذلك باتهام ضمني، أو علني له بالطائفية، سواء قبل وفاته أو بعدها:

  • رياض الترك لم يتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين، (وسأشير لها لاحقاً اختصاراً بـ “الجماعة”) في مطلع الثمانينات، لكنه بالمقابل أصدر (مع حزبه) بياناً عام 1981 أدان فيه الحل الأمني رافضاً تبني رواية النظام الكاذبة، واعياً إلى مسار ديموقراطي يخرج البلاد من مأزق سياسي/اجتماعي، كانت قد بدأت إرهاصاته يومها، بعد عقدين من الحكم الاستبدادي الطائفي الذي سبقها، فكان الانفجار بعد ثلاثة عقود لحقتها، وهو موقف لم يناسب حافظ أسد الذي كان يزن الأمور بميزانه الطائفي الحاقد: “من ليس معي فهو ضدي”.
  • علاقة رياض الترك بجماعة الإخوان المسلمين السورية في الخارج، (بعد استئصالها بوحشية طائفية في الداخل)، بدأت مع “إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي”، وهو ما سأشير له لاحقاً مختصراً بـ “الإعلان”، وهي علاقة بدأها الراحل ميشيل كيلو، عبر صياغة هذا الإعلان الذي صدر نهاية عام 2005، بالتشاور مع العديدين في الداخل منهم رياض الترك، ومع الجماعة في الخارج، ليبدأ الجميع بمأسسة “الإعلان” في الداخل كمرحلة أولى بعيداً عن الجماعة غير الموجودة في الداخل، مأسسة للإعلان أنتجت مجلساً وطنياً، وأمانة عامة نهاية عام 2007، وكان الترك أحد المهندسين الأساسيين، ومن ثم تولى قيادة الإعلان، بعد حملة الاعتقالات نهاية عام 2007، وليصبح عملياً صاحب القرار الأساسي وربما الأوحد.
  • تجدر الإشارة إلى أن منتصف عام 2006 شهد تشكيل “جبهة الخلاص الوطني”، بين الجماعة من جهة، ونائب حافظ أسد المنشق عنه عام 2005 عبد الحليم خدام من جهة أخرى، وكان قرار الترك يومها مع آخرين يعملون على مأسسة الإعلان عدم تناول هذا التجمع المعارض سلباً أو إيجاباً، بعد تواصل قيادة الجماعة معه ومع آخرين، (وأنا منهم) بشكل مباشر، أو غير مباشر لعدم إعطاء نظام السفاح الابن فرصة مزايدة.
  • لاحقاً، وفي عامي 2009- 2010 تم التواصل بين رياض الترك والجماعة، من ضمن عديدين في الخارج، وعلى رأسهم د. عبد الرزاق عيد؛ لتشكيل الشق الخارجي من “إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي“، ولتفاصيل كل ما سبق مكان آخر، أما عن علاقته بالجماعة، بعد اندلاع الثورة السورية في المجلس الوطني والائتلاف الوطني، وكل ما بدر من أخطاء من قيادة هذه الكيانات، فلها أيضاً موضع آخر، لكن مع الإشارة إلى أن الجميع، دون استثناء كانوا شركاء في كل الأخطاء الكارثية التي حصلت بكل تلويناتهم وشخوصهم، بمن فيهم شركاؤهم في جماعة الإخوان المسلمين التي يحاول هؤلاء رمي كل الأخطاء عليها.
  • رياض الترك كان يرى سوريا بكل ألوانها ويحترمها، ومن هنا كان موقفه من جماعة الإخوان المسلمين السورية من منطلق ديموقراطي، حيث كان يراه فصيلاً يمثّل سياسياً بعضاً من السوريين، وله الحق في العمل السياسي في ظل دولة ديموقراطية منشودة، لكنّ بعضاً من المعارضة من التيارات الحزبوية اليسارية والقومية فهم موقفه بشكل مشوه، من منطلقهم الإيديولوجي السياسي، وآخرين منهم فهمها طائفية، من منطلقه الطائفي الأقلوي المستتر، وفي الحالتين مثّل هؤلاء نهجاً استئصالياً مطابقاً لنهج النظام الطائفي.
  • في نقاشاتي مع رياض الترك في السجن وبعده كان موقفه واضحاً، بتوصيف النظام الأسدي بالطائفي، كما أنه كان يشير بشكل لا لبس فيه إلى سيطرة الطائفة العلوية على بنى الدولة في سوريا، وهو ما كان يراه خللاً لا يمكن الحديث عن أي تغيير ديموقراطي، دون تصحيحه بشكل جذري، وهو موقف كان يثير بشكل خاص بعض المعارضة من الأقليات، ومن طائفة النظام خاصة، ليلمزوا من قناته متهمين إياه بالطائفية، وهو اتهام بات معروفاً، عند أي توصيف للنظام الأسدي وأتباعه ودوافعهم، اتهام يخفي خلفه دوافع إيديولوجية، أو طائفية معادية للأكثرية فقط بسبب عقيدتها.
  • لم يكن انتماء رياض الترك الطائفي يعنيه، ولم تعنِه المسألة الطائفية في سوريا، إلا من باب تصحيح الخلل الذي لا تكون ديموقراطية بدون تصحيحه، ولا يُبنى مجتمع بوجوده، لذلك لم يكن منحازاً ضد طائفة، أو عقيدة طائفة النظام، بل ضد استخدامها ومشاركتها في تلك الجريمة التي وضعها حافظ أسد وتابعها مَن خلفه، لكنه أيضاً لم يكن معادياً للأكثرية ومعتقدها، ولتيار الإسلام السياسي، ما دام يؤمن بالعملية الديموقراطية والحريات، كحال جماعة الإخوان المسلمين عبر تاريخها في سوريا، في نفس  الوقت الذي يعادي فيه أي تيار إسلامي متطرف.
  •  أخيراً، فإنه من المناسب الإشارة إلى أن جماعة الإخوان المسلمين السورية، عبر تاريخها كانت جزءاً من الحياة السياسية الديموقراطية السورية، مؤمنة بالديموقراطية في فكرها الحزبي، وهو ما ثبت في كل المراحل، حتى بعد تشتت بقاياها خارج سوريا، ولم تشارك يوماً في الانقلابات العسكرية التي كانت من اختصاص التيارات القومية واليسارية التي كانت غطاءً لفكر استبدادي استئصالي، وقناعاً للطائفيين الأقلويين، مع ما جرته تلك الانقلابات من كوارث كانت نتيجتها ما نراه اليوم من دمار لسوريا كمجتمع، وجغرافيا واقتصاد، وإرث حضاري، لذلك فإن رياض الترك، وحزبه اليساري المتنوع طائفياً، المؤمن بالديموقراطية، رافضاً التبعية للاتحاد السوفيتي ونموذجه الاستبدادي؛ مثّل استثناءً فريداً بين تلك التيارات الاستئصالية  القومية واليسارية، مثّل استثناءً بينهم، عبر إيمانه العميق (وحزبه) بالديموقراطية، ومنها تفاصيل علاقته المعلنة، من قبله (لا المفتراة عليه)، مع جماعة الإخوان المسلمين السورية، وهي علاقة كانت دائماً في نطاق، ومن أجل المصلحة الوطنية، من أجل سوريا حرة ديموقراطية لجميع مَن فيها.

بعد أن انتهيت من عرض رؤية الراحل رياض الترك في هذا الموضوع؛ لابد لي في هذا السياق من إبداء رأيي الشخصي، وباختصار في تصوير “الانتماء، أو تأييد أو التعاطف مع جماعة الإخوان المسلمين السورية”، على أنه تهمة مشينة، وفي أقل الأحوال سوءاً استنكار عدم المشاركة في إدانة هذه الجماعة، بادئاً بالتأكيد على أنني لم أكن يوماً ولا أنوي أن أكون عضواً في هذه الجماعة، مع احترامي لمنهجها الفكري وتاريخها:

  • هذه الجماعة كانت جزءاً أصيلاً من تاريخ سوريا الحديث، إبان الفترات الديموقراطية التي انخرطت بها، معتمدة على فهم إسلامي متنور حضاري عصري متجدد رأيناه منذ تأسيسها حتى اليوم، ومرجعيتها الفكرية بمراحلها المتجددة متاحة معلنة لمن يبحث.
  • لم تشارك الجماعة في أي انقلاب عسكري، ولم تتخذ الجيش وسيلة للسلطة، بينما فعل كل من يكيل لها الاتهامات ذلك، وأعني بهم التيارات القومية واليسارية التي قادتنا إلى كارثة انقلاب عام 1963 الطائفي الذي نعيش نتائجه.
  • أما عمل “الطليعة المقاتلة” المنشقة عنها في سبعينات وثمانينات هذا القرن، فعمل مشروع (حتى لو تخلله بعض الأخطاء)، وثبت اليوم أن هذا النظام الطائفي لا يزول إلا بقوة السلاح، علماً بأن الجماعة يومها لم تكن موافقة بدايةً على نهج “الطليعة المقاتلة”.
  • الجماعة انتهت عملياً في سوريا، باستئصال وحشي لها، وعلى أساس طائفي حاقد بحت، من قبل حافظ أسد، ونظامه الطائفي، مفترضاً أنها تمثل الأكثرية المسلمة سياسياً في سوريا التي يعتبرها العدو الوحيد، وهو افتراضٌ غير صحيح عملياً، فالجماعة تمثل شريحة صغيرة من هذه الأكثرية، (وصناديق الانتخابات الديموقراطية سابقاً خير شاهد)، لكن العمى والحقد الطائفي لحافظ أسد، ومن خلفه، ومن والاه، بل حتى لبعض من عارضه كانت أقوى من أي نظرة موضوعية أو وطنية سورية، وما ترديد غير ذلك من أسباب، إلا مشاركة بدوافع طائفية، أو إيديولوجية في الجريمة الطائفية المستمرة حتى اللحظة، ومن هنا نرى تلك الاتهامات بحق أي رأي إيجابي في الجماعة، وتبريراً لكل الجرائم بحقها.
  • الجماعة انتهت عملياً بعد استئصالها الطائفي الوحشي، أما ما رأيناه خلال العقود الأربعة السابقة، وصولاً للثورة السورية ومجالسها التمثيلية اليوم، فهي مجموعة أطلق عليها من باب التوصيف الواقعي، لا الذم “بقايا جماعة الإخوان المسلمين السورية”، وهو توصيف، أستخدمه دائماً لوصف المجموعة الحالية التي كانت استمراراً لنهج الجماعة التاريخي الفكري الذي لا إشكال فيه، لكن هذه المجموعة من بقايا الجماعة حملت معها مشروعاً حزبوياً صغيراً، بقياس أشخاصها وطموحاتهم السياسية والمالية، فكان الأداء كارثياً على الثورة، مع الإشارة إلى أن من ينتقدون هؤلاء البقايا كانوا شركاءهم مالياً وسياسياً في الخراب بكل مراحله، ومن هنا فمشكلتنا مع “بقايا جماعة الإخوان المسلمين السورية”، لا في مرجعيتهم الفكرية ومبادئهم، بل في أدائهم السياسي الفاشل الانتهازي الحزبوي الشخصي في الثورة السورية، تماماً كمشكلتنا مع شركائهم الذي ارتفعت عقيرتهم بانتقاد شركاء الفشل، والانتهازية والوصولية في الماضي القريب.

* فواز تللو –  سياسي سوري

برلين / ألمانيا – 26/02/2024

________________________

 من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى