الرأي العام

13 سنة ثورة | لا بد للثورة أن تجدد أدواتها حتى تستمر

بقلم: د. ياسر تيسير العيتي

لم تكن الثورة السورية أول ثورة شعبية في التاريخ ضد حكم تسلطي ولن تكون الأخيرة، لكن موقع سورية في العالم واللحظة التاريخية التي انطلقت فيها الثورة جعلتها من أكثر الثورات عبر التاريخ تعرضاً للتشويه والاختطاف ولمحاولات الوأد والحرف عن المسار.

من ملصقات الثورة الأولى

صحيح أن الثورة لم تتمكن حتى الآن من تحرير كل سورية من حكم الأسد والقوى الخارجية التي دخلت بلادنا تحت ذرائع شتى لكن الإنسان السوري تحرر؛ ملايين السوريين تحرروا فعلياً من قبضة النظام وانفسحت أمامهم مساحات التفكير والتعبير والتنظيم التي لم تكن موجودة من قبل، وهذا بحد ذاته إنجاز عظيم يمكن أن نبني عليه مستقبل بلدنا ومجتمعنا إذا أحسنّا استثماره وتطويره.

التغيير الكبير الذي أطلقته الثورة بدأ بنزول السوريين إلى الشارع والمطالبة بشكل جماعي وعلني بإسقاط النظام، وهو حدث لم يعهده المجتمع السوري المحكوم بالقبضة الأمنية الحديدية منذ أكثر من نصف قرن. كان هذا الحدث كافياً ليغير المشهد السياسي في سورية بشكل جذري ولم يكن قابلاً للاستمرار لو لم ينظم أبناء الثورة أنفسهم في وحدات تنظيمية هي  (التنسيقيات)، واستطاع نموذج التنسيقية أن يحرك الشارع وأن يوصل رسائله السياسية إلى داخل سورية وخارجها، وانتشرت التنسيقيات على المساحة السورية كالفطر من دون وجود رأس يديرها وأعطتها هذه اللامركزية مرونة فائقة جعلت الثورة منيعة على الاستئصال، فليست هناك جهة إذا تم اعتقالها أو تصفيتها يتوقف الحراك الثوري، وكان هذا الشكل البسيط من التنظيم السياسي في بداية الثورة كافياً لاستمرارها بل عامل قوة لها.

  لكن بعد أن خرجت مناطق واسعة عن سيطرة النظام وتشكلت الفصائل العسكرية وأصبحت هناك معارضة معترف بها من العالم تتحدث وتفاوض باسم الثورة، وبعد أن أصبحت التحديات التي تهدد استمرار الثورة بل تهدد وجود الدولة السورية هي حالة التشرذم السياسي والإداري والعسكري في المناطق المحسوبة على الثورة السورية، وفشل المعارضة المعترف بها دولياً في إدارة هذه المناطق وفي توحيد الفصائل وفي الحفاظ على المكاسب السياسية التي حققتها الثورة في السنوات الأولى، اليوم بعد أن أصبحت هذه هي التحديات التي تواجه الثورة لم يعد (التظاهر) كفعل سياسي كافياً ولم تعد (التنسيقية) كوحدة تنظيمية كافية ولم تعد الشعارات والهتافات كافية، لم يعد كل ذلك كافياً لتحقيق أهداف الثورة، بل لا بد من الانتقال إلى أشكال أعلى من التنظيم والطرح السياسي حتى نستطيع أن نخرج بلادنا من حالة التعفن التي أريدت لها وهي حالة لا تهدد بإطالة عمر الأسدية وحسب بل تهدد الروابط التاريخية بين السوريين وتهدد وجود الكيان السوري ذاته.

إن الحل النهائي في سورية لن يكون سياسياً صرفاً ولا عسكرياً صرفاً بل مزيج من الاثنين معاً، ووحدها الكيانات السياسية السورية المدركة للواقع السوري والعالمي والتي تتمتع بالامتداد الشعبي وتعرف كيف تخاطب العالم بلغة المصالح وكيف تكسب ثقة الشارع الثوري بشقيه الشعبي والعسكري  وكيف تكسب ثقة كل السوريين التواقين إلى الحرية والكرامة، وحدها هذه الكيانات إذا عرفت كيف تتحالف فيما بينها وتشكل كتلة وطنية وازنة ستكون قادرة على العبور بسورية إلى شاطئ الأمان.

نحن بحاجة اليوم إلى تأسيس كيانات سياسية توعّي الشارع الثائر وتنظّم حركته وترشّد مطالبه، كيانات عابرة للمحافظات والمناطق تجمع بين الانضباط المركزي بالرؤية والاستراتيجية والمرونة اللامركزية في النشاط والحركة على الساحة، كيانات تعزز الوطنية السورية من خلال العمل المشترك بين المنتمين إليها ويمارس أفرادها الحوكمة والمأسسة والشفافية التي ينادون بها على أنفسهم قبل غيرهم، كيانات تطرد الانطباع السلبي الذي رسخ في عقول السوريين عبر عشرات السنين عن العمل السياسي المنظم والذي سببته الأحزاب السياسية التقليدية المتكلسة سواء كانت في  الحكم أو  المعارضة، كيانات لا تكتفي بالشعارات وإنما تقدم برامج ومبادرات وحلول، كيانات لا تكون مفرخة للأتباع بل مصنعاً للقادة ومنصةً يتمكن فيها شباب الثورة من التعبير عن أنفسهم وإطلاق إمكانياتهم وصقل قدراتهم وأخذ أماكنهم في بناء سورية الجديدة، كيانات تجمع أهل الاختصاص والخبرة والكفاءة والإخلاص تحت مظلة واحدة ليضعوا البرامج التي تنهض بسورية البلد والإنسان وليهيئوا أنفسهم ليكونوا قادةً في مفاصل الدولة القادمة، كيانات تعزز عند أعضائها حس المسؤولية وخلق الانضباط و تنمي فيهم مهارات التواصل والحوار والاختلاف والإبداع  والتفكير الناقد وصناعة القرار، كيانات تشبه ثورتنا من حيث تمسكها بالمبادئ والقيم ومن حيث حيويتها ومرونتها، هذه الكيانات السياسية  برأيي هي الأدوات الجديدة التي يجب أن تتسلح بها الثورة في عقدها القادم حتى تتمكن من تحقيق أهدافها.

زر الذهاب إلى الأعلى