فنون وآداب

ابن كفرنبل عاشق الفسيفساء: حكايات الماضي والحاضر تروى من خلال الحجر والزجاج

ليست مجرد قطع فنية، بل هي جسور تربط بين الماضي والحاضر، ووسيلة للحفاظ على التراث الثقافي الفريد لسوريا

تحقيق: خالد زنكلو – العربي القديم

تُعد الفسيفساء من أقدم الفنون التقليدية في التاريخ البشري، التي تحمل في طياتها العديد من الحكايات والتقاليد الثقافية التي تتنوع وتتطور عبر الزمن، وعلى الرغم من تطور الفن الحديث، لا يزال فن الفسيفساء يحتفظ بمكانته الخاصة في العديد من الثقافات حول العالم، ويُعد جزءاً لا يتجزأ من التراث الفني السوري، الذي يعكس تاريخه الطويل وثقافته الغنية.

الفسيفساء في سوريا

تُعتبر الفسيفساء السورية واحدة من أرقى أنواع الفنون، حيث يمكن تتبع جذورها إلى العصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية، ويعود تاريخ استخدامها في تزيين الأبنية والكنائس والمساجد والمنازل إلى مئات السنين، وقد شهدت هذه الفنون العديد من الفترات الذهبية في تاريخها، حيث كانت تُستخدم بشكل رئيسي لتزيين الجدران والأرضيات والأسقف في المعابد والمنازل الفخمة.

في مدينة كفرنبل السورية، وُلِدَ الفنان “خالد وليد حمادي” الذي يُعد أحد أبرز الشخصيات التي عملت على إحياء هذا الفن التقليدي في العصر الحديث، ولد في مدينة كفرنبل، إلا أنه بعد سنوات من العمل والتميز في هذا المجال، قرر الانتقال إلى مدينة “مرسين” التركية التي أصبحت مركزًا لتطور فن الفسيفساء بفضل تواجد العديد من الشركات المتخصصة في هذا المجال.

يُعد خالد من بين القلة الذين استمروا في ممارسة هذه الحرفة التقليدية التي كانت في الماضي تُمارس فقط من قبل أجيال قديمة، ولكنه ابتكر طرقًا وتقنيات جديدة ساعدت في زيادة الطلب على أعماله وفتح أفقًا جديدًا لهذا الفن في العديد من البلدان.

رحلة حافلة بالإنجازات

خلال أكثر من خمسة وعشرين عاماً من العمل في هذا المجال، استطاع خالد أن يُثبت نفسه كواحد من أبرز فناني الفسيفساء في المنطقة، ورث خالد هذه المهنة عن عائلته، وتعلمها على يد أجداده الذين كانوا يمارسونها منذ أزمان طويلة، ورغم أنه بدأ في سن مبكرة، إلا أنه تميز عن الآخرين في هذا المجال بفضل إبداعه وقدرته على تحديث هذا الفن الكلاسيكي بما يتناسب مع العصر الحديث، حيث يتم إنتاج أكثر من 1500 لوحة فنية ويسعى دائماً لتطوير إنتاجه الى الأفضل.

عمل خالد على العديد من الأعمال الفنية المتميزة، سواء داخل سوريا أو خارجها، من أبرز إنجازاته كان إبداعه في زخرفة الجدران والواجهات لبعض الأماكن التاريخية والأثرية، مما ساهم في الحفاظ على التراث الثقافي السوري وأعطى قيمة جمالية جديدة لهذه الأماكن، وقد برع في رسم شخصيات تاريخية وثقافية معروفة، إلى جانب تقديم أعمال مخصصة لعدد من العملاء الذين كانوا يرغبون في إضافة لمسة فنية مميزة إلى منازلهم ومكاتبهم حيث هذه الورشة تضم أعداد تراوحت أكثر من 30 عامل من فئة الشباب وهذا مما ساعد العديد من الشباب لمنحهم فرص عمل جيدة تساعدهم في تأمين عيشهم.

 صعوبات عديدة

من أكبر التحديات التي يواجهها فنانو الفسيفساء هي قلة توفر المواد الخام اللازمة مثل قطع الحجر، الزجاج، الخزف، أو السيراميك، هذه المواد تعتبر أساسية في صناعة الفسيفساء، وفي بعض الأحيان قد يكون الحصول عليها صعباً أو مكلفاً في المناطق التي تشهد صراعات أو أزمات اقتصادية، نظراً لأن فن الفسيفساء يتطلب دقة عالية وأدوات متخصصة، فإن تكاليف إنتاج القطع الفنية قد تكون مرتفعة، بالإضافة إلى ذلك، فإن توفر المواد الخام الجيدة يتطلب تكلفة إضافية، مما قد يعوق الكثير من الفنانين عن العمل بكفاءة.

تحديات وآمال جديدة

على الرغم من أن الحرب التي عصفت بسوريا قد أثرت بشكل كبير على العديد من الصناعات والفنون التقليدية، إلا أن خالد ظلّ يواصل عمله بلا انقطاع، مُؤْمِنًا بأن الفسيفساء هي جزء من هوية سوريا الثقافية التي يجب الحفاظ عليها، وبعد تحرير سوريا بالكامل، عبر خالد عن شعوره بالفخر والاعتزاز بنجاح سوريا في التغلب على أزماتها، وأكد أن هذه الفترة قد أحدثت تحولًا في مجال عمله، حيث شهدت أعماله زيادة ملحوظة في الطلب، لا سيما من المواطنين الذين عادوا إلى بلادهم بعد سنوات من النزوح.

وخلال حديثه، أكد خالد أن فنه أصبح محط اهتمام واسع من قبل السوريين في مناطق شمال غرب سوريا، مثل “سرمدا” حيث يحظى هذا الفن بشعبية كبيرة، وأشار إلى أنه يخطط لفتح فرع جديد لمشروعه في مدينة كفرنبل، بعد أن يعود الاستقرار التام إلى المنطقة. يبدو خالد متفائلاً بشأن المستقبل، وقد أعرب عن أمله في أن يشهد فن الفسيفساء في سوريا مزيداً من التطور، ويُعَاد له مكانته كمصدر فخر ثقافي.

فن يجسد الذاكرة الجماعية

تمثل الفسيفساء أكثر من مجرد فن تزييني، فهي سجل تاريخي حيّ للأجيال القادمة، يعمل هذا الفن على الحفاظ على ذاكرة الشعوب ويجسد قصصاً وأحداثاً تاريخية عبر الألوان والأشكال الهندسية المعقدة. وفي سوريا، يُعد فن الفسيفساء أحد أبرز عناصر الهوية الثقافية التي تمثل غنى التاريخ السوري، وهو يشهد اليوم عودة تدريجية على يد الفنانين المبدعين مثل خالد، الذين يسعون إلى إعادة الحياة لهذا الفن العريق وإحياء التراث السوري في جميع أنحاء العالم.

إن الفسيفساء السورية ليست مجرد قطع فنية رائعة، بل هي جسور تربط بين الماضي والحاضر، ووسيلة للحفاظ على التراث الثقافي الفريد لسوريا، ومع الفنانين مثل خالد وليد حمادي، يبدو أن هذا الفن سيظل حياً، يعبر عن تاريخ طويل من الإبداع والفن، ويواصل إلهام الأجيال القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى