فنون وآداب

نصوص أدبية || حمرا ولا خضرا؟ (قصة طويلة)

قصية كتبها: صخر بعث

كل الّذين شاهدوا الحادث يعرفون الحقيقة، السائقون والراكبون والراجلون والمتطفّلون والمتدخّلون والعابرون في الطرقات والناظرون من الشرفات!. وأمّا “رجال الشرطة” فقد كدتُ أدهسهم جميعاً لولا ستر ربّ العالمين، وكادتِ الشاحنة التي اصطدمت بها السيّارة الّتي أمام السيّارة التي أمام سيّارتي تَقلعُ عن بكرة أبيه معقلهم البوليسي المخطّط بالأبيض والأسود، سيّارتهم يعني تلك الرابضة كبقرة هولندية عند دوّار الحبايب هناك!.

اسمي محمود بن عزّ الدين فرس الماء والدتي مرّوشة تولّد دار العزّ أيضاً خانة 34510 مقيم حاليا في منزل جدّتي الكائن في الحيّ الشمالي الغربي قرب معمل خراطيم ديبو الصاعور الملقّب بدياب الأحمد أحمل هوية برقم وطني 122 / 9 صادرة عن أمانة السجلّ المدني في دارنا ومعروف من قبل المختار أبو حمود هللو .. أفيدكم ما يلي :

كنتُ أقود سيّارتي البيك آب ماركة لاي سوفنام تايلاندي الصنع  رقم لوحة 243546 سورية، رقم شاسيه 433333/ كس/ 2 طز، وذلك في تمام الساعة  12:24 بعد الظهر بقليل، وكنت أقلّ في سيّارتي المذكورة كلّا من مؤمن عبد الرزاق العنتوم، وعبد الرزاق بن محمّد سعد الجمّاص وهما زميليّ في المؤسّسة العامّة لإبذار الثمار، ومعنا المدعو جورج بن فيليب بطران ويعمل معنا في نفس المؤسّسة قسم التلقيح نصف الطبيعي، وقد خرجتُ من منزلي الكائن في الحي الشمالي الغربي قرب معمل خراطيم ديبو الصاعور الملقّب بدياب الأحمد في الساعة 11 بعد ظهر هذا اليوم وركب بجانبي المدعو مؤمن والمدعو عبد الرزاق عند مفرق عين بيب، بينما وضعنا المدعو جورج المسيحي الذي وجدناه بالمصادفة في شارع  الأصدقاء في صندوق السيارة واتّجهنا نحو عملنا في المؤسّسة المذكورة وخلال قيادتي للبيك آب العائد لأخي عبد الستّار الذي يعمل مستخدماً في شركة لاندروفايسين للأدوية الوطنية فرع دار العزّ، متزوّج من المدعوّة نور العيون شنرو ويقيم معي في نفس الحيّ مقابل محلّ أبو عزّو فرحان اللحمة.

إنّني أنصّب من نفسي مدّعياً شخصياً بحقّ كلّ من تسبّب في هذا الحادث ولا أريد معاينتي طبّياً وهذه إفادتي.

نعم.. كانت هذه هي إفادتي كما ضبطها المساعد أوّل وأعوانه في ضبط الشرطة الذي نُظِّم بخصوص الحادث الذي تعرّضتُ له، وقد اطّلعنا أنا وحسين على هذه الإفادة بعد ثلاثة أشهر من تاريخ الحادث وسألني الموظّف الذي ساعدنا كثيراً كي نطّلع على هذا الضبط وكان نبيها للغاية:

أخي هلق شوف يمكن المساعد أوّل اللي نظّم الضبط نسي أن يكمل إفادتك..

شوف إفادتك بالضبط يا محمود: (وخلال قيادتي للبيك آب العائد لأخي عبد الستّار الذي يعمل مستخدماً في شركة لاندروفايسين للأدوية الوطنية فرع دار العزّ متزوّج من المدعوّة نور العيون شنرو ويقيم معي في نفس الحيّ مقابل بيت أبو عزّو فرحان اللحمة) ..

– إي أخي ماذا حصل خلال قيادتك للبيك آب؟. 

– عملت حادث!.

-جميل لماذا لم تذكر في الضبط كيف عملت الحادث وليش؟.

– قلت للمساعد أوّل كيف وليش!.

– ولكنّ الضبط خالٍ من أي إفادة لك بهذا الخصوص، أنظر كيف انتهت إفادتك دون أن توضح أو تشير حتّى إلى أنّك تعرضت لحادث..

– معك حقّ.. لا يوجد كلمة واحدة تخصّ الحادث..

سألتُ أبا نعيم الموظّف الذي كان يرشدنا في المحكمة كي نصوّر أوراق الدعوى التي أبلغوني موعدها فامتثلت للحضور، ببراءة طفل في الثالثة من عمره سألته: هل هذا يضرّني يا أستاذ؟.

– نعم نعم.. عليك أن تنتبه جيّداً، أنت في حال حرجة وربما يعتبرون ذلك تزويراً منك بالاتّفاق مع “رجال الشرطة”..

– كدتُ أقع من الخوف والقلق.. يا أستاذ أنا كلّفني تصليح السيارة تلك الحسبة، معقول أن أضع نفسي في هذا الموضع فأزوّر وأدفع رشوة؟، ثم إنّني لم أدّعِ على أحد كما يقول المساعد أوّل.

– شوف أخي أنت في مشكلة كبيرة وضبوط الشرطة متل المصحف بلا تشابيه، لكن لا يمكن تغييرها.

– أف .. حسناً وماذا إن كان المساعد أوّل قد كتب الضبط مثلما راق له؟، أو أنقص من إفادتي فيه قصداً أو دون قصد.

– القاضي لا يهمّه هذا الكلام.. أنت وقّعت على محضر الضبط، ما يعني أنّك قرأت إفادتك فيه ووافقت عليها وأقررت بما ورد فيها.

– يا أخي حسناً وإن كنت فعلت؟، هل يعاقبني القاضي لأنّني لم أتكلّم عن الحادث ولم أشرح كيف حدث؟.

– سيسألك: وين كان عقلك ؟، كنتَ مسرعاً بالتأكيد، أو شارداً لم تنتبه، بل ربّما كنت ثملاً!، في كلّ الأحوال ستتحمّل مسؤولية الحادث لوحدك لأنّك زوّرت إفادتك بالضبط.

– يا حبيبنا والله لم أزوّر شيئاً أرجوك لا تتّهمني بذلك، أنا والله كنت أقود سيارتي ببطء، الشاحنة التي أمام السيارة التي أمامي هي من تسبّبت بالحادث، انحرف سائقها جهة اليسار بينما كان سائق السيارة التي خلفها يريد أن يتجاوزها، وكي أتفادى الاصطدام بأحد المارّة الذي أتى من الناحية اليمنى تماماً حيث وضعنا جورج في الصندوق، انعطفتُ يساراً فضربتُ مؤخّرة السيّارة التي أمامي من جهتها اليمنى، وحصلت الضربة على الجهة اليسرى لمقدّمة سيّارتي.

– أخي.. لا تضيع وقتي مؤخّرة سيّارتك مقدّمة سيّاراتهم مؤخرتك أنت أنا لا علاقة لي بهذا.. ثمّ لماذا لم تذكر هذا الكلام في ضبط الشرطة؟. 

– يا أستاذ .. والله ذكرته.

– ولكن الضبط خالٍ من هذا الكلام.

– يا أستاذ والله لم أزوّر شيئاً ولم أدفع قرشاً واحداً لأحد.

– اذهب ووكّل محامياً ليدافعك عنك..

– قلت لك تضرّرت بثلاثة آلاف ليرة.. أوكّل محامياً؟.

– أنت في موقف حرج.. قالها بطريقة مرعبة، وانسلّ إلى غرفته كما تنسلّ أفعى هربا من الغرباء!.

أخذ كاتب المحكمة بطاقتي الشخصية ودوّن معلوماتها على ورقة في مصنّف ثمّ قال لي: 29/5.

  • ماهذه 29/5؟
  • الموعد يا أخّ.
  • موعد ماذا؟
  • موعد الجلسة، يبدو أنك لم تحضر جلسة محاكمة قبل الآن؟.
  • لا والله هذه أوّل مرّة، ألستُ الآن في جلسة محاكمة؟. 
  • لا الآن هذه ليست جلسة محاكمة، كنا دخلناك لجوّا.
  • وين جوّا؟.
  • في غرفة القاضي.
  • أردتُ إعطاءه الورقة التي بلّغوني فيها واجب المثول للمحاكمة.

ولكنه ابتسم وقال:

  • يا أخي روح وتعال في 29/5 فالخصومة لم تكتمل بعد.

سحبني صديقي الفهلوي “حسين” الذي أتيت بصحبته إلى المحكمة كي أستعين بخبرته القانونية من يدي وقال لي: أعطه مائة ليرة وسوف يحلّ لك هذه المشكلة.

صرخ الموظّف الكاتب في وجهي: قلنا لك اذهب.. مالك شغل اليوم تعال في الموعد الذي أعطيتك إياه، ودسّ المائة ليرة في الجيب الخلفي الأيسر من سرواله والتفت نحو زميلة له في الغرفة وقال: أم محمد إذا ما بتعطوني أول دور بالجمعية مارح اشترك.

***

حضرنا الجلسة التالية في الموعد الذي حدّده لنا الكاتب، فلم تكتمل الخصومة كما عاد وأخبرنا، أعطانا موعداً جديداً وحضرنا، وبعد ستّة أشهر من تاريخ تبليغنا موعد أوّل جلسة محاكمة وتسعة أشهر من تاريخ الحادث اكتملت الخصومة التي كانوا يتحدّثون عنها، وهكذا أمكن لي أن أتشرّف أخيراً بالدخول إلى غرفة القاضي لحضور المحاكمة.

أخذ القاضي بطاقتي ورمى بها إلى الكاتب وسألني وهو ينظر إلى مكيّف الهواء:

  • احكيلنا شلون ساويت هالحادث؟. 
  • يا سيدي أنا كنت ماشي ورا السيارة الحمرا اللي عملت الحادث، قاطعني.
  • حمرا ولا خضرا؟.
  • حمرا سيدي .. والله ما بعرف خضرا؟.
  • أنا عم أسألك شو ما بتعرف لون السيارة؟.
  • أي وحدة سيدي؟.
  • سيارتي.. شو أي وحدة؟، السيارة اللي كانت قدامك؟.
  • سيدي يمكن حمرا والله العليم.
  • إي؟.
  • شو إي سيدي؟.
  • كمّل، وبعدين؟.
  • إي.. وكنت عم سوق على مهلي “أكّد عليّ حسين قبل أن أدخل كي أقول هذه العبارة”، وكنت منتبه كتير منيح وفجأة شحطت السيارة الخضرا اللي قدامي فرين، قاطعني القاضي مجدّداً.
  • ليش السيارة خضرا ولا حمرا؟.
  • يا سيدي على كيفك..
  • لك شو على كيفي؟، روح وكّل محامي وتعا بـ 23/ 12

23/12 هذه تعني آخر السنة التي عملت الحادث في أوّلها..

قلت لحسين وأنا خارج من غرفة القاضي: أراد الله وما شاء فعل، لازم تشفلي محامي قبضاي وذكي وأخو حفيانة يخلصني من هالورطة..

هزّ رأسه وقال بثقة: طلبك عندي.

تواعدنا في المساء لنذهب إلى مكتب ثعلب المحاكم ملك الدهاليز والأروقة، بل مرعب القضاة المحامي الأستاذ عبد الحقّ السالب.

الأستاذ استقبلنا في دقيقتين، قال:

ابني بكرة بتروح بتساوي وكالة باسمي في المحكمة وأنا بمشي بالدعوى وأنت لا علاقة لك، لن تذهب ولن تأتي، وهات عشر آلاف ليرة على الحساب.

نظرتُ في عيني حسين مباشرةً وطلبتُ منه أن يخبر ثعلب المحاكم الذي أتى بي إليه عن الحادث وكيف أنني دفعتُ ثلاثة آلاف ليرة وأصلحت السيارة، وأنّني لا أودّ الادعاء على أحد و و..  قاطعني الثعلب بلهجة حاسمة:

  • أنا ماني فاضي للأخد والعطا، بدك أتوكلّك هات عشرتالاف وتعا بكرة وكّلني..

مددت يدي وأخرجت النقود، كانت عشرة بالتمام والكمال، لم يبق معي سوى مائة ليرة وشوية فراطة، هذا المبلغ استندته من ابن عمّي علّام قبل أن أوافي حسين إلى موعدنا في هذا الوكر!.

  • شكرا أستاذ.. قال حسين، ومضينا.

وكّلنا الثعلب المرعب في الصباح ودفعنا من أجل ذلك ثلاثة آلاف ليرة أخرى، ولكنني مع هذا شعرت بالأمان، عدتُ إلى منزلي وأنا أقول لنفسي باطلة ومحوّلة ساعة ذلك الحادث، الحمد لله ومادمنا قد وكّلنا محامٍ فقد ارتحنا من كل هذا العذاب، كيف لي أن أذكر بعد تسعة أشهر أن السيّارة حمراء أم خضراء أم زرقاء؟، ثعلب المحامي سيجد طريقةً لا ريب!، ولقد أكّد حسين يقيني هذا: لا بدّ أن الأستاذ سيتصرف، الموضوع بسيط للغاية.. قال حسين.

***

بعد شهر واحد أيقظني حسين، قال: عندك جلسة محكمة.

  • جلسة شو يا خي؟.
  • محكمة شو جلسة شو؟ لسه نايم؟.
  • ولك محكمة شو يا أجدب؟ مو وكّلنا الأستاذ الثعلب ومشي الحال؟، مو قلّنا روحوا وأنا بتصرف؟.
  • إي بس الأستاذ اتصل وقال عندك اليوم استجواب.

لم أستطع تفهّم الأمر، نهضت من سريري وجهّزت نفسي وذهبت إلى المحكمة.

وجدنا أبا الحصين جالساً في ممرّ القصر العدلي يشرب القهوة وبجانبه رجل يبدو أنه من بادية الشام أو من صحراء نجد، يرتدي الملابس البدوية جميعها حتى ” القشاط ” الأسود الذي يضعون فيه الفشك، وتقف أمامه فتاة مطلية بالمستحضرات التي تستعملها النساء العاديات للتجميل وترتدي “جزمة” حمراء طويلة وفوقها تنورة جينز زيتية وبلوزة بلون أزرق قاتم، وعيناها تتفجّران حيويةً وذكاءً ونشاطاً، ثمّ اكتشفتُ أنها محامية مبتدئة عندما قال الثعلب الماكر لها لكنّما بثقة الذئب قائد القطيع هذه المرّة:

  • اذهبي يا أستاذة وحضّري الأخ في محكمة الصلح وليستجوبه القاضي .

قلت للثعلب الذكي : يا أستاذ ألم تقل لي اذهب وأنا سأتصرّف؟، لماذا طلبتني اليوم إلى المحكمة؟.

  • هذه المرّة فقط، إنّه استجواب ولا يجوز ألّا تحضر.

داس حسين على قدمي وهمس: خلصنا اذهب واحضر مع الموموزيل.

هرولت الموموزيل أمامي على الدرج ودخلت إلى غرفة في الطابق العلوي من المحكمة، فبقيتُ خارجاً، عادت وطلبت مني أن أدخل.

  • إلى أين؟.
  • تعال يالله ادخل!. 

لم تكن هذه نفس الغرفة التي حضرتُ فيها جلسة المحاكمة السابقة، وبعد لغط وشرح وطول سيرة عرفت أن الموموزيل أخذتني إلى محكمة الصلح المدني وهي غير محكمة الصلح الجزائي التي “يحاكمونني” فيها.

حضرنا مع الموموزيل إلى المحكمة المقصودة وسألني القاضي وهو ينظر إلى المدفأة -فقد أصبحنا في فصل الشتاء-:

  • احكيلنا شلون ساويت هالحادث؟.
  • يا سيدي أنا كنت ماشي ورا السيارة الحمرا اللي عملت الحادث، .. قاطعني.
  • حمرا ولا خضرا؟.

نظرت مباشرة إلى الموموزيل وسألتها بصوت مسموع بل وعالٍ: 

  • حمرا ولا خضرا؟.
  • شو عرّفني أنا؟، بعدين جاوب على سؤال حضرة القاضي، لا تحكي معي.

أصبت بالذهول، تجمّدت تماماً، فتماماً لقد وكّلنا الثعلب لحلّ هذه المشكلة، لو كنت أتذكر لون السيارة التي كانت أمامي في الحادث والله ما تردّدت في ذكر ذلك أبداً!.

قلتُ للقاضي يا سيدنا أنت قلت لي وكّل محامياً ولقد فعلت، ولكنّ المحامي الذي وكّلته لم يحضر وأريده أن يأتي، أجابني:

  • الأستاذة تحضر بالنيابة عن الأستاذ السالب، وإن كنت لا تعرف لون السيارة فقل لا أعرف ولاداعي لهذه الشوشرة مفهوم؟.
  • حسناً.. بتسمح لي سيدي أن أستعين بصديقي مؤمن أو عبد الرزاق أو حتى جورج الذي كان في الصندوق؟.
  • شو يا أخ ليش ما بنحذفلك لونين؟.

والتفت إلى كاتبه وهو يضحك معجباً أشدّ الإعجاب بخفّة دمه، ثمّ غمز الموموزيل وقال لها: شايفة يا أستاذة قديش عم يوجعنا راسنا بالشغل؟.

يبدو أن الموموزيل لم تكن تقدّر عمله حقّ قدره، وصرتُ أنا الفرصة التي من خلالها وصلت رسالة التعب الذي يعانيه القاضي، وبقي أن تشعر الموموزيل به!.

  • يا سيدي هدول كانوا معي خلال الحادث ولا بدّ أنّ واحداً منهم يتذكّر لون السيارة التي صدمتني.

استعاد ملامح الجدّية -كما اعتقد هو على ما أعتقد- وأسند ظهره إلى كرسيه، ونظر إلي نظرة بوليسية غامضة وقال لي بهدوء مصطنع:

  • صدمتك ولا صدمتها؟، ألم تكن أنت خلفها؟، كيف صدمتك؟.
  • يا سيدي داخل على الله وعليك متل ما بدك..
  • ولك شو متل ما بدي يا بني آدم ؟ شو ليش جاي إنت لهون ؟ ولك كنا ما جبناك ولا تشرفنا بهالطلة..

أصبح منرفزاً للغاية، قال لكاتبه بعصبية: الأستاذة استمهلت لجلب الشهود.

***

حضر الشاهدان المسلمان عبد الرزاق ومؤمن خلال سبعة أشهر من هذه الحادثة، وأمّا الشاهد المسيحي جورج فلم يتمكّن من الحضور لأنّه مات بعد سنة ونصف رغم تبلّغه موعد المحاكمة شخصياً.

تغير القاضي الذي كان يحاكمني ، صار بدلا عنه وعن كاتبه قاضية مهذبة وكاتبة جميلة، وحضر عبد الرزاق أمامهما، بينما حضر مؤمن أمام قاض آخر كان مُندباً لأن القاضية المهذّبة أخذت إجازة أمومة.

بعد ثلاث سنوات كان الثعلب السالب قد أخذ مني عشرة آلاف مقدم أتعاب وثلاثة آلاف وكالة وثلاثة آلاف خبرة سير أحادية، سبعة آلاف خبرة سير ثلاثية ، أربعة آلاف خبرة طبية -مع أنّني لم أتعرّض لخدش-، وكذلك ألفي ليرة لاستخراج الحكم للتبيلغ وأربعة ألاف وخمسمائة ليرة من أجل الاستئناف ومثلها للطعن، ثمان وثلاثون ألف ليرة سورية فقط لا غير.

عادت القضية من محكمة النقض بعد ستّ سنوات من الحادث مشفوعةً بالقرار التالي:

وحيث أنّه قد ثبت من أقوال الشهود تضاربها المطلق إذ قال الشاهد عبد الرزاق أن لون السيّارة التي ضربتهم أزرق شامي، بينما أكّد الشاهد مؤمن أن لون السيارة التي صدمها زميله السائق محمود فرس الماء كان أصفراً، بينما لم يُفد هذا الأخير شيئاً عن لون السيّارة لا في ضبط الشرطة الذي يدعو إلى الارتياب ولا أمام قاضيي الصلح والاستئناف، ما يجعل من القرار المطعون به مخالفاً للأصول القانونية التي أوجبها المشرّع وأهمّها أنّ الشكّ يفسّر لصالح المدّعى عليه، وأنّه لا بدّ أن تكون الأدلّة التي تسوقها المحكمة للإدانة مؤكّدة وكافية ولا تقبل الشكّ.

ولذلك نقرّر:

  1. قبول طعن مؤسّسة التأمين والسائق فرس الماء شكلاً.
  2. قبول طعن المؤسّسة موضوعاً، وردّ طعن فرس الماء موضوعاً.
  3. إعادة الملفّ إلى مرجعه لتصويب مساره القانوني.

البارحة أبلغوني كي أحضر جلسة المحاكمة..

اتّصلتُ بحسين، قبل أن أكمل قال: إي طلبك عندي..

صدق حسين هذه المرّة ووفى..

بعد يومين اثنين ذهب “أبو جعفر” إلى محكمة النقض وأخذ “الإضبارة” وأحضرها إلينا كاملةً منذ ضبط الشرطة وحتّى القرار الأخير.

في المساء جلسنا، تعشّينا معاً وأحرقنا الإضبارة حرقاً، وصاح “أبو جعفر” صياحاً: ولك بصحتكين بصحتكين، طول ما أنا موجود لا تاكلوه للهمّ!

زر الذهاب إلى الأعلى