فنون وآداب

تلفزيون سوريا... التدجين الإعلامي واختطاف المجتمع!

د. علاء رجب تباب* – العربي القديم

يبدو لكل حاذقِ ومتابع أنّ الإنطلاقة الإعلامية السنوية لـ “تلفزيون سوريا” لا تعكس خطا الواثق بل سلوك المفلس الإعلامي الذي أوشك رصيده الاجتماعي على النفّاذ، فراح يتخبّط هنا وهناك ويسارع لاستجداء ثقة المتلقي السوري أملاً في إعادة تدوير ذاته! لكن ذلك مع الأسف لم يكن من خلال مراجعة الذات أو مصالحة المجتمع أو تنصيب الكفاءات أو تحييد العصبية، أو تصحيح مسار الخطاب الاتصالي الاجتماعي والسياسي والفكري، بل كان عن طريق محاولة إبهار الجمهور وتخديره بالوثن الحداثي التكنولوجي والاسمنتي الكفيل باستحضار العاطفة وتغييب العقل!

 إنّ السلطة الإدارية العليا في التلفاز باتت تدرك أنّ اتخاذ أي إجراء حقيقي في الإصلاح المؤسساتي على مستوى الخطاب أو الاستراتيجية أو الكوادر يهدد مقومات وجودها واستمراريتها! لذا لا أبالغ إذا ما قلت: إنّ هذه (الانطلاقة السنوية) وظيفية بذاتها! فهي أشبه بالاحتفال بعيد الاستقلال الوطني السوري، الذي تسعى السلطة بواسطته إلى التدليس السياسي وتوجيه العاطفة الجماهيرية دورياً بهدف إقناعها باستقلالية القرار الوطني _لكن لم يكن ذلك بالطبع من خلال التوعية بتكريس قيم العدالة والقانون والحرية _ بل من خلال الطريق الاستبدادي الآمن _ الكفيل بإدارة التدافع وعدم التحرر_ المتمثّل في تخدير الجماهير بمراسم الاحتفال السنوي والاستعراض الحربي والتكنولوجي والشعارات الحماسية والأغاني الوطنية والشخصيات الفنّية المؤثّرة!

إقصاء الآخر واحتكار الخطاب

من المؤلم أن لا تستوعب هذه الوسيلة انتقادات أبناء الثورة أو تتفهم غيرتهم على البعد الاجتماعي والثقافي ومكتسبات الثورة الفكرية والمعنوية! لا أبالغ إذا ما قلت: لو أنّ الإدارة الإعلامية لهذه الوسيلة كانت تملك بقايا ثقةً أو ثورة أو وعياً إعلامياً أو حسّا مهنياً واجتماعياً، لاستضافت في يوم زفافها أو دُخلتها السنوية سفيراً وطنياً عن النشطاء السياسيين والإعلاميين والاجتماعيين الذين ينتقدون التحولات في الاستراتيجيات والمصطلحات والمفاهيم والبرامج والسياسة التحريرية وإدارة الخطاب الاتصالي واستيراد العبوات الدرامية التي يُصنّعها نظام الأسد وأدواته الفنّية بطريقة أو بأخرى!

لكنّ المضحك المبكي أنّ ذلك لم يحدث! بل إنّه تمّ الدفاع بعجالة واستخفاف عن كوارث التلفاز بأسلوب واهٍ ولا منطقي! تم ذلك في أحد حلقات برنامج “ما تبقى”، هذا البرنامج السياسي الذي تقوم بنيته أصلاً على استضافة أحد المختصين، لكن مع الأسف عندما تناول هذا البرنامج في أحد حلقاته المعنونة بـ “أخطاء تلفزيون سوريا” ليوهم المتلقي بالشفافية، لم يتجرأ هذا التلفاز أن يستضيف ولو خبيراً أو إعلامياً أو ناشطاً من الطرف المعارض لسياسته، بل آثر أن يغيّر الحبكة والبنية الإعلامية لهذا البرنامج خوفاً من مواجهة الرأي الآخر! فآثرت هذه الوسيلة الراجفه أن تُصارع نفسها في حلبة الحوار وتناقش ذاتها، فتم لأوّل مرّة الاستغناء عن الضيف والاكتفاء بالمقدّم! مع العلم أنّ هذا التلفاز ذاته تحت شعار الحرية والرأي الآخر لم يترك مقدساً اجتماعياً ولا ثورياً إلّا ونكّل به وهدّمه وعالج فكرته بانحياز وبأسلوب لا يلتقي مع مبادئ الثقافة والدين والثورة والمنطق الإنساني! فلم يكن لهذه البرامج أدنى مانع بأن تكسر كل الخطوط الحمراء وتنكّل بالقيادات الاجتماعية الحقيقية وتبعث التفاهة والممثل وتعوّم الفن وأدواته الوظيفية وتناقش حتى وجود الله، وتسوّق الإلحاد والتبني والمساكنة والشواذ والعديد من المفردات الاجتماعية والعبوات الثقافية المستوردة، مستغلّة الاضطراب الاجتماعي والحضاري السوري الذي بات يفكّر بعاطفته لا بعقله الاجتماعي، فكانت هذه ثغرة مناسبة بالنسبة للفاعل السياسي الاستبدادي لأن يعيد هيكلة المجتمع وفق مقتضيات البيئة الاستبدادية، ليتم استدراج هذا الحراك الشعبي لحظيرة المستبد! إلّا أنّ المضحك المبكي أنّ هذه المؤسسة الإعلامية التي تخلّقت في الأنابيب ونشأت في رحم الحراك الشعبي الثوري بتلقيح اصطناعي، ضاق ذرعاً بها أن تستضيف ضيفاً واحداً في برنامجها بقصد الإصلاح ليتكلم عن أخطاء إدارة هذه الوسيلة الإعلامية وتجرّئها على المهنية والثورة والمنطق الاجتماعي السوري! كان من الواضح أنّ هناك رهاباً إدارياً بأن يتم انتقاد  الهبل الإداري الذي يلتف حوله دراويش الإعلام!

أقذر الوثائق الإعلامية

الأمر في غاية الوضوح، ما يبدو أنّ الخرق اتّسع على الراتق، لم يكن بوسع هذه المؤسسة الإعلامية أن تبرر الكوارث الإعلامية والمهنية والأخلاقية والسقوط الثوري والاجتماعي الذي اتضح لكل عاقل وحر في بيان الإدارة العامّة لتلفزيون سوريا، والذي أعلنت خلاله بكل بوقاحة الانقلاب الكامل على الثورة والمجتمع السوري، وبيع العقل الجماهيري الثوري لإعلام المستبد والمحتل والمجرم السياسي! ليصدر وبشكل علني أقذر وثيقة إعلامية في تاريخ الثورة والحرية:

 “نحن نقدّم خدمات إعلامية! ونحن غير قادرين على إنتاج دراما خاصة، لذلك إنّ استراتيجيتنا في اختيار المسلسلات الدرامية هو أن لا تكون مدّاحة للنظام أو مهاجمةً للثورة! وتضيف إدارة القناة في بيانها: إنّ الدخول إلى عالم الدراما ليس كلمة بالفم، ولا يستطيع تلفزيون صاعد، مثل تلفزيون سوريا، أن يعلي صوته أو يفرض رغباته، المعادلة في غاية البساطة، عندما توضع الأعمال على الطاولة؛ لا تفاوض كثيرا، خذها أو دعها! أن تدعها هو أمر سهل، لكنك ستبقى دائما منعزلا ومعزولا على الهامش تنتظر انتهاء الموسم لتبحث عن فتات العروض، إذا أردنا منافسة النظام فعلينا أن نستعين بالدراما الصادرة عنه بشرط أن تكون ذات سقف مقبول!”

وهنا يحقّ لكلٍ أن يتساءل، أحقّاً هذا الصائل الإعلامي هو مخيّر بأن يدع تلك المواد أو لا يدعها! أصلاً من أقنع هذه الإدارة الإعلامية أنّ الدراما السورية غذاءٌ بشري وأنّ إنساننا لا يمكنه العيش دونه! فأين المشكلة أن يكون جمهورك معزولاً عن خطاب المستبد والمجرم السياسي الذي يحاول العبث بتفكيره وإعادة هيكلة مفاهيمه التي يفكّر بها! كيف لأي وسيلة أو خبير إعلامي عاقل وأخلاقي وفيه شيئاً من ثورة أن يستورد عبوات درامية من عدوّه رغم عدم تطابقها مع رؤية قناته وسياستها بذريعة أنّ هذا هو المتاح على الطاولة! أصلاً إن نجاحك بعزل جمهورك عن الرسائل الاجتماعية والسياسية والثقافية النقيضة بطريقة أو بأخرى هو بحدّ ذاته انتصار! ألم يُدرك هؤلاء أنّ عرض “شاشة الثورة” للخطاب الدرامي السياسي والثقافي لمسلسلات النظام وأحذيته الفنية الأجيرة التي تأكل من أثدائها بحدّ ذاته يضفي على الرسائل المحتواه نوعاً من المصداقية بل ويعطيها تأشيرة عبور آمن من أقبية النظام الأمنية إلى عقل المتلقي الثائر! من الغريب الإصرار خلال بيان التلفاز على أنّه لا ضير من استيراد الدراما من دكاكين الإنتاج الفني التابعة للنظام السياسي السوري! بل إن السلوك الأغرب هو اعتبار الإدارة أن استيراد هذه القناة المعارضة لمسلسلات النظام تعتبر خطوة مباركة وتصب في إطار التنافس الإعلامي مع إعلام وقنوات النظام! والحقيقة أنّه شتان ما بين المسوق والمصنع، وكيف للمسوّق أن ينافس الصانع عقلاً أو منطقاً! لا يخفى على عاقل إنّ هذه السلوكيات الإعلامية الرعناء تضع عقل المجتمع السوري _سواء الخارج عن سيطرة الأسد أو الخاضع له عنوة_ في المزاد العلني وسوق النخاسة السياسي، بل وتحاول أن تكون أداة رخيصة لإعادة هيكلته وفق رؤى المستبد والمحتل! إنّ هذه التبريرات والتمتمات المتخبّطة التي أعلنها البيان تدلّ على دروشة وعدم دراية بأبجديات الإدارة الإعلامية وصناعة الخطاب الاتصالي! لأنّ الأمر ببساطة ليس بالضرورة إذا لم تكن قادراً على صناعة خطاب درامي سياسي واجتماعي خاص بالثورة وسرديتها ومنهجها الفكري، أن تحوّل وسيلتك الإعلامية لكرخانة سياسية وإعلامية!  أصلاً كيف لقيادة إعلامية تسرق شعارها الإعلامي “خلّي عينك على سوريا” من قناة الجديد أن تكون قادرة على منافسة إعلام النظام أو صناعة محتوى درامي أو إعلامي أو خطاب اتصالي مستقل!

الدروشة الإعلامية

 أمّا بالنسبة لما أشار إليه البيان الإداري في مسألة معيار علوّ سقف الانتقاد أثناء انتقائه واستيراده للعبوات الدرامية من النظام، فإنّ في هذا السلوك والمعيار والتبرير مغالطة وتدليس وأيّ تدليس! فإنّ سقف الانتقاد في هذه المسلسلات المستوردة ليس من المنطق أن يُقارن بالخطاب الإعلامي في التسعينيات، بل يجب أن يُقارن بما جرى ويجري في الواقع الاجتماعي السوري أثناء الحراك الشعبي، فإنّ الجمهور السوري الذي يتم توجيه الخطاب إليه اليوم أغلبه كان إمّا معتقلاً أو أبٌ لمعتقل أو لمقتول تحت التعذيب أو السحل أو ابن لأب قبره النظام حياً في حفرة من حفر حي اليرموك بدمشق! لذلك مهما كان السقف عالياً في المسلسلات المستوردة من المجرم، فهو لن يعكس يقيناً كارثة الحقيقة التي تحسّسها  الجمهور بكلّ حواسّه وتفاصيله، ما يعني أنّ السقف العالي الذي يتغنى به بيان التلفاز هو بحد ذاته تدليس وكذب على المجتمع السوري بل ومحاولة ماكرة لتشويهه! لكن مادام أنّ هذه الوسيلة الإعلامية حسب تعريف ميثاق الإدارة بأنّ وظيفتها تقتصر على تقديم خدمات إعلامية وتسويقية لكل الأطراف بغض النظر عن الانتماء والإجرام!، فإنّ مثل هذه السلوكيات الإعلامية التكتيكية غير مستغربة، فهي لا تتعارض مع الاستراتيجية الوظيفية التي أعلن عنها بيان الإدارة! وأضاف البيان الصادر عن إدارة تلفزيون سوريا: إننا نفتخر بأن نصف المشاهدين لدينا من المؤيدين في مناطق النظام الذين نعوّل عليهم بطبيعة الحال في تحقيق التغيير.  أصلاً كيف افترض هؤلاء أنّ المتابع من داخل مناطق النظام والذي تفخر الإدارة بمتابعته بل وعدّلت سياستها التحريرية لكي تستدرجه إلى الثورة أنّه مؤيد للنظام! بل هو معارض له وثائر على إجرامه لكنه مختطف ويخضع لسلطته عنوة! والنظام السياسي السوري يعطي  هذه المسلسلات الدرامية للقناة المعارضة السورية بهدف مخاطبة الجمهور الثائر والسيطرة عليه سواء في مناطق سيطرته أو في المناطق الخارجة عن سيطرته، ووظيفة قنوات الثورة هنا تقتصر على إضفاء مصداقية لخطاب النظام الذي صنعه خصيصاً للشريحة الثائرة! وكما أنّ أبناء الثورة لا يمكنهم متابعة قنوات النظام، كذلك إنّ مؤيدي النظام لا يمكنهم الجلوس خلف شاشة قناة معارضة لإلههم السياسي، لذلك إنّ كل متابع داخل مناطق النظام هو ثائر مختطف يسعى النظام إلى تدجينه واصطياده من خلال القنوات المعارضة التي يعلم النظام أنّ هذا المتلقي يتوجه إليها خلسة!

هيكلة المؤسسات والإعلام الثوري

الخطورة أنّ هذه الوسيلة الإعلامية لم تعد وسيلة بين الوسائل، بل تحولت إلى المنظومة الإعلامية الوحيدة المسؤولة عن إدارة الخطاب الثوري وصناعة السردية السياسية للحراك الشعبي السوري، فهي الوكيل الحصري الإعلامي والسياسي المسؤول عن إعادة هيكلة الإعلام الثوري والإعلاميين والمؤسسات الإعلامية! لقد استطاعت هذه الوسيلة أن تعيد هيكلة كافة المؤسسات الإعلامية الثورية لتضعها تحت سيطرتها بالمطلق، فكل المؤسسات الإعلامية التي أنتجها الحراك السوري تحولت اليوم لصرخات يقودها ناشطين غير فاعلين ولا مؤثرين، وتم ذلك بعد أن اختطف تلفزيون سوريا كافة خبرات هذه الدكاكين الإعلامية وقام بتهجيرها إليه، لا من أجل استثمارها وتوحيد طاقاتها الإعلامية في تحقيق الحرية و تدعيم البناء الثوري بل بغية تعطيلها! وكانت أهم سلوكيات التعطيل المتّبعة تتمثّل في اختيار قيادات غير مهنية وتسليطهم على النخب الإعلامية الثورية المختطفة داخل هذا التلفاز الذي احتوى أغلب النخب الثورية الإعلامية! حتى إنّ تلفزيون أورينت بذاته تم تهجير أغلب طاقمه إلى هذه الوسيلة بغية تغيير الحالة الوظيفية أو تعطيل دورهم بطريقة أو بأخرى! لذا ليس من المستبعد أننا أمام اتحاد واضح بين مؤسسات الإعلام الثوري نتيجة توافقات بين أصحاب القرار! وتكريس هذا السلوك بواسطة قفازات محلّية إما أن يكون نتاج خيانة ثورية أو دروشة فكرية وإعلامية وبكلا الحالتين النتيجة الكارثية واحدة! لذا فإن كان الأمر نتاج خيانة ثورية فإنّ الخائن لا يقود وإن كانت نتاج غباء إعلامي فإنّ الدرويش غير أهل للقيادة! لذا لا أبالغ إذا ما قلت: إنّ الإعلام السوري مختطف والإعلامي السوري أسير الاستبداد بطريقة أو بأخرى! لذا الحل في تحرير هذه الكوادر على المستوى المؤسساتي وتفعليلها انطلاقاً من مصالح الإرادة الشعبية لا السياسات والرؤى الاجتماعية االدخيلةـ فإنّ هذه الخطوة تعتبر أحد أهم الخطوات السياسية الثورية والشعبية الواجب اتخاذها بأسرع وقت ممكن! وكل متقاعس عن التغيير بحجة قدسية مؤسسات الثورة والدولة عليه أن يراجع ذاته ويستحضر إنسانيته وأخلاقه وعقله، فأي مؤسسة سياسية أو إعلامية أو اجتماعية أو دينية لا يُعتبر الإنسان وتحريره هو أولى أولوياتها، لا تعدو عن كونها مشاريع سياسية لصناعة معابد وثنية بنكة المؤسسات الإعلامية والسياسية!

على من تقع المسؤولية

وربما يسأل سائل وقد سأل، على من تقع المسؤولية! على الداعم السياسي أم الاقتصادي أم الأيديولوجي أم الفاعل الإعلامي والمثقف السوري الذي يدير أو الذي يكون فاعلاً داخل المؤسسات السورية السياسية أو الإعلامية أو أيّا كانت! باعتقادي أنّ المسؤول الأكبر هو الإعلامي والمثقف السوري، الذي ارتضى أن يتحوّل إمّا لكائن وظيفي لدى الآخر، أو تحوّل لكائن وظيفي عاطفي لدى أيديولوجيته الضيقة المعادية لذاتية المجتمع السوري وبنيته وثقافته! فحاول أن يستغل موقعه ودعمه السياسي والاقتصادي ليُقصي الآخر أي شريكه الوطني ولو اضطره ذلك لمحاربة كل المفردات الاجتماعية والثقافية لعدم تلاقيها مع مشروعه الأيديولوجي القاصر والدخيل! فكل الدول والداعمين الاقتصاديين والسياسيين ليسوا مؤسسات خيرية ومصالحهم مع القوي السياسي حكماً، ولكن وكلاء الحراك الشعبي داخل المؤسسات هي الفاعل المدني الكفيل بتوسيع حضور الثورة الاجتماعي على الصعيد السياسي والإعلامي، لذا يسعى المستبد بكل علاقاته إلى اختطاف المؤسسات بكافة المجالات لعلمه بخطورة فاعليتها في هيكلة التفكير الاجتماعي.

القاسم المشترك بين المعارضة والنظام

لذلك اتبعت الهيئة الإدارية لتلفزيون سوريا سياسة المجاراة الفكرية في بدايات نشأتها، لكن وبعد أن تمكّنت من احتلال عقل المتلقي الثوري السوري، بدأت تغيّر سياستها التحريرية ومصطلحاتها ومفاهيمها السياسية تجاه ميليشيا حزب الله الإرهابي وغيره من الفاعلين! أمّا على المستوى الاجتماعي، فإنّ المراقب يدرك أنّ هناك اتحاد تام ما بين استراتيجية النظام وهذه الوسيلة الإعلامية المعارضة في تكوين وإعادة هيكلة الوعي الثقافي والاجتماعي السوري وفق رؤى المستبد المحلي والدولي! وإنّ الاختلاف السياسي بين الوسيلة الإعلامية المعارضة والوسيلة الإعلامية المناصرة لنظام الأسد، ليس ذا أهمّية إذا ما كان هناك اتفاق على الخطوط الثقافية والاجتماعية، لأنّ المتغير السياسي العميق يٌصنع على عين المتغير الثقافي والاجتماعي لا شك، وبالتالي ليس كل وسيلة يشتم خطابها نظام الأسد هي وسيلة ثورية، الوسيلة الثورية هي التي يستند خطابها على مبادئ واعية منبثقة من إرادة الفاعل الاجتماعي والثقافي السوري وهذا غير موجود في تلفزيون سوريا على الإطلاق!

 ما يبدو أنّ المراد اليوم هو تنظيم الفوضى الفكرية والثقافية والاجتماعية وفق رؤى المستبد لإعادة المجتمع لحظيرته السياسية! وعليه إنّ هذه الوسيلة الإعلامية المعارضة وفق سياستها الحالية وكادرها الإداري الأعلى لا تنظّم طاقات الإعلاميين الثوريين في سبيل انتزاع الحقيقة، بل تسعى إلى تعليب هذه الطاقات خلف قضبان المتغير المؤسساتي، بغية تسويق حقيقة معلّبة بهدف تدجين الإعلاميين والخطاب الاتصالي وفق الإرادة السياسية لا القوة الشعبية المتمرّدة على سطوة الاستبداد! اليوم أصبح هناك شك أقرب إلى اليقين لدى المجتمع السوري أنّه لا يمكن لهذه المؤسسة الإعلامية باستراتيجيتها الحالية أن تتفاعل مع جمهورها ومنتقدي سياستها البتّة، لأنّها ببساطة تسعى لتسويق حقيقة سياسية واجتماعية مسبقة التصنيع، لذا مثل هذه المؤسسات لن تسعى إلى التنقيب عن الحقائق والنهوض بالمجتمع  أو تحريره من سطوة الاستبداد! اليوم باختصار نعيش في مجتمع افتراضي موازي يُصنع من خلال التنسيق بين مؤسسات الثورة على الصعيد السياسي والاعلامي والقانوني والتعليمي والعسكري، ولكن هذا التنسيق انطلاقا من مصالح الأخر وليس انطلقا من المصلحة الوطنية! لا بد أن يكون هناك إجراءات حقيقة على الأرض من قبل كافة منظمات وأحزاب وتيارات المجتمع المدني للضغط على هذه المؤسسات التي تستورد كوادرها وعبواتها الإعلامية وتتحالف مع الأدوات الفنية المؤيدة والمعارضة ضد المجتمع السوري، حتى يتم تحريرها من هذا الاستبداد والارتهان الوظيفي الثقافي والاجتماعي!

___________________________

*دكتوراه في الإعلام والعلاقات العامة والتسويق السياسي

زر الذهاب إلى الأعلى