ثلاثية السيطرة الخفية: ديناميات اللاوعي في مواجهة الخوف والطمع والحماقة
الخوف الذي يكبل طموحاتنا، والطمع الذي يشوه رؤيتنا، والحماقة التي تحجب عنا الحقائق. هذه ليست قيوداً أبدية

براء الجمعة – * العربي القديم
توقف لحظة وتأمل هذا المسرح العجيب الذي نسميه “الحياة”. تناقضات صارخة، قرارات تبدو أحيانًا ضربًا من الجنون، وفوضى أخلاقية وإدراكية تلف عالمنا كضباب كثيف. في خضم هذا التعقيد، نميل بفطرتنا إلى البحث عن قوى عظمى تحرك الخيوط من وراء الستار: سياسات متقلبة، اقتصادات متوحشة، أيديولوجيات متعصبة، وحتى مؤامرات تحاك في الظلام. نلقي عليها بمسؤولية هذا العبث والفوضى. لكن، ماذا لو كانت القوى التي تدير هذه الرقصة أكثر بساطة، وأعمق جذرًا في طبيعتنا البدائية؟ أقل تجريدًا، وأكثر التصاقًا بقلب كل واحد منا؟
أستحضر هنا مات قاله ألبرت أينشتاين: “ثلاث قوى عظيمة تحكم العالم: الخوف، الطمع، والغباء.” قد تبدو هذه العبارة للوهلة الأولى مجرد نكتة سوداوية من عالم الفيزياء العبقري، لكنني أرى فيها، في عمقها، تلخيصًا دقيقًا للبنية الأساسية التي تحكم قراراتنا عندما يغيب سلطان الوعي.
الخوف: الجلاد الصامت في أعماقنا
الخوف، يا صديقي، هو أول سلطان يفرض علينا طاعته. ليس لأنه يكن لنا الكراهية، بل لأنه – كما نتخيل – يسعى لحمايتنا. نتذكر جميعًا تلك الليالي الحالكة في طفولتنا، وتلك القصص المخيفة عن الغرباء والحيوانات المفترسة. لم نولد خائفين، بل تربينا على الخوف كلغة أولى للطاعة. يخوفوننا من الظلام، من المجهول، من الفقر المدقع، من الفشل المؤلم، وحتى من الحب العميق ومن شبح الموت الذي يتربص بنا جميعًا. والأدهى، يخوفوننا من ذواتنا، من قدرتنا على التغيير والخروج عن المألوف.
باسم الخوف، كم مرة اضطررنا للكذب لتجنب العقاب؟ كم مرة تخلينا عن آرائنا الحقيقية لمجاراة القطيع؟ كم من كلمة ابتلعناها مرغمين، خشية أن تُفهم خطأ وتجر علينا الويلات؟ وكم من علاقة مؤذية سمحنا لها بالاستمرار، فقط لأن شبح الوحدة كان أشد رعبًا في نظرنا؟ ألا تتذكر أنت أيضًا تلك الاختيارات المهنية أو التعليمية أو الاجتماعية التي سلكناها بحثًا عن “الأمان” الزائف، متنازلين عن شغفنا ورغباتنا الحقيقية؟
الخوف يجعلنا نكدس الأموال لا لنعيش حياة كريمة، بل لنتحصن ضد تقلبات الزمن. يجعلنا نصمت أمام الظلم الصارخ، لأن صوت الحق قد يكون مكلفًا. يجعلنا نتنازل عن جزء من ذواتنا يومًا بعد يوم، حتى لا يتبقى من صوتنا سوى همسة خافتة. الخوف لا يحتاج إلى سياط أو قيود مرئية، يكفيه أن يُقنعك بوجودها في عقلك.
الطمع: الجوع الذي يرتدي قناع البراءة
على النقيض من الخوف الذي يلوح لنا بالنقص، يأتي الطمع ليغوينا بوهم الوفرة والزيادة. هو شقيق الرغبة، لكنه فقد بوصلته الأخلاقية. الطمع لا يهمس قائلًا “أريد ما يكفيني”، بل يصرخ بملء فيه “أريد المزيد!”. طمع في المال الذي لا يشبع، في الحب الأناني، في الشهرة الزائفة، في السلطة المطلقة، وحتى في امتلاك الآخرين. والغريب في الأمر أن الطمع نادرًا ما يأتي عاريًا، بل يتوشح دائمًا بذرائع أخلاقية زائفة: “أريد لأساعد المحتاجين”، “أستحق الأفضل بعد كل هذا العناء”، “هذه فرصتي الذهبية التي لن تتكرر”.
تخيل معي كم من خيانة زوجية حدثت بدافع الطمع في علاقة جديدة أكثر إثارة؟ كم من غش وتزوير شاب التجارة بحثًا عن الربح السريع؟ كم من تلاعب بالوظيفة واستغلال للنفوذ حدث فقط لأن “الفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة”؟ الطمع يزين الاستغلال، ويبرر الفساد، ويمنح ضمائرنا قسطًا من الراحة الكاذبة: “الجميع يفعل ذلك!”. وهكذا، لا يفسد الطمع الفرد فحسب، بل ينخر في جسد المجتمع ويفرغه من قيمه العدلية.
لكن الطمع ليس دائمًا مالًا أو سلطة. أحيانًا يتجسد في التعلق العاطفي المفرط، في إصرارنا على تملك من لا يريدنا باسم الحب، في فرض أنفسنا على الآخرين بتضحيات مبالغ فيها ننتظر مقابلها. كم من شخص أهلك ذاته وروحه لأنه طمع في أن يكون محبوبًا بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب سعادته وكرامته؟
الحماقة: الطاغية المبتسم الذي يسكن بيننا
أما الملك الثالث الذي يحكمنا في صمت، فهو الحماقة. ليس ذلك الصراخ الغاضب للطاغية المتجبر، بل ابتسامة ساذجة تخفي خلفها قوة تدميرية هائلة. الحماقة هنا ليست بالضرورة نقصًا في الذكاء الفطري، بل هي غياب الوعي النقدي، وإنكار صارخ للواقع. إنها التصفيق بحماس للجمهور لمجرد أنهم يصفقون، والإيمان بأكاذيب متكررة فقط لأنها تُقال بصوت عالٍ بما يكفي. الحماقة هي أن نصدق كل ما يعرض أمام أعيننا على شاشات التواصل الاجتماعي، وأن نشارك منشورات لا نفهم مغزاها، وأن نعيد إنتاج القسوة والتنمر باسم النكتة والترفيه.
في كل جريمة بشعة، تجد حماقة تبررها في عقول مرتكبيها. في كل تعصب أعمى، هناك حماقة تغذيه وتجعله يستمر. وفي كل سلطة فاسدة، هناك جموع من الحمقى يهتفون لها بحماس. الحماقة ليست بريئة دائمًا، بل هي أحيانًا شريك صامت في الجريمة، بصمتها المطبق، بكسلها العقلي، بجهلها الطوعي الذي يفضل الراحة على عناء التفكير.
لماذا تستأسد هذه القوى علينا؟
ربما لأننا ببساطة لم نتعلم كيف نواجهها. في نظام تربوي غالبًا ما يقوم على الطاعة العمياء، لا نشجع أطفالنا على التساؤل والبحث عن الحقيقة بأنفسهم. في مجتمعات تخشى النقد البناء، نُربى على ثقافة التصفيق لكل ما هو سائد. في بيئات تعتبر الثراء الفاحش والغلبة المادية علامات النجاح الوحيدة، نغفل عن حقيقة أن الطمع قد يكون شرًا مزينًا ببريق كاذب. وفي عائلات ترفض الاعتراف بالجهل كخطوة أولى نحو المعرفة، لا يوجد مساحة لتعلم التفكير النقدي المستقل.
منذ نعومة أظفارنا، نُمنع من قول “لا” عندما يجب أن نقولها، ويُكافأ من يقول “نعم” دون تفكير أو تمحيص. يُرغبوننا بالحلويات اللذيذة ويخيفوننا بالقصص الخرافية عن الغول المخيف. وهكذا، نكبر ونحن نحمل في داخلنا ذلك الطفل الصغير الخائف والجائع والمطيع. نتخذ قرارات مصيرية بناءً على هذه البرمجة المبكرة، ثم نتفاجأ عندما نكتشف أننا لم نكن أحرارًا كما ظننا.
هل هناك مخرج من هذا الحكم الخفي؟
نعم، أعتقد ذلك. لكن هذا المخرج لا يأتي من الخارج، لا من ثورات صاخبة ولا من أيديولوجيات براقة. بل يبدأ من تلك اللحظة الصامتة من الوعي الداخلي، عندما يقرر الإنسان بصدق أن يعيد تعريف علاقته بذاته وبالعالم من حوله: أن يتصالح مع مخاوفه العميقة ويتجاوزها بشجاعة. أن يضبط جماح طمعه الأناني ويرتقي بروحه فوق الماديات. وأن يكشف زيف حماقته وجهله ويتعلم بنهم وشغف.
بدلًا من أن نوجه أصابع الاتهام إلى الآخرين، فلنبدأ بتوجيهها إلى ذواتنا: ما هو الخوف الذي يمنعني الآن من عيش الحياة التي أستحقها؟ أين يسرقني طمعي من مبادئي وقيمي الحقيقية؟ متى كانت آخر مرة اتخذت فيها قرارًا بناءً على حماقة أو جهل متعمد؟ قد تبدو هذه الأسئلة بسيطة للوهلة الأولى، لكنها تحمل في طياتها بداية بصيرة حقيقية نحو التغيير.
الوعي والشجاعة والحرية: قوى التحرر الإنساني
تلك ليست دعوة إلى يوتوبيا مثالية، بل هي رحلة نمو وتطور مستمرة نخوضها مع ذواتنا. هي سعي دؤوب للارتقاء فوق ثلاثية تسكن أعماقنا: الخوف الذي يكبل طموحاتنا، والطمع الذي يشوه رؤيتنا، والحماقة التي تحجب عنا الحقائق. هذه ليست قيودًا أبدية، بل بقايا ضعف بشري يمكن تجاوزه. وفي داخلنا تتأصل ثلاث قوى عظيمة: الوعي، كبوصلة تهديننا في دروب الحياة؛ والشجاعة، كقوة دافعة تخطو بنا نحو آفاق أرحب؛ والحرية، كحق أصيل في رسم مسارنا الخاص.
إنها دعوة يومية لإعادة صياغة أنفسنا، لاتخاذ قرارات واعية تنتزعها من براثن الخوف، ولتهذيب رغباتنا الجامحة بضوابط قيمنا، ولتنوير عقولنا بفضيلة التفكير النقدي لنرى العالم بوضوح وجلاء.
في هذا العصر المليء بالضبابية والتضليل، حيث تُستغل المبادئ وتُشترى الذمم، يصبح التمسك بجوهر إنسانيتنا أسمى غاية. أن نفكر بعمق في زمن السطحية، أن نشعر بصدق في عالم التزييف، وأن نختار بحرية في وجه الإملاءات الخفية. فالإنسان الحقيقي ليس دمية تحركها خيوط الخوف والطمع والحماقة، بل هو كائن واعٍ، شجاع، وحر… يسعى دومًا للتحرر من قيود ذاته، ليصنع مصيره بيده، لا بيد سادة خفيين.
_____________________________________
* مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي