قصتي مع الفن ومع فناني القصر الجمهوري: فنانو الامتيازات الكبرى وسبّوبة تماثيل حافظ الأسد (3من3)
أسعد فرزات – العربي القديم
قلت في الحلقة الثانية من هذه السلسلة إن ظاهرة فناني القصر الجمهوري، ولدت في الأساس من رحم ظاهرة المظليين وما تم منحه لهم من امتيازات واستثناءات وعلامات إضافية في القبول الجامعي، فقد تمكن هؤلاء من اختراق كافة الكليات الجامعية وفرض “نموذجهم” كورقة رابحة داخل الحرم الجامعي… ورقة تهزم أي موهبة أو تفوق أو نبوغ. وعندما يذكر المظليون لا بد أن يقفز إلى ذهن من عاصر تلك المرحلة السوداء: الرائد الركن المظلي الفارس باسل الأسد… وعند باسل الأسد تكمن العقدة، فقد حدث أن تعرف طالب فقير في كلية الفنون على باسل الأسد في نهاية ثمانينات القرن العشرين وبداية التسعينات وبدأ هذا الأخير يكلفه بمشاريع فنية منها بانوراما حرستا.. حيث استقطب فنانين كوريين لتنفيذها، وهكذا انتقل بين ليلة وضحاها من طالب فقير بسيط إلى متعهد مشاريع فنية من أصحاب الملايين.. وصلته ليست مع الحزب أو قائد فرقة أو رئيس شعبة أو حتى عضو قيادة، بل مع القصر الجمهوري من خلال ابن سيد هذا القصر المحروس باسل.
استفاقت الخلفيات والصلات السلطوية وبعض صلات القربي البعيدة والقريبة، وانتعش الذوق الفني المتدني لدى الطالب والمطلوب منه، لتشكل حلفاً صار يعرف بـ” فناني القصر” أحد النحاتين الذين كانت ترسي عليهم مسابقات تنفيذ تماثيل الأب القائد، أو تماثيل أخرى، وهو يعتبر أيضا من المحسوبين على فناني القصر الجمهوري. ويقال إنه كان يكلف نحاتين متمكنين وخاصة بالاسلوب الواقعي كي ينفذوا التماثيل التي فاز بها.. مستغلا أنه ليس لديهم حظوة مثله، وأن وضعهم المادي سيجعلهم يقبلون بالفتات مقابل إنجاز العمل الذي سيضع اسمه عليه… وبعد أسابيع وأشهر من العمل المضني الذي يصرفون فيه عصارة موهبتهم، يحصلون على ما يقال له بالعامية: “من الجمل اذنو” وهو يحصل على باقي الجمل!
أما كيف تمت الهيمنه على المؤسسات الفنيه كافة من قبل افراد بعيدا حتى عن حزب البعث وأصبحوا غير ملزمين بقرارات الحزب أصلا نتيجة دعمهم من الباب العالي.. فإن النتيجة هي واحدة برأيي… إنها نقل صلاحيات حزب البعث بالهيمنة على تلك المؤسسات الفنية وأدلجتها وإفسادها وتسفيه معايير العدالة والمساواة ورعاية الفن فيها، لتصبح بيد أفراد تابعين للأجهزة الأمنيه والقصر الجمهوري، وإعطاءهم كافة الصلاحيات. لم تكن النتيجة مختلفة أبداً… ولم تتحسن فرص الفن النظيف على الإطلاق فقد انتقلنا “من تحت الدلف لتحت المزراب” كما يقول المثل الشعبي… وكل ما هنالك أنه برزت شريحة جديدة حصل أفرادها على كافة الميزات والدعم والمسابقات الفنية والسفر الخ.. لترسو عليهم، وعليهم فقط، المنح والفرص والعطاءات… حتى إن أحدهم كان المسؤول عن بناء ضريح الباسل، الذي تحول إلى ضريح الأب القائد بعد وفاته، والذي كلف الملايين وأصبح مستشارا للشؤون الفنية عند الرئيس… وآخر أصبح مستشار السيدة الأولى للشؤون الفنية والتراث… وقد سمعت أنه أقام قبل فترة ندوة للتأكيد على الشخصيتين المسرحيتين في مسرح الظل (كركوز وعيواظ) وضرورة إعادة نشاط مسرح كركوز وعيواظ والاهتمام به.. لكن هذا المستشار تناسى أن الفنان زكي كورديللو، خريج المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي كان من أهم من عمل واهتم بمسرح خيال الظل وبشخصية كركوز وعيواظ هو معتقل منذ سنوات في سجون النظام، هو وابنه، وأن الاهتمام بتنشيط خيال الظل يتطلب أولا المطالبة بإطلاق سراح هذا الفنان بدل إقامة الندوات وإطلاق الشعارات الكاذبة!
اقرأ أيضاً: قصتي مع الفن ومع فناني القصر الجمهوري: بدايات ملهمة وروّاد صادقون (1 من 3)
وتتشعب ظاهرة فناني القصر الجمهوري لتشمل نشر القبح والتشويه، فأحدهم حصل على قصر كبير وجميل في دمشق القديمه لإقامة نشاطاته الفنية التي تصب في خانة تلميع هذا النظام التقدمي الذي يدعم ويشجع الفن، ولم يستخدم الكيماوي لقتل شعبه أبداً، ولم يهجر أكثر من نصف هذا الشعب في أصقاع الأرض أبداً، ولم يدمر مدنا كاملة في سوريا بالقصف الجوي أبداً… إنه نظام همه رعاية الفن التشكيلي والموسيقى والدراما وتشجيع الفنانين على إقامة ورشاتهم الفنية للتعبير عن جذوة الإبداع الملهمة، ولعل آخرها إقامة ورشات بشوارع دمشق القديمة وتشويه جدرانها بزعم أن الوضع بدمشق طبيعي جدا.. لا غلاء ولا جوع، ولا ميلشيات ولا أجهزة أمن ولا عشرات آلاف من المعتقلين يقبعون في السجون بلا تهم… بل انشغال بالإبداع يطال حتى الجدران القديمة!
ومن المفارقات المضحكية المبكية بالنسبه لظاهرة فناني القصر الجمهوري، أن هناك رتباً اعتبارية، وأن هناك فنانين تبدأ رتبهم من عريف حتى لواء.. والألوية الذين ذكرتهم من قبل، يحصلون على ميزات لا يمكن لفنان برتبة عريف أن يحصل عليها…
أصحاب الرتب المتدنية منهم يحصلون على الفتات وعلى القليل. منهم من يطرق باب النقابة ويتسول للنقيب أيام المرحوم النقيب حيدر يازجي، متمنيا لو أن النقابة تقتني له عملاً أو منحوتة وتدفع له ما يستحق… طبعاً أغلب المنحوتات التي يأتون بها عبارة عن رأس صغير لحافظ الأسد مطلي باللون الذهبي المشع بطريقة رديئة وبازارية، فيكلفهم النقيب العطوف بإنجاز العديد من النسخ، ويحصل لهم على كتاب من قبل القيادة القطرية لتوزيع هذه الإبداعات على المؤسسات والدوائر الحكومية… وأذكر مرة أني ذهبت في زريارة إلى صديق مهندس، يعمل مديراً عاماً لإحدى المؤسسات الحكومية، فشاهدت أمامه على الطاولة ما لالايقل عن عشرة رؤوس صغيره لحافظ الأسد… نظرت حوالي في الغرفه لأتأكد من أنه لا توجد أذن ستسمع حديثنا، ثم قلت له: “يا رجل والله من كثر الرؤوس التي على طاولتك ما قدرت شوف راسك” فضحك ثم قام من مكانه وجلس بجانبي وهمس في أذني: “يا ريت تحكيلنا مع نقابة الفنون الجميلة يوقفوا عملية التصدير”
على الطرف الآخر ثمة فنانون كثر مبدعون حقيقيون، قضوا سنوات عمرهم يصارعون الإهمال والعازة والفقر… ونتيجة الوضع السيئ لغالبية الفنانين، فقد كانوا ينتظرون المعرض السنوي الذي تقيمه وزارة الثقافة، فمن خلاله يحصل قسم منهم على مبلغ مالي زهيد ثمنا للوحته التي يشارك بها، هذا إذا وافقت اللجنة على اقتناء لوحته.. ومكا أدراك ما اللجنة (!!!) أما فنانو القصر الجمهوري فغالبيتهم لا يشاركون.. بمعنى أنها مبالغ تافهة وفتات لا تناسب مقامهم الجليل.
ومرة شاهدت أحد الفنانين مرة وهو خارج من وزارة الثقافة تكاد الدمعة تفر من عينيه… وحين سألته عن الحال قال لي: “كنت أعتقد أنهم اقتنوا لوحتي وكنت أنتظر هذا المبلغ لأني وعدت أسرتي إن قبضت فلهم عزيمة غداء في عين الفيجة والباقي سأسدد منه ديناً علي.. لكن اللجنة لم تلتفت للوحتي كما قيل لي”.
اقرأ أيضاً: قصتي مع الفن ومع فناني القصر الجمهوري: طلاب يرسمون أفضل من أساتذتهم.. وبعثيون يحتلون المقاعد (2من3)
وطبعاً حديث اللجان يطول، فهناك لجان غير موجودة أصلا لكنها تقرر وتأخذ وترفض… وعندما كان أحد فناني القصر، وهو نحات شهير، مديرا للفنون الجميلة طلب مني ذات مرة، أن أرسل له عملين من أعمالي للمشاركه ببينالي في ايطاليا ففعلت. بعد فتره قصيرة، أخبرني بأنه يعتذر لأن اللجنة القادمة من إيطاليا اختارت أعمالا أخرى. فشكرته وقلت له لا مشكلة. بعدها بفترة قصيرة شاهدني في الطريق أحد الموظفين الذين يعملون لدى هذا النحات بمديرية الفنون، وهو مصري الأصل، وقد أبدى تعاطفه الكبير معي ثم قال لي: ” أنا كنت موجوداً في المكتب أثناء المحادثة الهاتفية عندما اتصل بك. صراحة لا يوجد لجنة إيطالية ولا مالطية يا أستاذ… وبالمناسبة هذه الديباجة قالها لثلاثة فنانين غيرك.. هو اعتمد من البداية لوحات الفنانة إياها وخلاص.. لكنه طلب منك لوحات وفعل ذلك مع غيرك ليقول شفتو أنا حاولت أن أشارككم لكن السبب هي اللجنة”
اللجنة وهمية طبعا.. والفنانة التي أرسلت أعمالها هي زوجة أحد أبرز فناني القصر.
في ظل هذا المناخ عانى الفنانون التشكيليون السوريون خلال نصف القرن مضى… فتفتحت مواهب ظنت أنها ستلقى الرعاية، وقتلت مواهب قبل أن تأخذ فرصتها، وهاجرت مواهب نجت بنفسها قبل أن تموت كمدا وقهرا.. وتصدر الساحة الكثير من عديمي الموهبة، والقليل من الموهوبين المبدعين الذين اضطروا أن يماشوا الوضع السائد والقيم السائدة حتى لو خالفت قناعاتهم النبيلة… ولأن السلطة تلد سلطة أعلى ثم أعلى حين تدخل الحزبية والفساد في أروقة الفن… وكما همّش البعثيون المستقلين، ثم همّش فنانو القصر البعثيين، جاء أخيرا من يقفز حتى فوق فناني القصر الجمهوري، مستمدا صلة قرابة من الدرجة الأولى بالسيدة الأولى، ومقتطعاً جزءا من مبنى كلية الفنون الجميلة ليغدو مدير المركز الوطني للاتصالات البصرية… حيث تلد السلطة مراكز وطنية، ويصبح الفنانون في خدمة كل شيء إلا الفن.