قصتي مع الفن ومع فناني القصر الجمهوري: بدايات ملهمة وروّاد صادقون (1 من 3)
أسعد فرزات – العربي القديم
بدأت حركة التجديد في الفن التشكيلي بسوريا في بداية الستينات على يد مجموعة من الفنانين الذين كانوا قد حصلوا على منح من قبل وزارة التعليم والتربية في منتصف الخمسينات لدراسة الفن التشكيلي في أوروبا، نتيجة مواهبهم المتميزة آنذاك.
جاء ذلك بعيداً عن الوساطات والمحسوبيات التي أصبحت في عهد حكم البعث هي السائدة، وقد عادوا بعد أن أنهوا دراستهم في إيطاليا وفرنسا والقاهرة، حاملين معهم أفكارا جديدة نتيجة اطلاعهم على التيارات الحديثة في الفن والأدب، التي ولدت في أوربا آنذاك، والتي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية حيث أصبح الفن أكثر انفتاحا وحرية وتقبلا للتجارب الجديدة. تخلى الفنانون عن الكثير من القواعد الصارمة التي كانت تقيدهم، حيث الحرب القاسية بنتائجها المدمرة، جعلتهم يبحثون عن طرق جديدة للتعبير عن انفسهم وعما خلفته الحرب في حياتهم ومجتمعاتهم.
من أهم الفنانين السوريين الذين قادوا حركة التجديد آنذاك نذكر منهم: فاتح المدّرس ابن حلب الذي درس في أكاديمية الفنون في روما بين عامي 1954 – 1960 وعاد متأثراً بالسريالية… وقد استطاع فاتح المدرس أن يكون عنوانا بارزاً من عناوين الفن التشكيلي السوري، عبر تشكيل أسلوبية خاصة به صارت جزءا من هوية هذا الفن.
وهناك لؤي كيالي الذي أوفدته وزارة المعارف السورية إلى إيطاليا عام 1956 للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة، فعاد بعد أن حصد هناك أكثر من ميدالية وجائزة، باحثاً عن أسلوبه الشخصي المتفرد، متنقلا من الواقعيّة إلى الواقعيّة الشاعريّة وصولاً إلى الواقعيّة التعبيريّة فالواقعيّة الجديدة.
أما نذير نبعة فقد درس الفن التشكيلي في القاهرة بين عامي 1959- 1965 وعاد متأثراً بالمدرسة المصرية الواقعية، مع بعض الملامح السريالية، ليلتفت لاحقاً إلى الحضارة السورية القديمة مازجا بين تفاصيل المكان ووجوه البشر وإرث الحضارة وبين بهجة الألوان ومهرجان الطبيعة في مسقط رأسه (المزة) حين كانت قرية ملاصقة لدمشق مشهورة بالورود… ومروان قصاب باشي الذي هاجر إلى ألمانيا عام 1967 ودرس الفن التشكيلي في معقل التعبيرية الألمانية (برلين) علي يد الأستاذ هانز ترير. ومحمود حماد الذي درس في إيطاليا وعاد متنقلا من الطابع الواقعي الانطباعي الذي اشتهر به في بداياته، وصولا إلى تشكيل «جماعة دمشق» مع كل من نصير شورى وإلياس الزيات والتي كانت نواةً للفن التجريدي في سورية، ناهيك عن مشاركته في تأسيس كلية الفنون الجميلة وتأليف مناهجها، ثم تولي عمادتها من سنة 1970 حتى سنة 1980. إضافة إلى الشقيقين أدهم اسماعيل ونعيم اسماعيل القادمين مع شقيقهما الأديب صدقي إسماعيل من أنطاكية في اللواء السليب، حيث برزت خصوصية أدهم إسماعيل في سعيه لتأصيل حداثة فنية قائمة على توظيف عناصر الأرابيسك والخطّ العربي والزخارف الهندسية متأثرا بحركة المد القومي العربي…
وهناك برهان كركوتلي وخزيمه علواني والياس زيات والعديد من الرواد الذين شكلوا بإبداعاتهم مسيرة الفن التشكيلي السوري الحديث.. هؤلاء بالإضافة لبحثهم الجمالي كانت تهمهم قضايا الإنسان بشكل عام، وكانوا على تماس حقيقي مع قضايا عصرهم وخاصة القضية الفلسطينة التي جعلت الفنان نذير نبعة ينتسب إلى حركة “حركة فتح” في ذروة صعود العمل الفدائي، حيث اشتغل لها عددا كبيرا من الملصقات السياسية، كما جعلت لؤي كيالي يحرق لوحات معرضه (في سبيل القضية) عندما وقعت هزيمة حزيران ٦٧ والتي تزامنت مع إقامة معرضه حيث دخل بعدها بمرحلة اكتئاب استمرت معه حتى وفاته حرقا بمرسمه عام 19٧٨ عن عمر يناهز ٤٤ عاما.. عدا عن بقية الفنانيين الذين قدموا تجارب مهمة أيضاً، حيث كانت المقاومه هاجسا فنيا وسياسيا حقيقياً وليست إتجاراً شعاراتياً ونخاسة وسمسرة رخيصة كما يحصل الآن في مهزلة ما يسمى بـ “محور المقاومة والممانعة”. لقد اهتم كل من نذير نبعة اهتماماً واضحاً بموضوع الشهيد أما برهان كركوتلي فقد اهتم بموضوع الحكاية الشعبية التي تستحضر إرث الانتماء بلوحاته التي لاقت صدى كبيرا في ألمانيا…
هؤلاء الفنانون الذين كانوا على رأس حركة التأسيس والتجديد معاً، فقد استطاعوا من خلال مواهبهم العظيمة وتفاعلهم من ثفافة الفن وتطوراتها عالمياً أن يؤسسوا وأن ينتقلوا بين المدارس والاتجاهات كي يواكبوا حداثة هم صانعوها… وهم أنفسهم استلموا الصرح العلمي فيما بعد عندما تأسست كلية الفنون الجميلة بدمشق، وتخرج على أيديهم أهم الفنانين السوريين من الجيل الذي تلاهم واستلموا دفة التجديد التالي معهم بعد أن حصلوا أيضا على منح خارجية تخولهم إغناء كل تلك التجارب والتيارات، بعيدا عن تدخل حزب البعث وفرض هيمنته كما حصل فيما بعد في نهاية السبعينات، عندما راح حزب البعث بشعاراته وأساليبه المقيتة يهيمن على كافة الصروح العلمية، وينشر المخبرين في الجامعات تحت مسمى “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا” الذي كان يسميه الكثير من السوريين “اتحاد مخبري سوريا” بالإضافة ‘لى الكوارث والجرائم التي ارتكبت في بداية الثمانينات وخاصة بعد مجزرة حماة، حين تم تشكيل ما يسمى “الشبيبيين والمظللين” بقيادة وتحت إشراف مجرم الحرب رفعت الاسد وبموافقة أخيه حافظ.. وقد منح الحق بدخول لهؤلاء بدخول أي فرع جامعي يرغبون بما فيه الطب عبر علامات إضافية تمنح فوق علاماتهم الأصلية في شهادة الثانوية باسم “علامات المظليين” وقد استثنوا عملياً من مجموع العلامات المطلوب.. أما بالنسبة لكلية الفنون الجميلة فكان يستثى الطالب المظلي من المجموع ومن الموهبه معاً.. وهنا بدأت الكارثه في هذا الصرح الفني الذي كان رافعة الفن التشكيلي في سورية المتوثبة للتعبير عن ذاتها ومواهبها.
الحلقة الثانية غداً: طلاب يرسمون أفضل من أساتذتهم.. وبعثيون يحتلون المقاعد
شكرا أستاذ أسعد على هذه الإضاءة