الرأي العام

نوافذ الإثنين | أنا واسطنبول قبل عشر سنوات

يكتبها: ميخائيل سعد

وتشاء المصادفات أن أصل بيروت في صيف 1965 للعمل في أحد مطاعمها كـ “مرمطون”. يعني جلّا صحون، وكان عمري 15 سنة؛ مراهقا سوريا يعرف تفاصيل شوارع بيروت عن ظهر قلب من الروايات السياحية الرخيصة التي كانت تُكتب في خمسة أيام للمراهقين “العرب”، والتي كانت تهتم بتفاصيل الأفخاذ النسائية والمرابع الليلة، والشوارع التي تقطعها الأقدام “العارية” في البحث عنهن.

كنت أعرف بيروت عن ظهر قلب دون أن أراها، وأضاف إلى معرفتي تلك، الشاب “البرجوازي” الحمصي الذي كان يستقل “الأوتومتريس” من حمص إلى بيروت، فبعد أن عرف لماذا أنا ذاهب إلى بيروت، والوضع المالي لمراهق فقير، قال: في بيروت، جميع فئات الناس تستطيع العيش، الفقير والغني، المراهق والطاعن في السن، الفتاة الباحثة عن الحب والرجل الباحث عن اللاهوت، يمكنك أن تجد الجميع في بيروت.

أما أنا فقد كنت في ذلك العمر في بيروت للبحث عن الحلم الذي كونته عندي القصص الرخيصة والعمل، وعدت إلى سوريا بعد ثلاثة أشهر دون أحلام، وفي جيبي 200 ليرة لبنانية.

وتشاء المصادفة مرة أخرى أن أصل اسطنبول في صيف 2014 للعمل في المطبخ الثقافي والسياسي، ومرة جديدة كـ”مرمطون” للصحون التي يتركها كبار “المثقفين” على موائدهم بعد الانتهاء من وجباتهم الدسمة، ولكن هذه المرة كان عمري 65 سنة!

 كنت ما أزال مراهقا، إلا أن مراهقتي كانت في السياسة والثقافة، رغم زوادتي التي تتكون من مئات الساعات؛ قراءة ومشاهدة مسلسلات عن الحياة العثمانية والتركية، ولكن مع ذلك لم أتمكن من معرفة اسطنبول ذهنيا كما كنت قد عرفت بيروت. وكان لا بد لي من اكتشاف المدينة وحيدا، دون أن أنفي وقوعي في حبها قبل أن أصلها إليها أصلا. وبعد مضي حوالي أربعة أشهر على تجوالي في المدينة تجمعت لدي بعض الملاحظات، والكثير من المعطيات الجديدة التي كنت أبحث عنها، عن علاقتي، ”كمسيحي“، بالإسلام بشكل عام، وعن الإسلام العثماني، كما رأيته في الآثار، بشكل خاص.

أعود الآن إلى وطني الآخر كندا، للأسف ليس سوريا، محملا بأطنان من الأحلام ينوء بحملها رجل كهل مثلي، وببضع مئات من دولارات في جيبي، تبرع بها لي أحد الأصدقاء، تقيني الحاجة، إلى أن أبدأ باستلام راتبي التقاعدي من الحكومة الكندية مع بداية العام الجديد.

”كمشة“ ملاحظات عن إسطنبول عام ٢٠١٤

لا بد لي، قبل تسجيل ملاحظاتي عن اسطنبول، من الاعتراف أنها تصدر عن عين محبة، رغم محاولاتي الجادة أن أكون موضوعيا قدر ما تسمح لي معارفي وبنيتي الفكرية بذلك.

  1. أثناء تنقلي بين الآثار لمشاهدتها وتصوير ما يمكن تصويره منها، كان واضحا أن الدولة التركية قد أنجزت بشكل ممتاز البنية التحتية التي تسهل للسواح إمكانية الوصول إلى هذه الآثار بأسهل السبل، أكان ذلك من خلال علميات الترميم التي لا تتوقف، أو من خلال النشرات والكتيبات السياحية، أو توفر عدد كبير من المكاتب السياحية والأدلاء السياحيين الذين يتكلمون اللغات الأساسية، وكذلك بتوفير وسائل المواصلات المتعددة إلى قرب هذه الآثار، هذا عدا عن المواقع الإلكترونية والخرائط والمعلومات الأساسية عن كل موقع من تلك المواقع. لقد استطاع التركي الذي يعمل في تجارة الآثار أن يقدمها للسائح الأوروبي حسب الصور المسبقة التي تكونت عبر أجيال في عقله عن الشرق عامة، وعن المسلم العثماني خاصة، مما ساهم في رواج هذه التجارة بانتشارها في كل الأمكنة التي يرتادها السواح في اسطنبول.
  2. اسطنبول مدينة نظيفة، وخدماتها جيدة، وقد لفت انتباهي بشكل قوي وانتباه أصدقاء لي أن التركي نظيف في بيته ومكان عمله، في الشارع كما في المقهى، في ورش العمل التي تظهر للمارة كما في البازارات الكبيرة والمتعددة التي تقام في الأحياء، فبمجرد انتهاء البيع تبدأ عملية تنظيف الشوارع، حتى ليستغرب شخص مثلي كيف تمت إزالة كل بقايا الخضار والفواكه والمأكولات بهذه سرعة، عودة الشارع إلى وضعه الطبيعي وكأن لا شيء كان فيها قبل ساعات قليلة. ورغم الازدحام الشديد في الشوارع ووسائل النقل العامة من مترو وقطارات وباصات، إلا أنني لم أستطع في أي يوم من الأيام الــ120 التي أمضيتها متنقلا في المدينة من التقاط روائح الأجساد في هذه الأمكنة، لدرجة أنني شككت بحاسة الشم عندي، وتوجهت بهذه الملاحظة إلى أصدقاء آخرين فأكدوها بدورهم.

 -3  لم يحدث أن شاهدت، اثناء تنقلاتي الكثيرة، أي حالة تحرش جنسي لا في المواصلات ولا في الشوارع..

-4 عندما ينشب خلاف لفظي حاد، قد يؤدي إلى عراك جسدي بين تركيين يتدخل كل الموجودين لفضه سلميا، مرة واحدة فقط تم ضرب أحد الشباب، وقد ساعد المعتدي شخص آخر، ولكن تبين أن السبب في ذلك، محاولة الشاب الذي تم الاعتداء عليه، هي محاولة سرقة بضاعة، وقد يكون أيضا لأنه اتضح للآخرين أنه إيراني.

-5  متوسط ساعات العمل عند الأتراك بحدود 11 ساعة يوميا، وجميع أفراد البيت يعملون، مما ساهم في التنمية الاقتصادية الكبيرة التي تشهدها تركيا.

 -6 المرأة التركية، سواء كانت سفورا أو محجبة، تقرأ في ملامحها ثقة بالنفس وهدوءا وتوازنا في التصرفات، وقد أضاف أحد الأصدقاء ملاحظة هامة في هذا المجال؛ فقد لاحظ أن هذه الثقة الكبيرة والاعتزاز بالذات لا ترافقه خشونة وفقدان للأنوثة التي نلاحظها عند المرأة الغربية، وأضاف، مما لا شك فيه أن للحقوق التي نالتها المرأة أثناء المرحلة الأتاتوركية وتشريعاتها الأثر البالغ في وضع المرأة التركي الآن.

 -7 التركي بشكل عام حريص على ماله، ولكل قرش أهميته، ولكن مع ذلك هو حريص أن يدفع ما عليه للزبون كاملا. ومن الملاحظ أن الأتراك لا يحاولون سرقة السواح أثناء البيع والشراء، وهذا لا يعني أن المدينة خالية من النصابين واللصوص، ولكن الكلام يبقى محصورا بما رأيته ولاحظته.

 -8 أما بما يتعلق بالسوري الموجود في تركيا، أو على الأقل في اسطنبول، ومن خلال ما سمعته من سوريين، فإن الأتراك يعاملونه كالتركي في المؤسسات والمشافي والمدارس، وهذا لا يعني أن الوضع مثالي، ولكنه يبقى أفضل بكثير من وضع اللاجىء السوري في بلدان مثل الأردن ولبنان ومصر والسعودية ودول الخليج الأخرى.

أخيرا:

قبل أربعة أشهر تقريبا وصلت اسطنبول مع مشاريع صداقات وعمل، وها أنا أحضّر حقائبي للعودة إلى وطني الكندي، وفي جعبتي وقلبي الكثير من الصداقات الحقيقية والقصص التاريخية التي ستكون زادي في الأيام الباردة في كندا.

ملاحظة: هذا المقال نشرته عام ٢٠١٤، أي قبل عشر سنوات، عندما كان حلم السوري هو الوصول إلى اسطنبول.

مونتريال في ٢٢/٧/٢٠٢٤

زر الذهاب إلى الأعلى