سير ذاتية ومذكرات

أمي والمظاهرة وعبد الناصر

 أحمد برقاوي- العربي القديم

 أتحدث عن أمي لا بوصفها أمي، أي ليس حديثي حديث الابن الذي يحب أمه ولا شك، ويخلع عليها من حبه صفات عظيمة كما هي عادات العرب في علاقتهم بالأم. بل أتحدث الآن عن ظاهرة في تحولاتها مرتبطة بأمي.

كانت والدتي بديعة محمد أديب الجغليط البسطامي  اليافاوية تمتلك ثقافة غنية  في الأدب واللغة. فهي خريجة دار معلمات القدس سنة ١٩٣٧، وقدت حملت معها طريقة الاحتجاج أيام الاستعمار البريطاني والكفاح ضد الصهيونية وهذه الطريقة هي المظاهرة السياسية، التي ساهمت بها وهي طالبة في دار معلّمات القدس، ومارستها حين عملتْ معلمةً في مدرسة الزهراء في مدينتها يافا. واحتفظت أمي  بهذه الثقافة بعد النكبة وتعيينها مديرةَ مدرسة ابتدائية  في قرية نوى، وكانت هذه المدرسة مختلطة -ذكور وإناث- مع إن اسمها مدرسة نوى للبنات.

 كانت أمي تُخرج التلاميذ والتلميذات في مناسبات سنوية للتظاهر الاحتجاجي والاحتفالي هذه المناسبات هي ذكرى صدور وعد بلفور، ذكرى احتلال فلسطين في 15 أيار، وذكرى سلخ لواء إسكندرون وذكرى عيد الجلاد. وكانت تمر على المدرسة الريفية الذي يستجيب مديرها ليطلبها في المشاركة . .أجل، المظاهرة كانت تعني لأمّي الاحتجاج واستمرار للرفض .

وفي مظاهرة عيد الجلاء كنا نردد نشيد سوريا يا ذات المجد والعزة من ماضي العهد… لكن حَدَث الوحدة مع مصر عام ١٩٥٨ قد أدخل فكرة الاحتفال  بعيد إعلان الوحدة في ٢٢ شباط من كل عام، والذي تُحضّر له المعلمة المصرية الوحيدة، واسمها فردوس، قبل شهر من تاريخ الاحتفال.

وكانت أمّي تتذمّر منها ومن هذا النمط من الاحتفالات، وأمي لم تكن تحب عبدالناصر. مما جعلها مرّةً، وفي لحظة غضب شديد، تشتم عبد الناصر أمام المعلمة المصرية، التي كتبت فيها التقرير بشتم عبد الناصر، مما دفع مدير التربية في درعا آنذاك (صلاح الدين الزعبلاوي)، للتحقيق معها متعاطفاً، وكان هذا قبل الانفصال. فعوقبت الوالدة بنقلها إلى الحسكة بدءاً من العام ١٩٦١، وقد ألغي القرار بعد الانفصال الذي كانت والدتي متعاطفة معه. واستمرّت بمظاهرات في مدرستها السابقة  كان بعض  السكّان يشاركون في المظاهرة . ثم وجدت نفسها بعد انقلاب 8آذار مرّة أخرى أمام الاحتفال، الذي تقوم به هذه المرّة ثانوية الإمام النووي بتوجيهات من أمين شعبة الحزب آنذاك، والذي كان والدي. ولكنها لم تكن مشاركة في صناعة هذا الاحتفال. وظلّت تمارس إخراج المدرسة للتظاهر بالمناسبات الثلاث حتى 1966. حيث لم يعُد لأحد سلطة على فعل ذلك.

بعد انتقالها لدمشق، عام 1970، أصبحت مديرة مدرسة أسماء العامرية في مخيّم اليرموك، ولكن لا حول لها ولا قوة، في ممارسة نشاط التظاهر، وكانت غالباً ما تتذكّر بحنين أيام التظاهر في القدس ويافا ونوى. فمع الأسدية ماتت المظاهرة الحرّة في سوريا، ماتت مظاهرات الاحتجاجات، واحتفالات الفرح بعيد الجلاء، ووُلدت المسيرات الغنمية، في التظاهرة كنّا نُسقط قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، ونُسقط سلخ لواء إسكندرون ونسقط وعد بلفور، ونغني سوريا يا ذات المجد. ومع المسيرة نشأت الظاهرة الغنمية. لا أدري مَن ذا الذي اشتقّ اسم المسيرة، والتي منها نشأ قائد المسيرة الأوحد، والذي راحت الحناجر الكاذبة تصرخ في المسيرة: إلى الأبد يا حافظ الأسد.

في المسيرة يسير الكبش في الأمام ووراءه يسير القطيع المراقَب، والذي يُشاركُ في المسيرة بأمر المؤسسة. المؤسسات بكل أنواعها من الجامعة إلى المعمل، مروراً بالمدرسة، ودائرة النفوس، و…و… أرجلٌ تمشي إلى مكان ينتظرها فيه الخطيب المتمجّد، الأرجل لا تسمع، وتصفّق، ولكن ليس لما تسمع!! إنها تنتظر نهاية السير لتتحكّم بأرجلها لتذهب إلى المكان الذي تشاء. بموت المظاهرة ماتت الحناجر الصادقة التي كانت تصرخ يسقط، ووُلدت الحناجر الكاذبة التي كانت تردّد: بالروح بالدم نفديك يا…، لم تكن أمي تشارك في المسيرة، ولم يطلْ بها الوقت حتى فارقت الحياة. لكنها، وقبل أن تفارق الحياة تحوّل حنينها إلى يافا، وإلى التظاهر، إلى واقع تعيشه كما لو أنه مازال حياً، وإلى المديرة التي مازالت على رأس عملها في لحظات تمرّدها على وعد بلفور وتقسيم فلسطين وسلخ لواء إسكندرون. وكانت تردّد النشيد: سوريا يا ذات المجد والعزّة في ماضي العهد.

 لقد قتل الحنين إلى يافا أمي، ماتت والدتي وهي لم تعترف بتقسيم بلاد الشام، ولم تعترف بانفصال يافا عن دمشق؛ دمشق التي كان والدها (جدّي) يحمل العائلة صيفاً إليها كل عام.

زر الذهاب إلى الأعلى