سير ذاتية ومذكرات

قصتي مع مقاهي حلب: أسرار وحكايات وعينات ينكرها المجتمع الحلبي

علاء طرقجي – العربي القديم 

هنالك قول مشهور لفيلسوف يوناني ميتافيزيقي عاش في الفترة الواقعة بين 485 و575 قبل الميلاد مفاده: إذا أردت أن تتعرف على مدينة ما عليك التعرف على مقاهيها.

بصراحة هذا القول ليس بمشهور ولم يقله أي فيلسوف هذا القول قمت باختراعه في بداية دراستي في المرحلة الثانوية كي أجعل لهروبي من المدرسة وارتيادي للمقاهي في حلب قيمة وجودية، تقف حصناً منيعاً أمام وابل الشتائم التي كنت أتعرض لها من والدي ووالدتي والتي كانت ترتفع حدتها وتتحول إلى الاستهداف بعيد المدى بمختلف أنواع النعال الموجهة، عندما أقوم باستفزازهم بتبرير فعلي هذا؛ بأني أقوم بتشكيل جوهر حياتي من خلال أفعالي الخاصة.

مقهى البحتري: لاعبو التركس والهاربون من المدارس

تتوزع المقاهي القديمة في مدينة حلب في مركز المدينة وفي محيط ساحة سعد الله الجابري ابتداءً من حي الجميلية مروراً بشارع فندق بارون وصولاً إلى منطقة باب الفرج باتجاه قلعة حلب.

انطلاقاً من هذا التوزع الجغرافي بدأت رحلتي للتعرف على مقاهي المدينة وكانت البداية من مقهى ″البحتري″ في حي الجميلية، قد يخيّل للبعض أن المقهى الذي يحمل اسم الشاعر الكبير الذي ولد في مدينة منبج بريف حلب هو ملتقى ثقافي للشعر والأدب، لكنه في حقيقة الأمر كان ملتقى لأشباهي من الطلاب الهاربين من المدارس والمفصولين منها. يلجؤون إليه لتبادل خبراتهم  في ورق اللعب (الكوتشينة) لكن هذا لا يمنع أن المرء من حين لآخر قد يسمع في هذا المقهى بعض أبيات الشعر، خاصة الهجاء في الأم التي يؤلفها أحد الطلاب لشريكه في لعبة التريكس عندما يقوم بتسمية ختيار الكبة ويأكله.

لم يشدني مقهى البحتري ولم أرتاده لفترة طويلة لأني شعرت بأنه لم يضف لخبراتي ومعرفتي شيئاً بالإضافة إلى أني لست من هواة ورق اللعب ولا أجيد حساب الورق بشكل جيد، فتوقفت عن الذهاب لهذا المقهى خشية أن تكتب في أمي إحدى قصائد الهجاء والقدح.

مقهى النبلاء: عينات ينكرها المجتمع!

انتقلت بعدها الى ″مقهى النبلاء″ الواقع في شارع اسكندرون في ذات الحي ″الجميلية″ والذي وجدت به ضالتي المبدئية؛ فقد كان هذا المقهى نموذجاً غريباً بتركبيته إبتداءً بالنادل الذي يقدم المشروبات للزبائن، والذي كان من الطبيعي أن يتبع الشخص إلى الحمام ويقول له: “دعني أساعدك في قضاء حاجتك” وإلى الآن لايزال هذا اللغز يحيرني، كيف لشخص أن يساعد شخص آخر في قضاء حاجته؟!، وصولاً الى نوعية زبائن هذا المقهى، حيث تجد فيه طلاب البكالوريا الذي يقومون بتقديمها للمرّة الرابعة أو الخامسة، وتجد فيه رجال كبار بالسن يتحدثون عن أطلال سنين عمرهم وعن بطولات عاشوها. جزء صغير منها حقيقي والباقي من تأليف مخيلاتهم الواسعة. كما تجد في المقهى زبائن من عينات اجتماعية كان المجتمع الحلبي ينكر بعضها ويعترف بالبعض الآخر مكرهاً، فهنالك النصّاب الذي يحاول ان يصطاد فريسته، بالعامية (يخورف) حتى ولو بثمن فنجان القهوة، وهنالك من يحب ممارسة الجنس مع الشباب ممن يطلق عليه محلياً ″الطوبجي″ (1) وتجد دائماً في زاوية المقهى اثنين من الزبائن يتحدثون بمشاريع تجارية بملايين الليرات مع العلم انهم لا يحتكمان على ثمن فنجان قهوة الغد.

تعرفت أيضاً في مقهى النبلاء على مدمني الشطرنج والذين إذا حدث بينهم خلاف على حركة ما كانوا قادرين على إعادة جميع الحركات إبتداءً من أول حركة، كما تعرفت على مهووسين موسيقى ال ″Heavy Metal″ والذين كنت أظن أنهم من عبدة الشيطان الى أن أكد لي أحدهم عكس ذلك بقوله: “أستغفر الله أنا لست من عبدة الشيطان … أنا ملحد:.

منتدى الشام: أحاديث السياسة والأدب والماورائيات

بعد مقهى النبلاء أنتقلت الى ارتياد عدة مقاهي، مثل مقهى ″منتدى الشام″ المطل على ساحة سعد الله الجابري والذي كان تجمع حقيقي للمثقفين والرسامين والكتّاب والصحفيين، حيث كانوا يبدأون أحاديثهم في الصباح حول السياسة والفن والأدب والفلسفة والماورائيات إلى أن تأتي فترة الظهيرة فتتحول أحاديثهم الى أسعار البندورة والباذنجان والفجل والكوسا، وأين يوجد أجود لحم عواس في حلب، وهل المامونية من عند حلويات الطرابيشي أفضل أم من عند حلويات مهروسة، أما المساء تتحول أحاديثهم الى جلسات نميمة محورها الأساسي النساء.

مقهى الملخانة: أعمار ما فوق الستين!

أما ″مقهى الملّخانة″ الواقع بين ساعة باب الفرج ومتحف حلب الوطني فقد زرته مرّة واحدة ولم أكررها لأني وجدت نفسي الشاب الوحيد بين جميع الزبائن ممن أعمارهم فوق الستين يلعبون طاولة الزهر بدون أن ينطقوا بأي كلمة وكأن على رؤوسهم الطير وجميعهم يدخنون أركيلة التنباك جلست حينها في زاوية المقهى والجميع ينظر إلي متسائلاً من هذا ″الطنط″.

مقهى الساحل: يانصيب وتفسير أحلام

في مقهى الساحل الواقع في منطقة باب الفرج أيضاً تعرفت على مايسمى ″يانصيب المقاهي″ وهو شبيه باليانصيب العادي والمعروف إلا أنه على نطاق مقاهي معينة في حلب، تشتري رقم معين وتقوم بانتظار السحب لمعرفة ما إذا كان هذا الرقم سوف يربح أم لا، لكن الغريب لم يكن بفكرة يانصيب المقاهي، بل كان بفكرة وجود شخص في كل مقهى مختص بتفسير الأحلام، حيث يروي الشخص حلمه لمفسّر الأحلام هذا فيقول له المفسّر الرقم الذي يجب عليه سحبه أو شراءه.

هذا المفسّر لا يعتمد على مرجعية فلكية أو على كتب تفاسير الأحلام كتفسير ابن كثير، بل يعتمد على منهجية وضعها هو نفسه تقوم بتفسير الأشياء مقابل الأرقام فعلى سبيل المثال: الشجرة في الحلم تعني الرقم واحد والسيارة تعني الرقم أربعة بناء على عدد عجلاتها وهكذا.

عشت بعد مقهى الساحل فترة تخبّط قهواتي أتردد تارةّ الى مقهى جحا وتارةّ أخرى الى مقهى السلام وفي بعض الأحيان أجلس في المقاهي المطلة على قلعة حلب كمقهى الخيزران ومقهى الخان نسبةّ الى خان الشونة، لكن أخيراً وجدت الاستقرار الذي كنت أبحث عنه وذلك في مقهى ميلانو الواقع في شارع بارون في مركز مدينة حلب.

مقهى ميلانو: الحداثة لا تشمل الزبائن

بالمناسبة شارع بارون والذي يوجد فيه فندق بارون الشهير الذي ألقى من أحد شرفاته الملك فيصل خطاب الاستقلال بعد الثورة العربية الكبرى، والذي أقام فيه لورنس العرب والكاتبة البوليسية الشهيرة أغاثا كريستي والجنرال شارل ديغول، والعديد من الشخصيات المشهورة. يعتبر هذا الشارع الصورة المصغرة لمدينة حلب، أما عن أجمل وصف لهذا الشارع فقد سمعته من صديق لي حيث قال: “بأن شارع بارون يمنح الشخص إحساس غريب بالإلفة، يتميز عن كل شيء في حلب حيث يعتبر كل شخص قريب أو غريب أن له حصّة في هذا الشارع”، يوجد به مكاتب السياحة والسفر، وفنادق رخيصة وفنادق أخرى بنجوم، وملاهي ليلية كبرت في العمر وتعبت من نسائها، محلّات صرافة سريّة تطلق على الدولار اسم الأول واليورو اسم الثاني، مطاعم كثيرة الغش فيها يبدأ من رغيف الخبز وبالرغم من ذلك تجدها مليئة بالزبائن، مقاهٍ تصاب بالجنون صباحاً وبالهيستيريا مساءً، بائعو دخان صغار ونصابون وزعران وعاهرات درجة رابعة، شارع بارون كحلب لاينام ويبقى طوال الوقت سهران.

شارع بارون كان سبب إضافي لجعلي أستقر في مقهى ميلانو لحين خروجي من حلب وسوريا، هذا المقهى تأسس على فكرة أن يكون صورة الحداثة لمقاهي حلب القديمة والتقليدية، إلا أنه نجح في ذلك على صعيد الديكور ووضع سيدة كمسؤولة عن محاسبة الزبائن فقط، أما نوعية الزبائن الذين يرتادون المقهى بقيت على حالها الأمر الذي لا يصعب استنتاجه، فبنظرة بسيطة تجد في المقهى من يعتبر نفسه ممثلاً وهو لايوجد في رصيده سوى عملين مسرحيين في مسرح حلب القومي أحدهما للأطفال والآخر مسرحية معرّبة للكاتب الروسي ″أنطون تيشخوف″ والذي كنت أشعر أنه صاحب مسرح حلب القومي لأن جميع المسرحيات التي تقدم في المسرح هي من نصوص معرّبة له لا يحضرها سوى أقارب الممثلين لكن أعتقد أن الحال الآن قد تغير وأصبح يحضر هكذا مسرحيات جمهور غفير من عناصر وأقارب الشرطة العسكرية الروسية في حلب.

في مقهى ميلانو تجد أيضاً المثقف البعثي النمطي الذي يعشق أن ينادوه الناس بلقب يارفيق، وبالطبع كانت الثقافة واضحة عليه بشكل جلّي من أكوام جرائد (البعث) و(تشرين) و(الجماهير) التي يضعها أمامه، ومن طقم السفاري الذي يرتديه صيفاً وشتاءً مع علامة الجودة، والتي هي عبارة عن بقعة عرق تمتد من تحت إبطه الى مابعد البنكرياس.

كما يوجد بشكل دائم في المقهى شلّة رفاق جمعهم فنجان الإسبريسو وفرقهم الانتماء الحزبي، أحدهم يحمل دائماً جريدة (صوت الشعب) الصادرة عن الحزب الشيوعي السوري وذلك لأنه يرى النور من مؤخرة خالد بكداش، والآخر لا يعترف إلا بسوريا الكبرى ويحمل صورة أنطون سعادة في محفظته وقلبه، ورفيق آخر لديه ولدين أحدهما اسمه جمال والآخر عبد الناصر ويعيش على أطلال زعيم الأمة العربية الذي خاض أربع حروب خسر منها خمسة.

في الطاولة التي في زاوية مقهى ميلانو، تجد الأستاذ الشاعر يتغزّل في السيدة الجالسة أمامه وعيناه من فرط الحب تكاد أن تذوبان، وكان دائماً قبل نهاية الجلسة يأتيه هاتف ضروري ويخرج مسرعاً من المقهى لكيلا يدفع الحساب فتقوم الضحية المعشوقة بدفع حساب القهوة والغزل.

في نهاية رحلتي بالتعرف على مدينة حلب من خلال مقاهيها وكأي باحث محترم قررت أن أستخدم مهاراتي في التفكير النقدي والاستبناط والمقارنة والاستنتاج، وذلك لإيجاد القواسم المشتركة وأوجه الشبه بين جميع مقاهي حلب التي قمت بارتيادها فكانت المحصلة كما يلي:

– في كل مقهى من مقاهي حلب القديمة وعلى غرار ذوّاقة النبيذ هنالك فئة ذوّاقة القهوة التي تأتي الى المقهى في الصباح الباكر حيث يقوم صاحب المقهى بتقديم أكثر من فنجان إسبريسو لهم والفنجان الذين يجمعون على جودته ومذاقه يتم ضبط عيارات ماكينة القهوة عليه.

– من كثر ما يحدث من نميمة في جلسات المثقفين في مقاهي حلب تراهم يتحدثون عن خيانة نسائهن لهم وهم يحللون الوضع السياسي وينتقدون الشعر الحديث وسينما الموقف.

– قرابة الساعة التاسعة مساءً يقف جميع زبائن مقاهي حلب على أرجلهم ليس إستعداداً لمغادرة المقاهي فقط، بل لرؤية الحافلات (السرافيس) وهي تنقل النساء الروسيات والأوكرانيات من أماكن إقامتهن الى نوادي حلب الليلية.

وفي النهاية الوجوه التي تراها في مقاهي حلب طوال اليوم تجدها ذاتها في الليل موزّعة على مطاعم حلب وخمّاراتها، تناقش مفاهيم المواطنة والعيش المشترك والفسيفساء السورية والتعاضد بين مكونات المجتمع، وبما أن كل شيء في حلب مختلف فيكون تصور هؤلاء للوطن الواحد متمثّل بما يوجد على الطاولة، فالسلطة والبسطرما أرمنية والجبنة كردية والزيتون والزيت من عفرين والشنكليش من مصياف والكباب ديري والمحمرة من سلقين واللبنة من مراعي حماة وكل ماسبق بجانب المكون الرئيسي من مكونات الوطن …. كأس العرق.

_________________________________

هامش:

  • الطوبجي: تسمية عثمانية تطلق على الشخص الذي كان يقوم بتلقيم مؤخرة المدفع بالقذائف.. وقد استخدمت شعبيا للإشارة إلى من يمارسون الرذيلة مع الذكور. 

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى