مقامات أمريكية | دور الكنيسة ودور الببغاوات
د. حسام عتال
كالببغاوات رددنا أفكاراً وأحكاماً ومسلمات تعلمناها في الصغر ولم نتخلص منها حتى اليوم. أشهرها أن حكم الكنيسة لأوروپا في العصور الوسطى هو سبب التخلف والرجعية الذي عانت منه القارة، ودافع التعصب، ومبعث الحروب. الحقيقة بعيدة جداً عن ذلك. دون شك أوروبا كانت متخلفة ورجعية في العصور الوسطى (ما يسمى بعصور الظلام)، لكن الكنيسة لم تكن السبب في ذلك. في الواقع الكنيسة كانت الحارس الذي حمى المجتمعات الاوربية في ذلك الوقت من الانحلال الهادم والتشتت الكامل، والوسيط الذي وقى الحضارة من التلف والزوال، والوكيل الذي سند أوروبا خلال عصور الظلام حتى اتيح لها النهوض والانطلاق من جديد.
ما تعلمناه عن أوروبا في العصور الوسطى وما تتناقله الثقافة السائدة ينحصر في عناوين مقتضبة ومحدودة، مثل تسلط وفساد البابوات وحاشيتهم، وضراوة الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش، ومعاداة العلم، وحرق الكتب (وأحياناً كتّابها). هذه كانت أمورا خطيرة، وقد حصلت ويجب عدم التغاضي عنها. ولكن بالمقابل فإننا نرى أنه من النادر أن نقرأ عن الجوانب الأخرى التي رافقت حكم الكنيسة، فنحن لا نسمع عن المشافي التي كانت تؤسّسها وتديرها. فإن كنت شخصاً قد عاش تلك الحقبة وتلقيت رعاية طبية (خاصة منها الطويلة الأمد)، فإن هذه الرعاية كانت بإشراف الكنيسة وبتمويل منها بالتأكيد. ولا نقرأ عن الأديرة والراهبات التي تكفل دور الأيتام أو المسنين. فإذا كنت طفلًا بلا أقارب، فإن الرهبان أو الراهبات كانوا يتولون تربيتك وتعليمك تلك الأوقات. وإذا كنت كبيراً في السن أو عاجزاً بعد عقود من العمل اليدوي الشاق، ولم تعد قادراً على العمل، فيمكنك دخول دير الراهبات لتلقي العناية (تشير بعض التقديرات إلى أن ما يقرب من ثلث السكان قضوا جزءًا من حياتهم في الأديرة وأماكن الراهبات، سواء كجزء من نظام التعليم للأيتام في الطفولة أو في سنواتهم الأخيرة). ولا نطلع على دور الكنائس في الأوقات المأساوية من الطاعون، والحروب، والموت، حين كان الناس يلجؤون إلى الكنيسة كي يجدوا ليس فقط العلاج بل الراحة النفسية والروحية. ولم يخبرنا أحد أن المسؤولين عن جمع وتوزيع الصدقات، كانوا كهنة أو قسيسين يشرفون على مساعدة الفقراء، فالمال كان يأتي من الأغنياء وغيرهم من المتبرعين، لكن المكلفون بالإشراف على توزيعه لضمان استخدامه بشكل عادل يخدم الفقراء والمحتاجين كانوا من أفراد الكنيسة الصغار.
والكنيسة أيضاً ضمنت وصول معارف السابقين بالحفاظ على الآداب والأساطير والفلسفات اليونانية- الرومانية، وحتى الأيرلندية وشمال أوروبية. معظم الكتب المتوفرة وضعها رجال الدين والرهبان في الكنائس والأديرة. تأثير المفكرين الذين أنتجتهم الكنيسة (مثل توماس اقوانياس و بيتر داميان) في تلك الحقبة ما زال يعيش معنا اليوم. وكانت الكنائس تحوي على المكتبات الوحيدة المتاحة للاطلاع، وتملك غالب المستودعات المعرفية. فكانت المكان الوحيد لمن يريد التعلم، وهذا كان اساساً في عصر النهضة التالي للراغبين باشباع عطشهم للمعرفة.
ونظرًا لأن الكنيسة كانت مؤسسة دينية تعتمد على الكتب، كان يُفترض أن يكون الكهنة متعلمين ويعرفون القراءة والكتابة. كان هذا يعني، خصوصًا في الفترة المبكرة، أن هناك قلة قليلة من الناس خارج الكنيسة كانوا يعرفون القراءة والكتابة. لذلك، في البيروقراطيات الإقطاعية، كان الأفراد المدربون في الكنيسة هم غالبًا من يحفظون السجلات، ويديرون الشؤون المالية، ويكتبون الرسائل للمعاهدات السياسية، والمراسلات الدبلوماسية مع الخارج. في الواقع، تأتي كلمة “كاتب “بالإنكليزية تعود في اصلها الاتمولوجي من “الناسخ في الكنيسة”.
أما الجامعات فقد تأسست أصلا ضمن الكنائس لتدريب اللاهوتيين، لكنها سرعان ما توسعت لتشمل دراسة الفنون والعلوم والآداب. كانت المدارس الكنسية من الأماكن القليلة التي يمكن لعامة الناس فيها تعلم القراءة والكتابة. الأمية كانت شائعة جدًا في بواكير العصور الوسطى؛ لكن بدون الكنيسة، كانت ستكون أكثر شيوعًا. واليوم نجد أن أفضل الجامعات العالمية مثل هارفارد وييل وستانفورد وبرنستون لها أصل كنسي عندما تأسست وقامت على نفس القيم التي وضعتها كنائس العصور الوسطى. هذه الجامعات لم تكن لتقدم خدماتها للإنسانية دون رعاية الكنسية لها. وإن مفهومنا الحديث للجامعة، بما في ذلك هيكلها، هيئة التدريس، فكرة درجات البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه — كل ذلك هو إرث مباشر لنموذج كنائس العصور الوسطى. بدونها، ربما كان هناك نماذج مختلفة تماماً عما نعرفه الآن، مثل النموذج الروماني لاستئجار (او امتلاك) المعلمين حصرا بالعائلات الثرية، أو كنموذج الإغريق القديم حيث مجموعات من الطلاب يدفعون مقابل محاضرات لمعلم وهم يتجولون في الهواء الطلق تحت أعمدة الأبنية العامة، أو النموذج الأسلامي برئاسة الشيخ المعلم ومن حوله من المريدين.
وكانت الكنيسة راعية للفنون. هذا جلي في أبراج العمارة القوطية الجميلة، والمخطوطات الكتابية الأنيقة، والتماثيل الحجرية في الساحات والأبنية، والنوافذ الزجاجية الملونة الفسيفسائية، واللوحات على جدران وسقوف الكاتدرائيات. فنانون مثل جين بوندول بلوحاته النسيجية البديعة و جيتو دي بوندون كانوا ممولين من الكنيسة ومواضيعهم مستوحات من رواياتها الدينية وطقوسها. وعلينا ألا ننسى روائع الموسيقى الكنسية التي لازالت حتى اليوم علاجاً للنفس المتعطشة للراحة والطمأنينة، .
ومن الناحية القانونية كانت الكنائس هي ملاذ للمظلومين إذا لاحقهم جامعوا الضرائب لصالح الاقطاعيين الجشعين. وكان يمكن للمتهم بجرم أن يلتمس الملاذ في الكنيسة ويكون محميًا من العقاب التعسفي، مطالبًا بحق المحاكمة فيها سعياً للإنصاف والعدل.
وكانت الكنائس المحلية تنظم دورة الحياة اليومية والفصلية والسنوية للرعية. فكانت الأجراس الكنسية تقسم اليوم لساعات العمل، والطعام، والنوم. وساعدت الدورة الليتورجية في تنظيم الزراعة في لمواسم الزراعة والحصاد، ولرصد للتغيرات الموسمية المناخية. هذا قد يبدو هذا أمرًا صغيرًا لنا اليوم لأننا ننظر إلى هاتفنا المحمول لمعرفة تلك العوامل بسرعة ويسر، ولكن في عالم بدون ساعات أو تقاويم متاحة على نطاق واسع، كان ذلك التنظيم لا يقدر بثمن فيما يتعلق بالحياة الزراعية والعملية والتخطيط السنوي التجاري. وكذاك كانت الضرائب، ومدفوعات الإيجار، وحدود العقود تعتمد عادة على أيام القديسين الدينية أو العطلات الكنسية.
ومما لاشك فيه أن الكنيسة تورطت في كوارث عنيفة ومؤسفة مثل الحروب الدينية المحلية والصليبية خارجياً. وكانت محاكم التفتيش ومحاكمات الهرطقة هي من الأجزاء المظلمة في تاريخ أوروبا والعالم. ومع ذلك، فإن تلك الأفعال البشعة لا تمحو الأوقات الأخرى التي سعت فيها الكنيسة منع الحروب وتخفيف العنف غير الضروري. مثلاً كانت حركات “سلام الله” وحركة “هدنة الله” تستخدم قوانين رعتها الكنيسة وسعت من خلالها إلى منع الحروب والقتال بين الممالك المسيحية. ورغم أنها لم تكن دائمًا ناجحة، ولكنها لم تكن فاشلة كل الوقت. وطريقة أخرى ساعدت بها الكنيسة في الحد من العنف كانت من خلال تدخلاتها من خلال الجماعات العسكرية الفروسية حيث كان يجسد الفرسان الأرستقراطيون القيم المسيحية، و لهم قسم شرف يمتنعون من الاغتصاب والنهب ويحمون الأبرياء من الضعفاء. الكنيسة كانت تعد الفرسان نفسياً روحياً لتجسيد قيم أفضل. ومن هنا، كانت مراسم التكريم المعقدة التي قد يقضي فيها الفارس ليلته في صلوات مع سيفه على مذبح ويسمع عظات عن الفروسية قبل أن يتلقى قلادته الفضية كعلامة على رتبته. هذه المبادئ الكنسية كانت تحدد قواعد الاشتباك العسكري وتشبه بعض الاتفاقيات الحديثة الحزبية في أيامنا.
إن الجماعات الإنسانية تمر بمرحلة إنحدار وتدهور يتبعها خلط وعنف وتخلف وانحطاط. هناك أسباب عديدة لذلك منها الانحلال الداخلي بسبب الترف أو النزاعات الأهلية، ومنها اقتصادي كمرور فترة جفاف وقحط، او تغير مسارات التجارة أو الملاحة، ومنها خارجي كقوة غاشمة تضرب بقسوة لا يتحملها المجتمع، خصوصاً إن كان قد مال إلى الدعة والكسل بسبب فترة رخاء طويلة، وهذا ما حصل في أوروبا مع تفكك الدولة الرومانية. في أوقات كهذه تنهض في المجتمع عناصر أو قوى لردء ماتبقى من إمكانيات هذا المجتمع وحماية أفراده وتوفير الحد الأدنى المطلوب من القيم والأخلاقيات والقوانين لضمان استمراره في البقاء، ليس فقط فيزيائياً ولكن أدبياً ومعنوياً أيضاً، وهذا هو الدور الذي لعبته الكنيسة في العصور الوسطى. لم تكن الكنيسة مؤسسة مثالية بأي حال من الأحوال، ولديها الكثير لتجيب عليه من حيث القمع والتسلط، وحرق الكتب الممنوعة، وحصر الأدوار بين الذكور والإناث، ومعاداة ومحاربة وتشويه الأديان الأخرى كالإسلام، وكره اليهودية وحصر اليهود في مناطق الغيتو، وفي حالات عديدة تشجيع الخرافة والخوف. ومع ذلك، فإن تلك هي نصف الصورة، ومعظمها يتعلق برؤوس الكنيسة وثلة من كبار قادتها. النصف الآخر (نصف الصورة وليس النصف العددي)، والأهم، هو الدور الذي لعبته جحافل عظيمة من المخلصين من رهبان وراهبات وعمال وخدم وفرسان ومتطوعين في الكنائس الصغيرة والأديرة والمشافي ودور الأيتام، المنتشرة في أرجاء الممالك المسيحية الأوربية. هؤلاء كان لهم الدور الأعظم في الحفاظ على المجتمعات الأوروبية وحمايتها من التردي للهمجية والبربرية الكاملة. هؤلاء هم من مهد لعصر النهضة، وما تلاه من التقدم العلمي، والسيطرة الاوروبية على العالم. أوروبا مدينة للكنيسة بما قدمته لهم في تلك الفترة الحرجة والحالكة من تاريخها. أما نحن فعلينا التروي والإنصاف وعدم ترديد ما تعلمناه، كالببغاوات، دون تفكير وتمحيص ومراجعة.
تعليق واحد