أرشيف المجلة الشهرية

عبد الباسط الساروت: جيفارنا الذي اختزل الثورة

لم أعرف ثورياً، اختزل الثورة بجميع تقلباتها وتبدلاتها، كما الأسمر أبي جعفر

عدنان عبد الرزاق – العربي القديم

لم، ولن أرى سورياً يستأهل التهنئة بهروب الأسد، واقتلاع العائلة المافيوية العميلة من الأرض السورية الطيبة، وإلى الأبد، كما عبد الباسط الساروت.

 كما لم أعرف ثورياً، اختزل الثورة بجميع تقلباتها وتبدلاتها، كما الأسمر أبي جعفر، فمَن يريد أن يؤرّخ تطلعات السوريين وآمالهم، فمن سيرة ذاك الثائر النبيل، ومن يسعى لتصوير نزق السوريين ونبلهم، ويؤثر عكس الصورة كما هي، من دون رتوش وتجميل، فمن البدوي الحمصي، المنطلق والغاية.

كتبت الساروت منادياً، يوم دخل الثوار حمص، قم أبا جعفر، فليس أحق منك بالفرح واستقبال المحررين، وشعرت يوم لم يغب ذكره عن السوريين، مذ انتصروا وبلغوا قمة حلمهم، أن “الدنيا بخير”، ووصلني بعض حقي، وقت رفع السوريون اسم عبد الباسط على “جسر الرئيس” وسط دمشق، ليقولوا لمن يهمهم الأمر والشرف، شتان بين مؤسس الطائفية والذل، قاهر الشعب وسارق أحلامه، الخائن لأصدقائه، مذ سرقته السلطة وللشعب جميعه على مدى حكمه وتوريثه، وبين مؤسس الكرامة ناشر الفرح والمحبة، نابش الأصالة و”المكدعة” الوفي لمبدئه وحلمه.

قلت بعض حقي، وقتما كتب الثوار “جسر الساروت”، وبعضه بالأمس، وقت اعتلت أم الساروت المنصة، تلك “الخنساء” التي لم يرقَ لقامتها مثيل، فأم الساروت فقدت عام 2011 ابنها وليد شهيداً، وفي عام 2012 استشهد زوجها ممدوح. لتتابع هذه الأسرة وتزف قرابين للثورة عام 2013، حينما استشهد الابن محمد، وتبعه عام 2014 عبد الله شهيداً، وصبيحة اجتياح حلب من نظام الأسد والميلشيات الطائفية، مات الابن بسام قهراً إثر جلطة دماغية…لتكمل “أم وليد” عطاءها لسورية، أيقونة الثورة وحارسها الأمين عبد الباسط.

وبعض حقي اليوم، حين أعلنت “العربي القديم” هذا الملف …وبقية بعضه وقت يخلّد ثوار سوريا “حجي مارع، أبو فرات، حمزة الخطيب، ميشيل كيلو، منصور الأتاسي، مي سكاف، وفدوى سليمان”، وآلاف آلاف الصادقين، بتسمية المرافق والشوارع والجامعات ونوادي الرياضة، وحتى معامل المسيرات ومنشآت الصناعات الثقيلة بسورية المستقبل بأسمائهم، ووقت يدخلون في مناهج الأطفال كمؤسسين لفكر الكرامة، وأعلام تحرير سوريا وانتقالها من مزرعة لدولة.

كتبت يوم وفاة الساروت: “جيفارا سوريا مات”، وعللت وقتذاك محاولتي تكريس ربط الساروت بجيفارا، صح وخطأ بآن:

 الخطأ، أو ما قد يراه بعضهم كذلك، أننا مهووسون بصور القادة العالميين، ولا نسعى لتسويق أبطالنا، بمعزل عن “التبعية”، فلربما للساروت أكثر مما كان لتشي الصديق.

وأما الصح، أو ما رأيته وارتأيته، فربط الساروت بمناضل عالمي، تزيد من انتشار قصته، وبالتالي عدالة قضية ومطالب السوريين، إذ لا أرى شبيهاً للثورة، أكثر من عبد الباسط، بما في ذلك تقلباتها التي فرضتها الظروف الذاتية الداخلية والموضوعية الإقليمية والدولية، كما لم أرَ سورياً مؤمناً بالثورة ومتصالحاً مع نفسه، تجاه الثورة ويقينية انتصارها، كما الساروت.

أذكّر عبر هذا العدد الخاص، وبذلك حق للأسمر وواجب علينا، أنه وحسب عملي واطلاعي، لو شاء عبد الباسط الضوء، وسعى لحلمه الفردي عبر المحافل والمؤتمرات وعواصم العالم، لكان ربما من أوائل السوريين مالاً وشهرة، بيد أنه، ورغم فجيعة الأسرة، وخوف الأم من فقدان خامس أولادها، بعد زوجها وإخوتها وحفيدها، آثر الساروت متابعة الثورة بساحة المعركة، كما يليق بمناضل يسعى لقضية سامية، ويحقق ولو عبر دمه، الحرية والكرامة للسوريين.

وأضيف، وأنا على علم ودراية، أن الساروت، حينما دخل تركيا، بعد محاصرته واتهامه من بعض الفصائل بسورية، عمل أعمالاً عضلية، ورفض أية مساعدة، ولو من قبيل عمل يليق بمناضل، واستمر مقهوراً حتى عاد ثانية لساحات حرب الكرامة بإدلب، ليزيد تأثيره بشرائح الشباب، عبر أهازيج وسهرات سمر، ويكرّس النضال العملي، لا عبر الشعارات والادعاء، أو الضوء والنفعية، كما مشاهير الثورة وسرّاقها، والذي يسعى بعضهم اليوم إلى إجهاض النصر، عبر ادعاء حق يُراد منه الانقلاب والثورة المضادة والباطل.

نهاية القول أمران:

الأول أن باسطاً من قلة في المؤسسات الثورية وعلى الأرض، الذي لم تنطلِ عليه المفاوضات وأضاليل السياسة يوماً، بل عبر عكسه الثورة بتردداتها وارتداداتها، ونقله بصدق مراحلها التي عاشها بحسه العفوي الصادق، بل بقي الأسمر ينسجم مع يقينه، بأن الديكتاتوريات لا تسقط بالمؤتمرات، ولا عبر طاولات الخنوع والتنازل، وأكد مبدأه بالشهادة.

والثاني، كم حلمت لو أنك حي،  لتؤرخ بأهازيج جديدة ورقصات البداوة ساعات النصر، لكن خصوصية شخصية الساروت ربما، وليبقى مختلفاً حتى بعطائه، ناضل واستشهد، لننعم بالحرية ونشهد، ونردد ما تركه من توثيق نضاله بالأهازيج، منذ “يا يما أنا طالع أخلع ثوب العار”، وصولاً إلى “يا يما ثوب جديد، زفيني جيتك شهيد”، وما بينهما من أغانٍ، باتت شعارات الثورة ونشيدها الوطني، كجنة جنة جنة..سوريا يا وطنّا، وآخر أغانيه، قبل أيام من ارتقائه “سوريا جانا رمضان، وبعد رمضان العيد. .تاسع سنة يا غالية بينا المرار يزيد”.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى