أرشيف المجلة الشهرية

سليمان الأحمد وأبناؤه: العائلة التي قتل حافظ الأسد معظم أفرادها

رواء علي – العربي القديم

ابتدأ تجمع العلويين في بلاد الشام، منذ مطلع القرن الرابع الهجري على خلفية نشاط الفرق الباطنية، الذي ظهر مطلع العصر العباسي، ضمن حركة الزندقة، فظهرت فرقة دُعيت بالخطابية حوالي العام 150هـ، تشظت بعد قتل صاحبها (أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الفارسي) على يد العباسيين، فانقسمت إلى تيارين: تيار دُعي بالإسماعيلية، وانقسم بدوره إلى جناحين: الجناح القرمطي، ومنهم قرامطة الشام والعراق والبحرين، والجناح الميموني أو القداحي (نسبة لميمون القداح الديصاني)، الذي نشط في أطراف الدولة الإسلامية، ونجح في إنشاء دولة انطلاقاً من شمال أفريقيا، هي الدولة الفاطمية في نهاية القرن الثالث الهجري. أما التيار الثاني من الخطابية، فهو الذي أُطلق عليه بعد القرن الرابع اسم النصيرية (نسبة لمحمد بن نصير)، وفي العصر الحديث العلويين، ورغم عقائدهم الباطنية التي لا تختلف كثيراً عن الإسماعيلية، إلا أنهم بقوا على علاقة ظاهرية مع الشيعة الاثني عشرية، من خلال اعتقادهم  بنفس الأئمة عند الشيعة، من عند موسى بن جعفر، ثم أولاده وأحفاده على عكس الإسماعيليين الذين ارتبطوا بإسماعيل بن جعفر وأبنائه المفترضين من بعده.

عملت الإسماعيلية بجهد مقصود ومنظم لنشر معتقداتها، وجذبت الأتباع من علية القوم، ومن الطبقات الدنيا؛ لذلك نجحت في إنشاء دولة اعتمادًا على النوابغ من دعاتها، بينما بقيت النصيرية في مرحلة الدعوة تعتمد في جذب الأتباع على الطبقات الاجتماعية الدنيا، كالخباز والعطار والبزّاز والخلال؛ لذلك بقيت ديانة على الهامش على عكس الإسماعيلية. وعندما تجمّع النصيريون في جبال الساحل السوري، فإن تجمعهم كان -تحت الضغط والتهديد من قبل السنة- في مناطق فقيرة اقتصادياً أصلًا، مما أوجد في المجتمع العلوي حالة مستدامة من الخوف والقلق والفقر وانعدام الأمن: خوف من المحيط المعادي، ومن العلوي الآخر المختلف عرقياً أو قبلياً أو مذهبياً، فانعدام الوحدة الداخلية وهي سمة في المجتمع العلوي، وحالة الخوف والقلق المستدامة، إضافة لنوعية الأتباع الذين هم من السلّم الاجتماعي الأدنى، منع من قيام دولة علوية، كما حدث للإسماعيلية، وانعدام الدولة هو مؤشر، وسبب على انعدام طبقة من ذوي العلم ذات فكر، يتعدّى حدود القرية والعشيرة والطائفة، وغاية ما وجد في المجتمع العلوي من أهل العلم، هم طبقة رجال الدين، التي اقتصر علمهم على مجموعة مؤلفات باطنية، يتداولونها نسخاً باليد، تعود لأزمان غابرة محورها عقائد الطائفة؛ لذلك نحن نغالط التاريخ لو تكلمنا عن أفراد، أو أسر لها علاقة بالسياسة في المجتمع العلوي، بمثل ما يمكن أن نتكلم عن الإسماعيلية في دولها وحكامها وجهازها الإداري، ولا تجوز المقارنة هنا مع السُّنة؛ لأن السنة أمّة لها تاريخها العريق، ودولها التي لا تحتاج لبرهان، أما العلويون فهم طائفة منشقة عن الكيان الأمة، ومقارنة حالها -من باب العدل- لا يكون إلا مع ما يماثلها وهي شقيقتها الإسماعيلية التي ظهرت مع النصيرية في الزمن نفسه، وتجاورت معها لاحقاً فحجزت الإسماعيلية مكانة لها في حركة التاريخ العام للمنطقة، بينما بقيت النصيرية خارج حركة التاريخ حتى الزمن المعاصر.

كانت الطريقة الوحيدة والمعروفة للعلويين في التعامل في ما بينهم،  ومع المحيط المختلف عنهم دينياً وطائفياً، طوال تاريخهم في الشام هي الإغارة والنهب في أوقات ضعف خصومهم، والاعتصام في قمم الجبال عندما يشعرون بالخطر، وبقي هذا حالهم حتى القرن التاسع عشر، عندما شرعت الدول الاستعمارية الأوربية في إيجاد موطئ قدم لها في بلاد الشام، وكان العلويون أحد أهم الخيارات للفرنسيين، منذ ما قبل سايكس بيكو لإيجاد ركيزة لهم في المنطقة، والتي سبقها دراسات وزيارات للرحالة الفرنسيين للمنطقة، من مثل كاهون، ودوسو، وماسينيون، للتعرف على هذا المجتمع المغلق والاستثمار فيه، وتاريخياً فإن الفرنسيين احتلوا منطقة الساحل السوري قبل سنة من احتلالهم الرسمي لباقي سوريا، وعندما شرعوا في هيكلة سوريا بما يناسب مصالحهم، كان عليهم أن يوجدوا هوية للنصيريين، كما كانوا يسمون حتى ذلك التاريخ، فاستحدثوا ابتداء اسم العلويين كبديل لاسم النصيريين سيئ السمعة، بهدف ربطهم اسمياً بعلي بن أبي طالب بدل محمد بن نصير، وقسموا سوريا إلى دويلات على أسس طائفية، كان منها دويلة العلويين وعاصمتها اللاذقية،

غير أنه قبل أن يظهر الفرنسيون في سوريا كقوة احتلال، ومنذ أواخر أيام الدولة العثمانية، فإن شخصية علوية كانت قد أخذت على عاتقها إعادة إنتاج العلويين، وتحويلهم من أقلية باطنية مارقة إلى جماعة، أو طائفة ذات هوية واضحة، من خلال توحيد المجتمع العلوي، وتحييد الخلافات العشائرية والدينية بين مكوناته انطلاقًا نحو إيجاد حاضنة شيعية للعلويين، وتحقيق القبول لهم في الأوساط السنية. هذه الشخصية هي الشيخ سليمان الأحمد الذي لا يمكن الجزم، بأن ما سعى إليه كان مبادرة شخصية منه، أم أنه كان مسيّراً لتحقيق المشروع الفرنسي الذي انتهى بعد الاستقلال السوري الشكلي بتعميد العلويين حكامًا لسوريا المعاصرة.

سليمان الأحمد: هو سليمان بن أحمد بن حسن بن إبراهيم، ويرجع العلويون نسبه إلى المكزون السنجاري.  ولد في الجبيلية من أعمال جبلة سنة 1869، أواخر العصر العثماني في مجتمع يعمّه الجهل والفقر لأسرة، لها علاقة بطبقة شيوخ الدين العلويين، تعلم من أبيه الكتابة والعلوم الدينية ونظم الشعر، وكان كما يصف نفسه، بأنه شغوف بقراءة الكتب على ندرتها في زمنه، فكان يحفظ في صغره بعض القصص من الموروث الديني والشعبي، مكنته من مقايضتها مع أقرانه عند رعاية الماشية: هم يرعون عنه مقابل بعض القصص يقصها لهم… وفي سن السادسة عشرة انتقل إلى قرية المران قرب القرداحة للعمل، ثم بعد موت أبيه، وهو في سن الثامنة عشرة، راح يتنقل بين قرى الجبل العلوي، يتعرف على الناس، وينسج علاقات مع شيوخ الجبل وأعيانه، من مثل علي سليمان (المريقب) والد صالح العلي، والشيخ ديب أحمد آل معروف سيد بني معروف، وهم أسرة مشايخ دينية، كانت تتصدر مشايخ العلويين وقتها، والشيخ عبد اللطيف الغانم كبير مشايخ آل يونس، ونعمان محمد آل سعيد من الجهنية منطقة الحفة التي أقام فيه نحوًا من خمس عشرة سنة، قبل أن يتحول إلى مناطق الكلبية، (محيط القرداحة)  للسكن فيها…. ومن أقرانه الذين ربطته بهم علاقة وثيقة الشيخ إبراهيم عبد اللطيف مرهج رفيقه وشريكه في مشروع جمع العلويين وربطهم بالشيعة.

وفي هذا السياق قام هذا الثنائي الأحمد- مرهج بزيارات متكررة إلى أضنة (في تركيا حالياً) أحد معاقل العلويين الحيدريين، واجتمع بشيوخ الحيدريين هناك، بهدف تحييد الخلافات الطائفية والعقدية الموجودة بينهم وبين الكلازيين الذين ينتمي إليهم سليمان الأحمد، ومعظم علويي سوريا  تمهيداً للعمل التالي، وهو إنشاء الاتصالات بين العلويين، ومراجع الشيعة في لبنان والعراق، واستطاع الأحمد من خلال جملة العلاقات التي نسجها مع مشايخ الطائفة العلوية وأعيانها في كل نواحي الجبل، أن يحوز لقب (الشيخ الأمجد، وعلامة الجبل، وشيخ المشايخ)، اعترافاً بفضله وتقدمه، وأن يحول طبقة المشايخ إلى فئة قائدة للطائفة لها وزنها وتأثيرها، ولها أمر ونهي من خلف الستار استمر حتى اليوم، وكان من الأمثلة على النفوذ الذي أصبح لشيوخ الدين العلويين في زمن سليمان الأحمد فتوى شهيرة في مرحلة استلطاف السُّنّة والشيعة، حرّم فيها التعفيش والسلب الذي كان العلويون يمارسونه على من جاورهم من غير العلويين، حيث أفتى بتحريم ذلك، ومقاطعة من يقوم به وعدم قبول زكاته، وعدم الصلاة عليه حتى يتوب، فاستجاب العلويون بمجموعهم، وأعادوا ما سلبوه، وما كان أحرى بعلويي اليوم لو عملوا بها.

بدأ سليمان الأحمد عملية إنشاء الصلات والروابط مع الشيعة ابتداء من عام 1914، من خلال زيارات متكررة إلى لبنان، التقى فيه بمراجع للشيعة، أشهرهم محمد حسين كاشف الغطاء، ومحسن الأمين العاملي، وقد ذكر عبد الرحمن الخيّر (1903-1982) جانبًا منها، فقال:  “في عام 1914 قام العلّامتان سليمان الأحمد، وإبراهيم عبد اللطيف مرهج بزيارة إخوانهما من علماء المسلمين الجعفريين في لبنان، ودامت المحادثات أيامًا عدة، أسفرت عن تعارف مذهبي، وتفاهم أخوي ومودة صادقة”.

ومن خلال جملة مراسلات تمت بين سليمان الأحمد، ومحمد حسين كاشف الغطاء من جهة، ومحسن الأمين العاملي من جهة أخرى، قام بنشر بعضها علي بن سليمان الأحمد، فإن جملة ملاحظات نستنتجها من تلك الرسائل:

  • لم يتم نشر الرسائل كاملة، وغالباً ما يتم نشر ردود مراجع الشيعة على رسائل الأحمد، دون ذكر لرسائل الأحمد، مما يوحي بوجود ما لا يجب نشره.
  • تركزت الرسائل التي تم نشرها، من حيث مضمونها على إظهار المهارات اللغوية، وغريب الألفاظ، وتوقفت في مجملها على المجاملات المصطنعة والمدائح المتبادلة، ويبدو أن مراجع الشيعة كانوا على معرفة بنية سليمان الأحمد من علاقاته معهم، وهي تحقيق نسبة العلويين للتشيع، لا تحقيق الانتساب للتشيع، فلم يقدموا من حيث الواقع العملي أي مساهمات ذات قيمة، بل إن مجموع ما أرسلوه له من كتب عن التشيع، طالبوه بثمنها، وهذا جاء تصريحًا في كلام كاشف الغطاء، ومحسن العاملي. وفي إحدى الرسائل طلب سليمان الأحمد من كاشف الغطاء أن يسعى له في التعارف مع صدر الدين الصدر زعيم حوزة قم، لما في هذا التعارف من الفائدة المادية والعلمية بحسب قوله، فماطله كاشف الغطاء، ثم اعتذر عن هذا بحجة وجود الصدر في إيران، وانتهى الأمر عند هذا الحد.

وما استطاع سليمان الأحمد والعلويون تحصيله من علاقاتهم التي أقامها الأحمد مع الشيعة، كان إسقاط اسم النصيريين كفرقة غالية مكفرة عند الشيعة، وتقديمهم على أنهم فرقة شيعية، ظهر هذا في موسوعة (أعيان الشيعة) لمحسن الأمين العاملي التي برّأ فيه العاملي ابن نصير والخصيبي والعلويين من تهم الغلو، وقام عبد الحسين شرف الدين لاحقاً سنة 1937 بإجازة سليمان الأحمد بالرواية عنه، ووصفه في متن الإجازة، بأنه شيخ علماء الشيعة في جبل العلويين.

 أما الاعتراف الرسمي بالعلويين، على أنهم فرقة شيعة اثني عشرية، فلن يتم حتى مطلع السبعينيات من خلال الفتاوى التي أطلقها المرجع الشيعي حسن مهدي الشيرازي عام 1972، وما أفتى به موسى الصدر عام 1973، باعتبار العلويين من المسلمين، وأنهم طائفة من الشيعة الاثني عشرية، ليعطي الشرعية الشيعية وقتها لحكم حافظ الأسد العلوي في سوريا، بجعله مسلمًا شيعيًا، كما يتطلب الدستور السوري وقتها من أن يكون دين رئيس الدولة هو الإسلام. ولم تأتِ الفتاوى الشيعية سالفة الذكر إلا بعد أن أصدر مشايخ الطائفة العلوية عام 1972 بياناً  أجمعوا فيه على أنهم طائفة شيعية، تؤمن بما يؤمن به الاثني عشرية، وتتعبد الله على مذهب جعفر الصادق.

وبمثل الجهد الذي بذله سليمان الأحمد مع مراجع الشيعة للوصول إلى الاعتراف بنسبة العلويين إلى التشيع، فإن له جهودًا أخرى مارسها مع بعض أعيان السنّة ليحصل منهم على القبول، أهمهم  مع محمد كرد علي مؤسس المجمع العلمي للغة العربية في دمشق، وصاحب موسوعة (خطط الشام)، وكان بين الشخصين مراسلات ذكر كرد علي جانباً منها، يتعلق بالطائفة العلوية وأحوالها وعقائدها، أجابه سليمان الأحمد عن أحد تساؤلاته عن عقائد الطائفة بأن: “لا فرق بينهم وبين الإمامية إلا ما أوجبته السياسة والبيئة وعادات العشائر… لهم طريقة كالنقشبندية والرفاعية، وغيرهما من طرق الصوفية بالنسبة إلى أهل السنّة. وهذا مصدر التقولات الباطلة عليهم”، غير أنه كان أكثر صراحة في ما يتعلق بالعلويين، عندما صارح الأديب الإخواني اللاذقاني محمد المجذوب في إحدى جلساتهم في بيت سليمان الأحمد في قرية السلاطة، حيث قال له: “إنكم أنتم المسؤولون عن هؤلاء الروافض (العلويين)، فاتقوا الله بهم، وافتحوا لهم قلوبكم، واجعلوهم يثقون بكم”.

وبنتيجة تلك العلاقات التي قامت على المداهنة بين الطرفين محمد كرد علي، والمجذوب من جهة، وسليمان الأحمد من جهة أخرى، حصل سليمان الأحمد من كرد علي على عضوية مجمع اللغة العربية كعضو شرف (عضوية فخرية)، بينما كان محمد المجذوب عرّاب اليوبيل الذهبي سنة 1938 الذي أقيم لتكريم سليمان الأحمد برعاية محافظ اللاذقية إحسان الجابري، وألّف المجذوب فيه كتاب “مقدمة اليوبيل الذهبي للعلامة الشيخ سليمان أحمد”. وعمومًا كان الساسة السنّة أسرع اعترافًا بالعلويين كفرقة شيعية، قبل الشيعة أنفسهم، ظهر هذا في المرسوم التشريعي رقم 23 لسنة 1951 الذي أصدره المفتي الصوفي الكردي محمد شكري أسطواني، وصادق عليه فوزي سلو رئيس الدولة وقتها.

ولكن هل كان سليمان الأحمد صادقًا في ما ادعاه وأظهره للشيعة والسنّة؟

إن في الاطلاع على بعض ما كتبه سليمان الأحمد، وما كتب عنه العلويون، وما فعله  يظهر لنا شخصية براغماتية، مثالية في ظاهرها، علوية تقليدية على دين الآباء والأجداد في باطنها، كان رجل المتناقضات، ويضع رجلًا هنا وأخرى هناك بحسب المصلحة، وكان في أفعاله وأقواله مثالًا للتقية الباطنية التي تعد ركناً أساسياً في عقائد مذهبه:

فمع هزيمة الدولة العثمانية، ودخول فيصل بن الحسين دمشق وتشكيله لحكومته، فإن تعليمات من الحلفاء لفيصل فيما يبدو لإشراك الأقليات في الحكم، فتم إسناد منصب رئيس محكمة الاستئناف لسليمان الأحمد، مع أن الأحمد لا علاقة له بالقضاء لا من جهة شرعية ولا قانونية، فلما دخل الفرنسيون سوريا، وأسسوا دولة العلويين لم تظهر له مواقف رافضة، بل نجد أنه تسلم منصب قاضي قضاة المذهب العلوي للدويلة العلوية سنة 1922، وعمل للفرنسيين على ترتيب المحاكم المذهبية العلوية، وربطها بالفقه الشيعي، وفي تمرد صالح العلي ضد الفرنسيين على خلفية انحيازهم للإسماعيليين ضده، فإن سليمان الأحمد وقف صامتًا، ولم يُعرف عنه موقف محدد، تجاه ثورة صالح العلي رغم علاقات الصداقة بين سليمان الأحمد، وعلي سليمان المريقب والد صالح العلي.

وخلال مرحلة المفاوضات السورية لانسحاب فرنسا، كان العلويون بغالبيتهم مع بقاء الاحتلال، فإن تعذر ذلك يكون الحل إنشاء دولة علوية مستقلة، ولم يُعرف أيضاً لسليمان الأحمد موقف محدد من هذه القضية، ويبدو أنه استخدم أبناءه ليحجز مكاناً مع المنتصر أياً كان، فظهر اسم محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل) في قائمة الموقعين مع سلمان المرشد، وسليمان الأسد على العريضة المرفوعة لحكومة ليون بلوم الفرنسية في حزيران 1936، تطالب فيه الفرنسيين بعدم الانسحاب، أو إلحاق جبل العلويين بحكومة دمشق لاختلاف الدين، فلما تعذر ذلك لانعدام المقومات لقيام دولة علوية مستقلة بحسب رأي الفرنسيين، تدارك العلويون الموقف، وجاءت في الشهر التالي رسائل من العلويين، تطالب فرنسا بإلحاق الجبل بالدولة الأم سوريا، ويظهر في ذيل الرسائل الموقعة اسم أحمد سليمان الأحمد الأخ الأصغر لبدوي الجبل.

ولو تتبعت كتابات الأحمد غير المعلنة خارج الأوساط العلوية، ستكتشف التقية التي مارسها على الشيعة وعلى السنّة، فهو في الوقت الذي كان يتواصل فيه مع مراجع الشيعة العراقيين واللبنانيين مقدمًا نفسه على أنه شيعي مثلهم، أرسل رسالة لمعاصره الشيخ العلوي صالح ناصر الحكيم، يختصر له فيه خلاصة عقيدته الدينية، ويختمها بثلاثة أبيات يقول فيها:

أشهد أن لا إله إلا       عليّــــــــاً الأنزع البطين

و لا حجاب لديه إلا    محمداً الصادق الأمين

و لا سبيل إليه إلا       سلمان باب الهدى المبين

ويذكر أن سليمان الأحمد كان له تهديد للشيخ أحمد حيدر بمصير مشابه لأبي ذهيبة البعلبكي، الذي قتله ميمون الطبراني فيما لو استمر على انحرافه العقائدي  في ما يتعلق بقدسية القمر عند العلويين… وقدم شرحاً كان لوقت قريب مخطوطاً لديوان المكزون السنجاري، كما فعل رفيقه إبراهيم مرهج في شرح ديوان (المنتجب العاني)، وكلا الديوانَين هما من الشعر الديني، وفي العقائد الباطنية التي تتعارض مع عقائد الشيعة.

وفي الوقت الذي يضلل سليمان الأحمد محمد كرد علي، بأن النصيرية طائفة صوفية، مثل النقشبندية والرفاعية، ويطلب من محمد المجذوب العطف واحتواء طائفته، يكتب عن السنّة أنهم نواصب، وطائفته هم السنة، “وهؤلاء النواصب ينتحلونها”، ويقول: إن الشيعة تبغض سائر المذاهب الإسلامية (السنية)، ومثل الحسن البصري مثل السامري وعجله.

مات سليمان الأحمد سنة ،1942 ودُفن في قرية السلاطة، وكان خلال حياته قد تزوج مرتين، وأنجب تسعة أولاد (أربعة ذكور وخمس إناث)، اشتهر منهم ثلاثة من الذكور هم:

محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل): هو أكبر أبناء سليمان الأحمد الذكور، ولد سنة 1903، تعلم من والده مبادئ اللغة والشعر والبراغماتية، اشتهر بلقب بدوي الجبل، وهو اسم تسويقي أطلقته عليه إحدى الصحف لترويج أشعاره، قبل أن يعرفه القراء باسمه الصريح. يمثل بدوي الجبل من الناحية السياسية رجل المتناقضات والقفز من ضفة إلى أخرى تبعًا للمصالح. في بداية حياته تعرّف على فيصل الأول عند دخوله دمشق، من خلال محافظ اللاذقية رشيد طليع الذي ضمه في وفد أرسلته حكومة فيصل إلى صالح العلي دعماً لثورته، لكنه ما إن دخل الفرنسيون دمشق حتى انقلب ودبّج قصيدة تمدح غورو،  نشرتها جريدة ألف باء الدمشقية في 24-10-1920  بعنوان “تحية إلى غورو”، وقعها باسم “وطني لا ييئس”، قال فيها:

أسد أطل على الشآم فراعها

وكذا تكون مطالع الآساد

بسَمت لوجهك مرتين ورحَّبت

 أنجادُها بليوثك الأنجاد

واليوم ودّعَت السياسة جُلق

فارتاح حاضر جُلق والبادي

وحتى صالح العلي مواطنه الذي زاره أيام حكومة فيصل مناصراً له، عاد وانقلب عليه بعد الاحتلال الفرنسي، ونشر قصيدة في مجلة (العرفان) اللبنانية التي كان والده من الداعمين لها، يمتدح الجنرال الفرنسي قائد الحملة على صالح العلي:

وليث من الإفرنسي صعب مراسه صؤول وأفواه المنايا فواغر

وله من القصائد قصيدة يمتدح فيه علم دولة العلويين الذي اخترعه الفرنسيون لتلك الدويلة، وضمنوه جوهر العقيدة النصيرية في تقديس الشمس. ومجمل قصائده تلك موجودة في ديوانه القديم، وقد حُذفت من ديوانه الجديد، وقد أثبت هاشم عثمان (علوي)، وصالح عضيمة (علوي)  بعضها في ما كتبوه عن بدوي الجبل.

لقد تحول بدوي الجبل من وطني في العهد الفيصلي إلى عميل فرنسي في العهد الفرنسي، فانتُخب عام 1922 و 1935 عضوًا في المجلس التنفيذي لدولة العلويين، وكان أحد الموقعين على وثيقة انفصال دولة العلويين عن سوريا. ومع تغير الرياح وانسحاب فرنسا عسكريًا من سوريا، وضم دولة العلويين إلى دمشق، انقلب بدوي الجبل على ماضية القريب، وتحول إلى وطني قومي يمتدح الحكم الوطني، ويذم الفرنسيين معتذراً عما سلف منه، بأنه كان ضعيفاً ويائساً (قصيدة مدح غورو وقعها باسم وطني لا ييئس)، فاختير لوطنيته وزيراً أكثر من مرة بعد الاستقلال! ادّعى الوطنية والقومية، فلما كانت الوحدة السورية المصرية هاجمها، وهاجم عبد الناصر… دبّج قصيدة في مطلع الستينيات، يمتدح فيها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بمناسبة المؤتمر الإسلامي، وكتب في مقدمة ديوانه إهداء للملك فيصل بن عبد العزيز الذي استشهد قبل أن يصلي في المسجد الأقصى، وهو الذي كان سابقاً يريد الانفصال عن سوريا، بحجة اختلاف الدين، والتعاطف مع اليهود المساكين في فلسطين.

ومما يُذكر عن بدوي الجبل أنه ذمّ وهجا حافظ الأسد والنظام الحاكم، أيام ما كان الأسد وزيرًا للدفاع، فقال قصيدته سنة 1968، “من وحي الهزيمة”، بعد هزيمة حزيران وبيع الجولان:

جَبُنَ القـادة الكبار وفـــرّوا وبكـــــى للفِــــرار جيــــــشٌ جَســـــــــور

هُزم الحاكمون- والشعب في الأصفاد فالحٌكْمُ وحده المَكســـور

 فدبّر له الأسد بسبب هذه القصيدة حادثة اختطاف عُثر  عليه بعدها فاقد الوعي على حافة الموت في إحدى المشافي في دمشق، بعد أن أطلق حافظ الأسد إنذاراً للخاطفين بإطلاق سراحه، وبقيت هوية المختطفين مجهولة، وعاش بدوي الجبل بعدها يعاني من صعوبة النطق والمشي، حتى مات.

تلك محطات كانت في سيرة بدوي الجبل بلا تفصيل، أما عن حرفته في الشعر، فهو من شعراء العربية المعاصرين المعروفين.

منير الأحمد: توفي بدوي الجبل سنة 1981، ودُفن إلى جوار والده سليمان الأحمد في السلاطة، وخلّف أربعة أولاد ذكور، اشتُهر منهم منير الذي كان شاعراً غنائيا ومذيعا في إذاعة دمشق، وقد عُثر عليه مقتولاً بشكل غامض عام 1992، وقيل إن قتله جاء على خلفية انتقاده لنظام حافظ الأسد، وبقي سبب قتله، ومن قتله مجهولاً.

محمد الأحمد (الحفيد): ولمنير ولد اسمه محمد، فهم الدرس مما جرى لجده وأبيه، وأخ جده أحمد،  فاتخذ طريق المداهنة والتلميع والانبطاح لنظام الأسد، فعمل كادراً في الجهاز الإعلامي للنظام الحاكم، من خلال مؤسسة السينما وبرنامج الفن السابع، فتمت مكافأته عام 2016 بمنصب وزير الثقافة.

 علي سليمان الأحمد: الولد الثاني لسليمان الأحمد ولد سنة 1912، درس الطب في فرنسا، وله اهتمامات دينية، ويطلقون عليه لقب (الشيخ) دلالة على أنه من مشايخ الدين، ولا يُعرف له نشاط في السياسة، من أشهر كتبه “سيرة الإمام الشيخ سليمان الأحمد”، و”العلوية بين الحقيقة والظنون”.

أحمد سليمان الأحمد: 1926-1993: الابن الثالث من الذكور لسليمان الأحمد، ولد عام 1926، وأول ظهور لأحمد الأحمد كان في ذيل الوثيقة المرفوعة للحكومة الفرنسية التي طالب فيها العلويون بالاتحاد مع سوريا بعد فشل مشروعهم للانفصال.

درس الأدب الفرنسي في سوريا، وحصل على الدكتوراه في الأدب من السوربون، ثم من أكاديمية العلوم السوفيتية. تنقل في بلدان عدة وعمل في سوريا حتى عام 1980 في مجال الإعلام والتعليم، ثم انقلب على نظام حافظ الأسد وأخيه رفعت، والتجأ إلى العراق وحمل جواز السفر الدبلوماسي العراقي، وبسبب علاقته بالعراق ومعارضته للأسد، تعرض لحادثة اغتيال في فرنسا عام 1990 بتدبير المخابرات السورية، وشارف على الموت ثم نجا، ثم بسبب جوازه العراقي أُبعد عن فرنسا غداة حرب الخليج الأولى، فانتقل إلى بلغاريا. وبحسب ما يذكر عن نفسه، فقد أسس في وقت ما (الحزب الوطني الديمقراطي) كحزب قومي يهدف إلى الثورة على حافظ الأسد بعيدًا عن المواجهة العسكرية لإسقاط النظام، وهذا الحزب في ما يبدو لم يكن له وجود إلا على الورق. وتحت مظلة المعارضة كان له علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين، لاسيما عدنان سعد الدين الذي سعى أحمد الأحمد أواخر التسعينات لجمعه مع إبراهيم ماخوس (علوي)، ولم ينجح لرفض الأخير.

كان له موقف معادٍ لحافظ الأسد ونظامه، ويعتبر –في كتاباته- الأسد خائناً وعميلاً، وبائعاً للجولان وحارساً لإسرائيل، بل هو أسوأ من إسرائيل. وكان يناصب العداء لإيران والخميني، ويسمي الحرب العراقية الإيرانية العدوان الفارسي، الذي يرجع إلى أحقاد مجوسية على العرب والإسلام. واعتبر العدوان الأمريكي على العراق حملة صليبية متصلة بالحملات الصليبية من القرون الوسطى.

كان شاعراً  كثير النظم عن موهبة، وتخصص في الأدب، استخدم شعره بشكل خاص لأغراض سياسية بحسب قناعاته. أقام السنوات الأخيرة من حياته في بلغاريا حتى عام 1993، حيث اغتيل في منزله في ظروف غامضة، اعتبر بعضهم أن لنظام حافظ الأسد يداً في موته.

وفي الختام:

فإن أسرة سليمان الأحمد مثّلت نخبة النخبة في المجتمع العلوي ثقافياً واجتماعياً، وكان هذا أحد أسباب حقد حافظ الأسد على هذه الأسرة حسداً لتميزهم ونبوغهم النسبي، أمام أسرة آل الأسد التي لم تعرف النبوغ ولا الوجاهة ولا التميز الاجتماعي، عدا عن الأصل المجهول،  فقتل حافظ الأسد معظم أفرادها ليطمس ذكرهم في المجتمع العلوي، وسواء اتفقنا مع سليمان الأحمد أو اختلفنا، فإنه كان أهم الشخصيات العلوية المعاصرة التي أخرجت العلويين من عزلتهم، وكان لجهوده مع جهود فرنسا وبعض السياسيين السنة الحمقى الدور المحوري في ظهور العلويين في الجيش ثم السياسة، بعد الاستقلال الذي أورثنا الحكم الطائفي اليوم الذي جعل العلاقات العلوية الفارسية الشيعية واقعًا عمليًا كنتيجة لهذا الحلف الذي سعى إليه سليمان الأحمد مع الشيعة منذ مطلع القرن العشرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصادر ومراجع:

ديوان بدوي الجبل

أحمد سليمان الأحمد: التغريبة

صالح عضيمة: هذا هو بدوي الجبل

عبد الرحمن الخير: يقظة المسلمين العلويين

علي سليمان الأحمد: الإمام الشيخ سليمان الأحمد

محمد المجذوب: الإسلام في مواجهة الباطنية

محمد كرد علي: خطط الشام

هاشم عثمان: بدوي الجبل آثار وقصائد مجهولة

– بالإضافة إلى مصادر علوية دينية مخطوطة

_________________________________________

من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى