الرأي العام

نوافذ الإثنين | الطعام المهاجر: المغطوطة بين حمص وسويسرا

ميخائيل سعد

كما أن الإنسان يهاجر للعثور على مكان أفضل للعيش، أو يُهجّر قسرا، كي يحتل أو يستثمر شخص آخر مكانه، كذلك يفعل الطعام؛ فهو يتبع الإنسان الذي غادر موطنه الأصلي، أو يرحل معه، سواء كان يسعى وراء حلم لم يستطع تحقيقه في بلده الأصلي، أو تمّ تهجيره. وما أن يستقر به الترحال حتى تبدأ الذاكرة بالعمل. في البداية تستحضر الذاكرة كل شيء عن الوطن المفقود، ومع مرور الزمن تبدأ بعض العناصر الجانبية بالتراجع والاختفاء من ساحة الذاكرة، وتبقى في النهاية الذكريات الجميلة والحميمية عن الوطن المتروك، كما تبقى في الذاكرة بعض الأطعمة والوجبات وتفاصيل تحضيرها وحتى روائحها.  

المغطوطة الحمصية

بين عامي 1965 و 1969، وهي سنوات دراستي في دار المعلمين، كنت وعائلتي نسكن في حمص القديمة (بني السباعي).  كنت أحتاج إلى 15 دقيقة لقطع المسافة من البيت إلى ساحة الساعة القديمة، حيث موقف الباصات التي تقلّ الطلاب إلى دار المعلمين، الواقعة على طريق حماه، شمال السجن المركزي، وللوصل إلى الباصات كان أقرب الطرق هو الذي يمر بسوق الخضار ثم سوق الصاغة، وصولا للساعة القديمة. كانت روائح الخضار والفواكه الطازجة ورائحة الخبز المنبعثة من ”التنور“ تثير الرغبة في تناول الطعام، وخاصة لدى الطلبة والعمال وأصحاب المحلات القريبة، الذين لم يتناولوا الإفطار في بيوتهم، فكانوا يجدون أن أسهل وأسرع وأرخص طعام جاهز  هي تلك التي تقدمها محلات ”المغطوطة“، المنتشرة ما بين نهاية سوق الخضار وبداية سوق الصاغة.

 كنت أحد الزبائن الذي يتناول ”مغوطة“ كل صباح، خمسة أيام في الأسبوع، بخمسة وعشرين قرشا للمغطوطة الواحدة، وغالبا كانت تُقدم مع سكر، وأحيانا مع عسل، إذا كان الزبون قادرا على دفع فرنك إضافي. كان هذا الإفطار الشهي والصحي يكلفني خمس ليرات سورية شهريا، وكان راتب الطالب في دار المعلمين 85 ليرة سورية في الشهر، هذا الراتب كان يعتبر دخلا مغريا لأبناء الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى السورية في ذلك الزمن.  

المغطوطة الحمصية إحدى ضحايا ”الحركة التصحيحية المجيدةـ!“.

ولمن لا يعرف ما هي المغطوطة وطريقة تحضيرها، إليه لمحة سريعة عن هذا الأمر: يوضع كيلو من الحليب الطازج دون غلي داخل صينية عريضة، وقليلة العمق، وتترك لمدة ثمان ساعات تقريباً في مكان معتدل الحرارة، فتتشكل طبقة من الدسم على وجه الحليب، ثم توضع أرغفة خبز التنور الساخن فوق الحليب، فتلتصق طبقة الدسم بالخبز، ثم يرفع ويوضع في صحن ويصب فوقه العسل أو السكر، حسب الطلب. وتعتبر هذه الوجبة الصباحية ماركة حمصية مسجلة.

لا أعرف بالضبط متى بدأت تتراجع هذه الوجبة في حمص إلى أن اختفت، ولكن مع الفورة الاقتصادية التي رافقت وصول حافظ الأسد للسلطة 1970، والمال الخليجي- السعودي (البترودولار) الذي تدفق على خزينة دولة الأسد، قد أدى إلى ارتفاع قيمة فروغ المحلات التجارية ارتفاعا كبيرا مما دفع بأصحاب المهن الشعبية البسيطة إلى بيع محلاتهم التجارية أو تحويلها إلى محلات تدر ربحا أكبر، وربما كانت المغطوطة الحمصية إحدى ضحايا ”الحركة التصحيحية المجيدةـ!“.

المغطوطة السويسرية

قبل حوالي شهرين كنت في زيارة إلى بيت أخي ”السويسري“؛  فنحن مثل الكثير من السوريين الذين يحمل أفراد كل بيت من بيوتهم عدة جنسيات، بفضل ”خيرات وأعطيات آل الأسد!“، وفي أحد الصباحات السويسرية المنعشة أرادت زوجة أخي إكرام سلفها الكندي، يعني أنا، فقدمت لنا ”مغطوطة“، وباعتقادها أن هذا الفطور الحمصي سيدهش سلفها الذي كان حمصيا قبل أن يكون كنديا. وبما أنني رجل مهذب، أكلت المغطوطة، التي لا علاقة لها بحمص إلا بالاسم، ومدحت مهارة زوجة أخي، وهي تستحق ذلك المديح عن جدارة، ولم أنسَ أن أقول لها: عزيزتي إخلاص، هذه مغطوطة سويسرية بطيبتها ومهارة تحضيرها، ولكنها ليست حمصية. صحيح أنها مكونة من خبز وحليب وعسل، ولكن يجب أن لا ننسَ أن الطحين السويسري غير الطحين السوري المخلوط مع مواد أخرى وديدان، والحليب كامل الدسم السوري غير الحليب السويسري منزوع الدسم، ليس عن غش، وإنما حرصا على صحة المواطنين، كما أن التنور السوري لا مثيل له في الغرب، وكما تعرفين يا زوجة أخي العزيزة أن الطعام هو في النهاية (كيمياء)، أي تغيير في أحد عناصره يـؤدي إلى تغيير في طعمه. إن المكونات التي تحتوي عليها الوجبة، من طعم ورائحة ونكهة وسياق اجتماعي وعاطفي كلها عناصر مرتبطة بتحضير الطعام. وكلامنا عن الطعام ينطبق جزئيا على الانسان أيضا. 

  هجرة الطعام

هاجر الطعام مع الإنسان أو بعده بقليل أو كثير، حسب بعد المسافة بين الوطن الأصلي والوطن الجديد وعدد المهاجرين، فقرب المسافة يجعل انتقال الطعام والمواد الغذائية سهلا، كما في تركيا ولبنان ومصر والأردن، بالنسبة للاجئين السوريين، وكثرة العدد يخلق سوقا تجاريا لتلبية حاجات هذه الجماعات. أما من وصل من اللاجئين السوريين إلى الغرب، فقد تأخرت قليلا هجرة الطعام ”الوطني“ إليهم. ومع مرور الوقت، تدخلت مجموعة عوامل في تغيير تركيب كل طبخة وبالتالي تغيير طعمها، ومع الوقت لم يبقَ منها أحيانا إلا الاسم فقط، كما حدث مع المغطوطة الحمصية التي لجأت إلى سويسرا.

أخيرا لن أكتب عن أثر الطعام على المهاجرين، ولماذا تبقى طويلا ذاكرة الطعام أو بعض أنواعه قيد التداول عند البشر الذين اقتلعوا من أوطانهم وتم نفيهم أو تهجيرهم قسرا، وعن سلبياته وإيجابياته، فهذا موضوع طويل وله جوانب متعددة: دينية ونفسية وطبية واجتماعية وسياسية وغيرها.

مونتريال في ٢٩/٧/٢٠٢٤

زر الذهاب إلى الأعلى