سيرة ذاتية سورية باللغة الفرنسية: (سر الوادي الأحمر) نارت عبد الكريم وبصمة الإنسان الغائب
أحمد صلال- العربي القديم
ليس هناك تعريف واحد متفق عليه للجنس الأدبي الذي تنضوي تحته شجرة السيرة الذاتية بكل تفرعاتها وتقاطعاتها، والاختلاف بين الباحثين حول ما يميز هذا الجنس الأدبي يجعل المرء في حيرة من أمره حول ماهية هذا الجنس الأدبي.. والحدود والآفاق التي يمكن أن يبلغها في تزاوجه مع أجناس أخرى كأدب الرحلات أو بعض صيغ القص الروائية وأشكالها.
تحذير
بحث الصحافي السوري نارت عبد الكريم في كتابه (سر الوادي الأحمر-الخارج من الزن العائد إلى الأحلام) عن كثير من معاني وجوده وما أثر في هذا الوجود وفي مساره الحياتي عموماً. وفي هذا الكتاب الصادر حديثاً باللغة الفرنسية، يتناول نارت عبد الكريم شيئا من سيرته الذاتية والسيرة الخاصة وتجربتته في السياسة والسجون والشعر والبوذية وصنف الكتاب ضمن عناوين.
استهلال
اهتمت العناوين الأولى بالسيرة الذاتية من حيث المفهوم التاريخ والمصادر والتطور، وركز على مناقشة أغلب القضايا المتعلقة بها، متخذا من مدرسة التحليل النفسي مرتكزا للتطبيق.
“ولدت في مدينة صغيرة على ضفاف نهر الفرات، مدينة صغيرة نائية وشبه معزولة عن العالم وتجاربه وخصوصا أن التلفاز نفسه بقنواته الفضائية لم يكن قد دخل بلادنا بعد، حيث لم يكن متاح لنا سوى مشاهدة قناة متلفزة واحدة تشرف عليها الحكومة وتبث من خلاله دعاياتها وأيديولوجيتها الفاشية…”.
أن تروي تجربتك التي خضتها بنفسك هو أمر مختلف تماما عن أن يرويها آخر رصدها من بعيد. تعج المكتبة الإنسانية بكتب السير الذاتية، التي تُعتبر من أكثر الكتب تداولا بين الناس وأعلاها مصداقية، ورغم أن بعض الكُتَّاب يستخدمون كتب السير الذاتية لتلميع أنفسهم وتجاربهم، فإن الكثيرين منهم التزموا الصدق الذاتي في تسجيل ما مرّوا به من مشكلات وصعوبات وطموحات ومواقف فارقة، وحتى أخطاء كبرى وقعوا فيها وتجاوزوها. هذه المصداقية تجعل هذه النوعية من الكتب كنزا ثمينا لرواد الأعمال الذين يبحثون طوال الوقت عن قصص حقيقية لرموز حقَّقوا نجاحا في عالمهم يمكنهم الاسترشاد بها في طريقهم الذي غالبا ما يكون طويلا وموحِشا.. كما أنها يمكن أن تسهم في كتابة التاريخ الحقيقي للآوطان من خلال كتابة تاريخ الأشخاص وسيرهم… وهذا ما يجعل نارت عبد الكريم ممتلئاً بسوريته ومعاناته مع التلفزيون الحكومي والأيدلوجيا الفاشية للنظام كما أسماها مثله مثل أي سوري حر… أو يطمح لأن يكون حرا
تعويذة للسفر البعيد
لكن الغريب أنه في ظل هذا الكتاب ثد نعثر على كتابات تفتقر إلى شيء من الصدق والشفافية، فهناك مَن عمل على المراوغة باستحداث أشكال جديدة استطاع من خلالها أن يمرّر سيرته، أو أصداء من هذه السيرة دون أن يكون مُلزمًا بالميثاق السيري. فظهرت كتابات تندرج تحت “رواية السيرة الذاتية”، وهي نوع من الكتابات يزاوج أصحابها بين التخييل والمرجعي، وهو ما يُعطي أصحابها القدرة على التمويه عن الشخصية الحقيقية، بالتواري خلف ضمائر تبعيد (هو/ أنت) على عكس ما يفعله ضمير التذويت (أنا) من إحداث التطابق بين الهويات الثلاث (الشخصية/ المؤلف/ الراوي).
“تحت الحجاب الحاجز
كهف
تحت الهكف غرفة مظلمة تماما
في وسط الغرفة المظلمة
تتين نائم منذ آلاف السنين”.
قوة البصمة الذاتية
لا نلمح في النص سيرة نقدية بقدر ما نلمح تداعياً حراً وشذرات هنا الآن، وشذرات هناك، وإن كان هذا التداعي الحر لا يخلو من متعة وإشراق… فما بين الماضي البعيد والقريب يتجول نارت عبد الكريم، يشكل “كولاج” من الحلم والسعادة والحرية والسجن والمرأة، يحاول أن يقول كل شيء عن كل شيء دفعة واحدة، وبشكل شخصي ذاتي لا بصمة للإنسان النقدي، ويعالج القضايا من برج عاجي، رغم محاولات فاشلة للحديث عن وقت عصيب بين الماضي والحاضر”هذا النص، في واقع الأمر، حياتي كلها، خمسون عاما من البحث عن الذات، عن الحقيقة، عن الله عن السلام”.
ولا بد من الإشارة إلى غرق النص بكم هائل من الاستشهادات والاستعارات لكتاب كبار في علم النفس والفلسفة والفكر تجعل من الكتاب ناقص الفرادة في بعض مواضعه… أعمال فرويد ويونغ، داكو واريك فروم، جاك لاكان وجاك دريدا مصطفى حجازي ومصطفى صفوان، ونيتشه في بعض أعماله، والمتصوفة الكبار من أمثال جلال الدين الرومي وابن الفارض، لاتسو من خلال عمله”التاو”.
كابوس
بقدر حديث نارت الكريم عن بوذا، كان حديثه عن ذاته التي اكتشفها في مرآة بوذا، وإن كان لا يرضي أفق توقعاتنا كقرّاء للسيرة الذاتية أو الغيرية بشكلها الكلاسيكي، بأن ننتظر من نارت عبد الكريم أن يجعلنا كقرّاء نلهث خلف حكايات عن طفولة مُعذبة، وجفاء آباء أو تحدٍّ لشظف عيش، وصولاً إلى تحقيق طموحات وآمال. وإن كان هذا المعنى مُتحققًا بشكل أو بآخر، إلا أنّه ليس الهدف الأصلي أو الحقيقي. فالهدف هو وضع ذات الرّاوي. والمرويّ عنه في مواجهة وندية في ذات الوقت، لإبراز التقاطعات بين الذاتيْن؛ وهذا ما فشل به نارت عبد الكريم.