مقامات أمريكية | عالم النحل
عشرون عاماً من تربية النحل أحالتني إلى عالم عجيب وغريب، وأستطيع القول أنها قادتني إلى فهم جديد للعالم.

د. حسام عتال – العربي القديم
مع بداية كل ربيع نضطر لتجديد بعض خلايا العسل في مزرعتنا. الخلايا تموت بسبب تناذر انهيار مستعمرات النحل (colony collapse syndrome)، المرض الذي بدأ في عام ٢٠٠٦، والذي يصيب الآن ما يقرب من ٤٠٪ من الخلايا في الولايات المتحدة. المشكلة ليست تافهة، فما يقرب من ٦٥٪ مما نأكله من الخضار والفاكهة قد تم تلقيحه بالحشرات، وغالبيتها بالنحل. هل نستطيع العيش دون هذا المقدار الطعام: دون كبة كرزية، وبامية بالبندورة واللحم، وباذنجان محشي… لا أعتقد ذلك؟
ربّى البشر نحل العسل لأكثر من ٦٠٠٠ عام، خلال هذه المدة نَعِم النحل بكمّ لا يضاهى من الحكايات الفولكلورية وقصص الأساطير، في النصوص الدينية وفي الأدب، وفي طقوس الشفاء القديمة والشعائر السحرية، وفوق كل ذلك تربع النحل عالياً في خيال الناس ووجدانهم. ونحل العسل ليس سوى نوع واحد من حوالي ٢٠ ألف نوع من النحل في العالم، وهناك أيضاً العديد من الحشرات الملقحة الأخرى، ومنها الدبابير والخنافس والذباب وغيرها من الحشرات. عالم الأحياء الأمريكي إي أو ويلسون يصف هذه الحشرات بأنها “قلب الحياة على الأرض”، فهي المجموعة الأكثر تنوعا من الحيوانات على كوكبنا، وتشمل أكثر من مليون نوع معروف (وكثير غير مصنف بعد)، وتشكل أكثر من نصف الكائنات الحية. إنها لا تلقّح معظم النباتات المزهرة فقط، بل تساعد على تفسيخ وتحليل المواد العضوية، وتلعب دورا جوهريا في الشبكات الغذائية المعقدة والمترابطة بتوازن عجيب. لولاها لتحولت الكرة الأرضية لمستنقعات أوساخ لزجة كريهة الرائحة خلال أسابيع قليلة.

حقل الزهور البرية (بعدسة كاتب المقال)
عشرون عاماً من تربية النحل أحالتني إلى عالم عجيب وغريب، وأستطيع القول أنها قادتني إلى فهم جديد للعالم ومكاني الخاص فيه. هذه المخلوقات الحساسة والمعقدة علمتني (ولا تزال) كل يوم شيئا جديدا. أثناء جلوسي بجانب الخلية، أراقب النحل يدخل ويخرج من فتحة المدخل الصغيرة إلى جوف الخلية الذي أعرف أنه كامل الظلام. كيف يرى النحل في هذا المكان؟ عندما بحثت وجدت أن النحل يملك طرق اتصال متطورة تتجاوز حاسة الرؤية، كالذوق واللمس والحرارة والاهتزازات الصوتية، لتمرير الرسائل بين أفراده. هذه النظام الاتصالي مضبوط بدقة: مثلاً بعد أن تتعرف النحلة العاملة على مصدر غذاء، تعود للخلية وتقوم برقصة (تذبذب) أمام رفيقاتها. النحلات التي شاهدت تفاصيل هذه الرقصة يمكنها الآن إيجاد الطعام، باتباع توجيهات النحلة الراقصة المحكمة، وصولا إلى المصدر الغذائي المشار إليه حتى على بعد مسافة عدة كيلومترات. هذا مذهل، أنا لا أستطيع الوصول إلى مكان ما، باتباع تعليمات الشخص الذي أشار بها لي… حتى لو كنت في دمشق!
وساهم الوافدون الجدد من النحل بشق نافذة جديدة أطللت من خلالها على ما هو خارج عالمي المحدود: بدأت ألاحظ مروج الزهور البرية بأنواعها المختلفة، وخصائصها الفريدة، وأتبع الممرات المائية التي تسقيها، وأعاني الأشجار التي تظلها؛ ناظراً ليس بيعنيّ البشريتين ولكن بعين هذه المخلوقات الصغيرة إلى الطبيعة المحيطة بي: ماذا تظن النحلة في هذه الهضبة، وكيف تتعامل مع هذا المضيق، وما الصعوبات التي تواجهها في هذا الممر، وهل تعيق طيرانها تلك المجموعة من الأشجار؟ هذا النمط من التفكير وفر ذلك لي هروبا من العالم البشري، بكل ضغوطه وتوتره واضطرابه. في الواقع، كما ذكرت، قادتني هذه التجربة إلى فهم جديد للعالم، ومكاني فيه، ومسؤوليتي تجاهه.
عندما بدأنا نربي النحل كنا نظن أننا نساعد في الحفاظ على هذا الكائن من الانقراض. الفوائد الأخرى المتمثلة بقوالب الشمع المشبع بالعسل اللذيذ التي يهدينا إياها النحل كان أمراً ثانوياً، رغم حلاوته. ولكن كما هو الحال كل مرة يحاول فيها الإنسان العمل بنية سليمة، تظهر هناك عواقب غير متوقعة. في حال تربية النحل أشارت بعض الدراسات الحديثة أن تربية نحل العسل يمكن أن تؤثر سلباً على حياة الحشرات البرية في المنطقة. فإذا نظرنا إلى حالتنا الخاصة، فنحن عندما ندخل ثلاثة خلايا في كل خلية٥٠ ألف نحلة (أي ١٥٠ ألف نحلة) للطبيعة المحيطة بنا، فهل نحن نسهم بتدمير النظم الإيكولوجية السابقة، بخلق منافسة مع أنواع الحشرات البرية في المكان؟ من الصعب التوصل إلى إجابة حازمة لهذا حتى للمختصين بعلوم البيئة. لكن بالنسبة لأشخاص مثلي الذين يربون النحل كوسيلة للحفاظ على البيئة، فإن فكرة تدمير البيئة، بحجة إصلاحها، هي بنفسها مربكة بل مؤلمة.

فندق الحشرات (بعدسة كاتب المقال)
لذلك، وبسبب الإحساس بالذنب، وهو دافع قوي كما نعرف جميعاً، فقد قمنا بتخصيص دونم كامل من أرض المزرعة للزهور البرية. جعلني هذا أشعر (أو أتمنى) بأنه قد توفر الآن مصدر طعام إضافي، ليس فقط للنحل، ولكن الحشرات الأخرى والفراشات والطيور في المنطقة. ولكي لا ننسى أنفسنا، قطعنا ممراً شيقاً خلال حقل الزهور البرية، ووضعنا مقعدين من الحديد خصصا لمن يريد أن يجلس ويستمتع بكتاب جيد، أو يتبادل أطراف الحديث وهو يشرب الشاي المعطر بالزهور المجففة (من حصاد نفس الحقل في السنة الفائتة).
هل سيكفي ذلك؟ لا أحد يدري، ماذا إذاً لو بنينا أعشاشاً كمأوى للحشرات البرية، أو ما يسمى عند المزارعين ب “فندق الحشرات”. هذا بناء بسيط جدرانه من أحجار جافة أو بلاط مكسّر أو قطع آجرية، وفي المنتصف أنابيب قديمة أو لحاء شجر أو عيدان قصب أو خيزران. تستخدم الحشرات الثقوب والفجوات لوضع اليرقات، وتعينها على الوقاية من برد الشتاء وصقيع الثلج حتى موسم التزاوج في الربيع القادم. هذا أفضل قليلاً، يمكننا الآن الاستراحة قليلاً في حقل الزهور البرية، فكما تقول زوجتي: there’s never a dull moment on the farm.