أورينت بين الرواية الشعبية والرواية الإشكالية
همام البني – العربي القديم
كان صباحاً، نشطاً أكثر من المعتاد، السؤال كان مباشراً متكرراً، لماذا أغلقت الأورينت؟
في عوالم الفلسفة والصحافة، الإجابة هي ملء الفراغ، يحتاج الإنسان الكلام، الإجابات والصفحات لملء حياته، الحقيقة تكمن دائما هناك في الأسئلة، وحدها تصنع عمق الحقائق. كيف استطاعت أورينت الاستمرار كل ذلك الزمن؟ يبدو سؤالاً أكثر منطقية.
ولدت أورينت ككائن غير منطقي، غرائبي، خارج من مختبر محاط بحقل ألغام لشابين حالمين، يملكان خليطا بين جرأة وذكاء، مراوغة واندفاع، وغريزة لا تخطئ حيال ما يريده الناس، فطرة الخلاص.
منذ اللحظة الأولى، لم يكن هناك مجالات للمقارنة، شاشة تشبه سوريا المُتخيلة في مواجهة الشاشات السورية للأب القائد.
الصراع هو الثابت الوحيد في عالم يعج بمتغيرات لا نهائية، خاضت أورينت صراعاتها على مستويات ثلاثة، صراع التغيير السوري، قدمت له وبه الكثير، كان أسهل الصراعات وأوضحها، ظهر المكان كبطل شعبي شبيه ب”الكونت دي مونت كريستو”، في رواية ألكسندر دوما الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه، شعب عاد لينتقم من غدر الزمان، كانت شاشة أولئك الأبطال الشعبيين، بمقتَلتهم، شجاعتهم، وجوههم، وقصصهم، أذكر كيف شاهدنا، آلاف المرات، ذلك الشاب الحمصي فوق سور نادي الضباط، يأخذ حقوق أجيال بقدمه. بستائر مغلقة وصوت شبه مكتوم، والكثير من الفخر، تابع أغلب السوريين أورينت، قبل أن تنزل معهم إلى الساحات والشوارع. أخذ الكائن يكبر، فجأة، بشكل مرعب حتى لمن بث فيه الروح، ظهر صراع المستوى الثاني، أكثر عمقاً وتعقيداً، مؤتمرات، سياسة، إعلام وتمويل، من يستحق ولماذا؟ تشابك العام مع الخاص، وجهة النظر مع الخبر، من أكره ومن أحب؟
مع التشظي السوري المتوقع وغير المسبوق، ظهر الصراع الأخير، بين المكان ومالكه، كان أخطر الصراعات وأصعبها، الجدوى واللاجدوى، سقف التوقعات الذي بدأ بالتحطم، المواجهات الكبرى التي لا تحتملها دول بحجمها وميزانياتها، عند هذه النقطة تحديداً، انتهت “الرواية الشعبية”، صراع الخير والشر ينتهي بالروايات فقط، دائماً لصالح الخير. شكلت “الرواية الإشكالية”، نهايات أكثر التباساً، وحالة من الحرب مع الذات والمحيط الأقرب، تعامل السوريون مع أمنيات ال ٢٠١١، باعتبارها وحدها النصر المؤزر، لو عادوا بأمنياتهم شهراً قبل ذلك التاريخ لاكتشفوا إعجاز ما حققوه.
يمكن للإنسان أن يكون حكيماً بما لا يخصه، يخصني ذلك المكان، شكل امتدادا لذاكرة عامة وخاصة. للأماكن أرواح كالبشر تماماً، ربما هي اندماج طاقاتهم، علم “الكيمياء” أو ما يعرف ب chemistry بين الأشخاص ليس وهماً، يصف العلماء كل شيء في الحياة بالحركة المستمرة التي تُسبب الذبذبات. الأفكار تُعد من أقوى وأسرع الموجات التي يُمكن قياسها، تنطلق بعدها عنان الإنجازات المشتركة، خلال عقد ونصف غيرت تلك الشاشة الكثير من السرديات وصنعت البدائل. “معضلة القنفذ”Hedgehog’s dilemma”، كانت معضلة السوريين، حالة نفسية – اجتماعية تواجه الإنسان بعد كيمياء الانجذاب، هذه طبيعة البشر، في لحظة اكتشاف الذات المنفلتة من أي سُلطة، بالرغم من وجود النوايا الحسنة أو بدونها. الفيلسوف الألماني، آرثر شوبنهاور كان أول من جاء بالمصطلح، يقول في كتاب التأملات Parerga and Paralipomena ، إنه عندما تتجمع القنافذ معاً من أجل الدفء، فإن كل واحد منهم يقوم بوخز الآخر من خلاله أشواكه، مما يضطرهم إلى الابتعاد عن بعضهم بعض، لكن هذا الابتعاد سيشعرهم بالبرد، البرد هنا سيقودهم إلى بعضهم مرة أخرى، ثم يحدث الشيء نفسه للإنسان أشواكه الطويلة أيضاً، وللشعوب المأزومة بحلول النجاة الفردية أشواك مضاعفة. يأتي على رأس الخطايا والشرور السبع في الإنجيل “الأنا Ego feelings”، أو الغرور بالمعنى الشعبي، قليل من التواضع كان ليغير أحداثاً كثيرة أصابت السوريين في عقدهم الأخير، على كل المستويات، افتقد السوريين رجال دولة من ذلك الطراز القيادي الفريد، أولئك الذين يجمعون المختلف، يتحاشون الصغائر، يدركون ديناميات الجماعة، ويحيكون علاقات إنسانية خلّاقة بفن السياسة المعقد. كان وجعنا جيلاً “كاميكازياً” عبقرياً في صناعة الأعداء، حتى من أقرب الأصدقاء، دون منطق أو أسباب موجبة.
بعد عام ٢٠١٨ أصبح المكان أكثر غضباً، يأساً، وأقل ذكاء، عندما غدا الجنون عادياً كرجل نزق، ذو شأن قديم، بنزَعات انتحارية، فقد مهارة اختراق الهوامش الذي خُلق بها.
شاهد وروى كل شيء، بالمراوغة حيناً، وبصراحة الضرورة المتوحشة أحياناً. دخل بعدها في غيبوبته بملء إرادته، في الوقت، الذي لا يملك شعب بالمنطقة، “من النهر إلى البحر” حق تقرير مصيره، كما وعدنا المدعو سموتريتش.
لأكثر من عقد صنعت أورينت ظلاً طويلاً للسوريين، أخرجتهم على امتداد عمرها، من عتمة الشمولية إلى ضوء الشمس الحارقة، بشعار مقروء “من سمع ليس كمن رأى”، ووجودي “من يبقَ بالظل لا ظل له”، اجترأت على اجتراح بدايات جديدة غير آبهة بالنهايات، بلغة أخرى، لم تقبل بما هو كائن، بل نشدت ما يجب أن يكون، اعتبرت نفسها بنت البلد، بآلامه وآماله، تجاوزت جدران الذات النظرية، وتنشقت رائحة “الوطن”، وإن كانت رائحة تزكم الأنوف أحياناً، استبدلت الحياد المصطنع بالغيّرية الموجعة، وبأكثر أوقاتها راديكالية، أو شعبوية، ليبرالية أو تقدمية، كانت أورينت بشراً من لحم ودم، قالت كلمتها الأخيرة على طريقة عالم الاجتماع الشهير كارل ماركس، عندما سُئل إذا كان يود قول شيء قبل أن يموت، فأجاب: “الحمقى فقط هم من يقولون الكلمات الأخيرة؛ لأنهم لم يتكلموا بما يكفي خلال حياتهم”.
هوامش:
*همام البني كاتب ومعد برامج سياسية واجتماعية لأكثر من ٧ أعوام في تلفزيون أورينت.
*المشرف التحريري على برنامج هنا سوريا أحد البرامج الأكثر مشاهدة في تاريخ تلفزيون أورينت الممتد بين ٢٠٠9 عام نشأته في دمشق إلى نوفمبر ٢٠٢٣ حين أعلن عن إغلاقه من إسطنبول.
*انتهت علاقته بتلفزيون أورينت كنائب رئيس التحرير لشؤون البرامج في بداية عام ٢٠١٧ بعد اختلاف على الخط التحريري مع رئيس التحرير الجديد حينها السيد أحمد كامل.
_________________________________________
من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024