سير ذاتية ومذكرات

يوم صرتُ رئيس تحرير جريدة دحنون

عبد الرزاق دحنون – العربي القديم

الفعل الناقص صار من أخوات كان، يرفع المبتدأ وينصب الخبر، بمعنى انتقل من حال إلى حال، صار الهلالُ بدراً. والخبر السار أنني صرتُ رئيس تحرير جريدة بفعل ناقص ارتكبته عن قصد وتصميم، ولكن المؤسف حقاً أن هذا الفعل الناقص لم يدُم إلا دقائق معدودات، ثمِّ سُحب مني على عجل، وصودرت ثلاثة أعداد من الجريدة التي تعبتُ في تأسيسها. وها هي ذي الحكاية:

انعقد المؤتمر المنطقي للحزب الشيوعي السوري في إدلب في تسعينيات القرن العشرين لانتخاب مندوبين إلى مؤتمر الحزب الذي سيعقد في دمشق العاصمة السورية، تخلل ذلك حوارات هادئة إلى أن تدخلت وكهربتُ الأجواء، وكان هذا ديدني في الاجتماعات الحزبية، متهماً اللجنة المنطقية بالتقصير في عملها. قامت القيامة وفار التنور. كيف أتجرأ على اتهام اللجنة المنطقية وسكرتيرها بالتقصير، بحضور أحد أعضاء المكتب السياسي والرقابة الحزبية؟ وكان دكتور الاقتصاد قدري جميل ما يزال صهر خالد بكداش (الأمين العام للحزب الشيوعي السوري). جاء إلينا من دمشق ليراقب المؤتمر المنطقي وانتخاب أعضاء إلى المؤتمر العام في دمشق، وكان عضواً أو مرشحاً في المكتب السياسي-ما عدتُ أذكر- ولكنه بالتأكيد كان عضواً في لجنة الرقابة الحزبية.

أتذكَّرُ ذلك اليوم جيداً، لأنني كنتُ موظفاً مؤقتاً -دامت الوظيفة المؤقتة ثلاث سنوات- في فرع مؤسسة الإسكان العسكري في مدينة إدلب بصفة معلم بناء، فقد ورثتُ الصنعة عن أبي راشد دحنون -رحمه الله- الذي كان نحات حجر ومعلم بناء، تعلًم الصنعة على أصولها في حلب على يد آل جنزير في خمسينيات القرن العشرين، وتعلمنا أنا وبعض إخوتي النحت والبناء على يد والدي. المهم في الأمر، وكله مهم، رفض المهندس طلب إجازتي ليوم واحد، لذلك أحضرتُ أوراقي وأعداد جريدتي إلى ورشه العمل، وكُنا نشتغل ما نزال في ترميم حديقة بيت محافظ إدلب تلك الأيام (زيد حسون) ولي معه حكاية لا يتسع المقال لذكرها في هذا المقام. ولضيق الوقت بين انتهاء وقت العمل وبدء افتتاح المؤتمر المنطقي؛ الساعة الخامسة بعد العصر، قررت أن أذهب مباشرة من مكان عملي لحضور المؤتمر. والعادة التي رافقتني كل حياتي الحزبية أنني لم أتأخر عن اجتماعي حزبي دقيقة واحدة، في الموعد المُحدد أكون حاضراً.

كنتُ ألبس شروالاً، نعم، الشروال الذي يغني له المطرب اللبناني طوني حنا: (شروال جدك يا جدي مرقع لكن بهدي) والبناؤون في العموم كانوا في تلك الأيام يرتدون شراويل بيضاء اللون، والسبب على ما أظنُّ معروف، وأتحزم بزنار أسود فوق قميص أبيض وأتلفح بكوفية أو كما نسميها في إدلب لفحة ونعني بذلك كوفيَّة، من جنس تلك التي كان يتلفح بها الفدائي الفلسطيني في منظمة “فتح” عند ياسر عرفات. هذا اللباس لفت نظر المجتمعين حين دخلتُ قاعة المؤتمر، ولمحت في عيونهم تساؤلاً: من يكون هذا الرفيق الذي يتطاير من لباسه غبار العمل؟

انتقادي كان وجهاً لوجه، فاحمرت وجوه واخضرت وجوه، والدكتور قدري جميل يُراقب المشهد صامتاً. فحوى الانتقاد أنه كانت عندنا في مدينة إدلب نشرة محلية على شكل جريدة اسمها: التقدم.  تصدر كل حين ومين عن اللجنة المنطقية للحزب ببضع صفحات لا تعرف لها راس من أساس، تقدر أن تقول بأنها تنتمي في شكلها ومضمونها وطباعتها إلى القرن التاسع عشر.

نكاية باللجنة المنطقية وسكرتيرها أحضرت معي إلى المؤتمر ثلاثة أعداد عملتها على شكل صحيفة يومية وأسميتها (جريدة دحنون)، كتبتُ كل ما فيها من الافتتاحية حتى رسم الكاريكاتير في الصفحة الأخيرة، فصرت تجد في صفحاتها تقريراً سياسياً، وتعليقات اقتصادية من مختلف المدن السورية، ومواد ثقافية من العيار الثقيل، إضافة إلى صفحة خصصتها للسخرية من كل شيء. التقط سكرتير اللجنة المنطقية الأعداد من يدي مزمجراً ناظراً في وجه هذا الرفيق الشاب الذي: (كَناطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً ليِوُهِنَها/فَلَمْ يَضِرّْها وأوْهى قَرْنَه الوعِلُ). وزاد الطين بلة أنني رفعت يدي للكلام وأمطرت اللجنة المنطقية بانتقادات حادة لا تصلح في هذا المقام، لأنه -وكما تعلمون- لكل مقام مقال. حماسة شباب ياسيدي، مع وجود أحد القيادات الحزبية من دمشق وصهر الرفيق خالد بكداش أيضاً، هذا كثير. قصدي من هذا الكلام أن أقول بأنني من أهل الحزب وأعرف مطبخه جيداً، وما يُطبخ في قدوره. وقد عشت في هذا المطبخ أمداً مديداً وهُنا تجيء الملاحظة الأولى:

يُعبِّر رجل الشارع عن رأيه ووجهة نظره بلسان فضّاح جارح، ساخراً تارة، معلّقاً تارة، شاتماً تارة أخرى. وقد تعلَّمتُ من رجل الشارع أكثر مما تعلَّمتُ من الكُتب؛ هذا أنا، لا أخضع للسائد كما كان المفكر العراقي هادي العلوي البغدادي -رحمه الله- فماذا أفعل؟  شهدت أحدهم في الشارع العام في مدينة إدلب لقبه (سيتير) بمعنى صهريج، والصورة لا تشبه اللَّقب، فقد كان نحيفاً مقرقماً. وقد سئل أعرابي ما لي أراك ضعيفاً نحيفاً؟ قال: قرقمني العزُّ. عمل صاحبنا المُلقب (سيتير) كل حياته عتالاً في ورش البناء، فيحمل على كتفه النحاتة -رمل البناء- في زنبيل على كتفه ويصعد الدرج إلى طوابق البنايات. قال مرة في جدال أمام بقالية أبي الذي ترك نحت الحجر والبناء وفتح دكان بقالة: أنا أفهم في السياسة أكثر من ديغول. وعلى فكرة قد يكون صادقاً-وعلينا أن نستمع إليه- فقد عاصر الكبار أمثال: ستالين، تشرشل، روزفلت، ديغول، نهرو، تيتو، عبد الناصر، كاسترو، خروتشوف، نيكسون.

أما عن الملاحظة الثانية والأخيرة، فخسارتي أعداد جريدتي الأولى لم تفتَّ في عُضدي، وبالتالي أُعرض عن متابعة مشروعي الكتابي ونشر ما أكتب في العديد من الصحف والمجلات العربية، بل شدَّ ذلك في عُضدي، وصار معي كما صار مع ما تزعمه العرب أن غراباً أراد ابنه أن يطير، فرأى رجلاً قد وتر سهماً وسدد ليرميه، فطار الفرخ، فقال أبوه: اتئد يا ولدي حتى تعلم ما يريد الرجل، فقال له: يا أبت الحذر قبل إرسال السهم.

زر الذهاب إلى الأعلى